الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

ملامح من النظام القضائي زمن خلافة الفاروق رضي الله عنه؛ إجراءات محكمة لإقرار العدل

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة الواحدة والخمسون

أولا: تعيين القضاة، ورزقهم، واختصاصهم القضائي:
1 ـ تعيين القضاة:
يصدر تعيين القضاة من الخليفة رأساً، فقد عيَّن عمر بن الخطَّاب شُريحاً بالكوفة. أو يكون التَّعيين من الوالي بتفويض من الخليفة، كما عين عمرو بن العاص والي مصر عثمان بن قيس بن أبي العاص قاضياً بها، فحقُّ تعيين القاضي إِلى الخليفة، إِن شاء عيَّنه بنفسه، وإِن شاء فوَّضه إِلى واليه، ولم يكن تعيين القضاء مانعاً من أن يتولَّى الخليفة القضاء بنفسه؛ لأنَّ القضاء من سلطاته، وهو الذي يعهد بالقضاء إِلى غيره، فالحقُّ الأول في القضاء إِليه، ولا يكتسب القاضي الصِّفة القضائيَّة إِلا إِذا عيَّنه الخليفة بنفسه، أو بواسطة واليه. ويجوز للخليفة أن يعزل القاضي لسببٍ من الأسباب الدَّاعية إِلى ذلك، كما إِذا زالت أهلية القاضي، وصلاحيته للحكم، أو ثبت عليه ما يخلُّ بواجب القضاء، وإن لم يجد سبباً للعزل، فالأولى ألا يعزله؛ لأنَّ القاضي معيَّنٌ لمصلحة المسلمين فيبقى ما دامت المصلحة محقَّقة. وقد عزل عمر ـ رضي الله عنه ـ بعض القضاة، وولَّى غيرهم، مثلما عزل أبا مريم الحنفي، فقد وجد فيه ضعفاً، فعزله.

2 ـ رزق القضاة:
كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يوصي الولاة باختيار الصَّالحين للقضاء، وبإِعطائهم المرتَّبات الَّتي تكفيهم، فقد كتب إِلى أبي عبيدة، ومعاذ: انظروا رجالاً صالحين، فاستعملوهم على القضاء، وارزقوهم.
وقد ذكر الدُّكتور العمري مرتَّبات بعض القضاة في عهد عمر ـ رضي الله عنه ـ وهي كالاتي: سلمان بن ربيعة الباهلي (الكوفة) 500 درهم كلَّ شهرٍ، شريح القاضي (الكوفة) 100 درهم كلَّ شهرٍ، عبد الله بن مسعود الهذلي (الكوفة) 100 درهم كلَّ شهرٍ وربع شاة كلَّ يوم، وعثمان بن قيس بن أبي العاص (مصر) 200 دينار، وقيس بن أبي العاص السَّهمي (مصر) 200 دينار لضيافته.
3 ـ الاختصاص القضائي:
كان القاضي في عصر الخلافة الرَّاشدة يقضي في الخصومات كلِّها، أيّاً كان نوعها، في المعاوضات الماليَّة، وفي شؤون الأسرة، وفي الحدود، والقصاص، وسائر ما يكون فيه الشِّجار، وليس هناك ما يشير إِلى ما يعرف اليوم بالاختصاص القضائي سوى ما جاء في تولية السَّائب بن يزيد بن أخت النَّمر من قول عمر بن الخطَّاب له: ردَّ عنِّي النَّاس في الدِّرهم، والدِّرهمين.
ويجوز أن يعهد الخليفة إِلى القاضي أن يقضيَ في قضيةٍ بعينها، وينتهي اختصاصه بالنَّظر فيها، وكان القضاة يقضون في الحقوق المدنيَّة، والأحوال الشَّخصية، أمَّا القصاص، والحدود فكان الحكم فيها للخلفاء، وأمراء الأمصار، فلا بدَّ من موافقتهم على الحكم، ثمَّ انحصرت الموافقة على تنفيذ حدِّ القتل بالخليفة وحده، وبقي للولاة حقُّ المصادقة على أحكام القصاص دون القتل، ولم يكن للقضاء مكانٌ مخصَّصٌ، بل يقضي القاضي في البيت، والمسجد. والشَّائع جلوسهم في المسجد.
ولم تكن الأقضية تسجل لقلَّتها، وسهولة حفظها، وكان بإِمكان القاضي حبس المتَّهم للتَّأنيب، واستيفاء الحقوق، وقد فعل ذلك عمر، وعثمان، وعليٌّ، فكانت الدَّولة تهيِّأى السُّجون في مراكز المدن، وكان القصاص ينفَّذ خارج المساجد.
ثانيا: صفات القاضي، وما يجب عليه:
ـ صفات القاضي:
من خلال سيرة عمر ـ رضي الله عنه ـ استنبط العلماء أهمَّ صفات القاضي المراد تعيينه:
1 ـ العلم بالأحكام الشَّرعية؛ لأنَّه سيطبِّقها على الحوادث، ويستحيل عليه تطبيقها مع الجهل بها.
2 ـ التَّقوى: فقد كتب عمر إِلى معاذ بن جبل، وأبي عبيدة بن الجرَّاح أنِ انظرا رجالاً من صالحي مَنْ قِبَلَكُم فاستعملاهم على القضاء.
3 ـ الترفُّع عمَّا في أيدي النَّاس: فقد قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: لا يقيم أمر الله إِلا من لا يصانع، ولا يضارع، ولا يتَّبع المطامع.
4 ـ الفطنة والذَّكاء: ويشترط في القاضي أن يكون فطناً ذكيّاً، ينتبه إِلى دقائق الأمور. فعن الشَّعبي: أنَّ كعب بن سُور كان جالساً عند عمر، فجاءته امرأةٌ، فقالت: يا أمير المؤمنين ما رأيت رجلاً قطُّ أفضل من زوجي، والله إِنَّه ليبيت ليله قائماً، ويظلُّ نهاره صائماً في اليوم الحرِّ ما يفطر ! فاستغفر لها، وأثنى عليها، وقال: مثلك أثنى بالخير. قال: فاستحيت المرأة، فقامت راجعةً، فقال كعب: يا أمير المؤمنين ! هلا أعديت المرأة على زوجها ؟ قال: وما شكت ؟ قال: شكت زوجها أشدَّ الشِّكاية، قال: أو ذاك أرادت ؟ قال: نعم، قال: ردُّوا عليَّ المرأة، فقال: لا بأس بالحقِّ أن تقوليه، إِنَّ هذا زعم أنَّك تشكين زوجك، إِنَّه يجنب فراشك. قالت: أجل ! إِنِّي امرأة شابَّةٌ، وإِنِّي لأبتغي ما تبغي النِّساء ! فأرسل إِلى زوجها، فجاء، فقال لكعب: اقض بينهما، قال: أمير المؤمنين أحقُّ أن يقضي بينهما، قال: عزمت عليك لتقضينَّ بينهما ! فإِنَّك فهمت من أمرهما ما لم أفهمه، قال: إِنِّي أرى كأنَّها عليها ثلاثة نسوة هي رابعتُهم، فأقضي له بثلاثة أيَّامٍ بلياليهنَّ يتعبَّد فيهن، ولها يومٌ وليلةٌ. فقال عمر: واللهِ ما رأيك الأوَّل أعجب إِليَّ من الاخر ! اذهب، فأنت قاضٍ على البصرة.
5 ـ الشِّدَّة في غير عنفٍ، واللِّين من غير ضعفٍ. قال عمر: لا ينبغي أن يلي هذا الأمر إِلا رجلٌ فيه أربع خصالٍ: اللِّين في غير ضعفٍ، والشِّدَّة في غير عنفٍ، والإِمساك في غير بخلٍ، والسَّماحة في غير سرفٍ، وقال: لا يقيم أمر الله إِلا رجلٌ يتكلَّم بلسانه كلمةً لا ينقُص غَرْبُه، ولا يطمع في الحقِّ على حدَّته.
6 ـ قوَّة الشَّخصيَّة: قال عمر: لأعزلنَّ أبا مريم، وأولِّينَّ رجلاً إِذا راه الفاجر؛ فرقه. فعزله عن قضاء البصرة، وولَّى كعب بن سور مكانه.
7 ـ أن يكون ذا مالٍ وحسب: فقد كتب عمر إِلى بعض عماله: لا تستقضينَّ إِلا ذا مالٍ، وذا حسبٍ؛ فإِنَّ ذا المال لا يرغب في أموال النَّاس، وإِن ذا الحسب لا يخشى العواقب بين النَّاس.
ما يجب على القاضي:
هناك أمورٌ بيَّنها الفاروق لا بدَّ للقاضي من مراعاتها لإِقامة صرح العدالة، منها:
1 ـ الإِخلاص لله في العمل، فقد كتب عمر إِلى أبي موسى الأشعريِّ: إِنَّ القضاء في مواطن الحقِّ يوجب الله له الأجر، ويحسن به الذُّخر، فمن خلُصت نيَّته في الحقِّ، ولو كان على نفسه؛ كفاه الله ما بينه وبين النَّاس، ومن تزيَّن بما ليس في قلبه؛ شانهُ الله، فإِنَّ الله تبارك وتعالى لا يقبل من العباد إِلا ما كان له خالصاً، وما ظنُّك بثواب غير الله في عاجل رزقه، وخزائن رحمته.
2 ـ فهم القضية فهماً دقيقاً: ودراستها دراسةً واعيةً قبل النُّطق بالحكم، ولا يجوز له النُّطق بالحكم قبل أن يتبيَّن له الحقُّ، فكتب عمر إِلى أبي موسى الأشعري: افهم إِذا أدلي إِليك. وقال أبو موسى مرَّةً: لا ينبغي لقاضٍ أن يقضي حتَّى يتبين له الحقُّ كما يتبيَّن له اللَّيل، والنَّهار، فبلغ ذلك عمر بن الخطَّاب فقال: صدق أبو موسى.
3 ـ الحكم بالشَّريعة الإِسلاميَّة: سواء كان الخصوم من المسلمين أم من غير المسلمين. فعن زيد بن أسلم أنَّ يهوديَّةً جاءت إِلى عمر بن الخطَّاب، فقالت: إِنَّ ابني هلك، فزعمت اليهود: أنَّه لا حقَّ لي في ميراثه، فدعاهم عمر، فقال: ألا تعطون هذه حقَّها ؟ فقالوا: لا نجد لها حقَّاً في كتابنا ! فقال: أفي التوراة ؟ قالوا: بل في المشناة، قال: وما المشناة ؟ قالوا: كتاب كتبه أقوامٌ علماء، وحكماء. فسبَّهم عمر، وقال: اذهبوا، فأعطوها حقَّها.
4 ـ الاستشارة فيما أشكل عليه من الأمور؛ فقد كتب عمر إِلى أحد القضاة: واستشر في دينك الَّذين يخشون الله عزَّ، وجلَّ. وكتب إِلى شريح: وإِن شئت أن تؤامرني، ولا أرى مؤامرتك إِيَّاي إِلا أسلم لك. وكان عمر كثير الاستشارة، حتَّى قال الشَّعبيُّ: مَنْ سرَّه أن يأخذ بالوثيقة من القضاء؛ فليأخذ بقضاء عمر، فإِنَّه كان يستشير.
5 ـ المساواة بين المتخاصمين، وقد كتب عمر إِلى أبي موسى الأشعري: سوِّ بين النَّاس في وجهك، ومجلسك، وعدلك، حتَّى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيفٌ من عدلك. وكتب أيضاً: اجعلوا النَّاس عندكم في الحقِّ سواءً، قريبهم كبعيدهم، وبعيدهم كقريبهم. وعندما ادَّعى أبيُّ بن كعبٍ على عمر دعوى ـ في حائطٍ ـ فلم يعرفها عمر، فجعلا بينهما زيد بن ثابت، فأتياه في منزله، فلمَّا دخلا عليه؛ قال له عمر: جئناكم لتقضي بيننا ـ وفي بيته يؤتى الحكم ـ قال: فتنحَّى له عن صدر فراشه ـ وفي روايةٍ: فأخرج له زيد وسادةً، فألقاها إِليه ـ وقال: ها هنا يا أمير المؤمنين ! فقال عمر: جُرْتَ يا زيدُ في أوَّل قضائك، ولكن أجلسني مع خصمي ! فجلسا بين يديه.
6 ـ تشجيع الضَّعيف: حتَّى يذهب عنه الخوف، ويجترأى على الكلام، فقد كتب عمر إِلى معاوية: أدنِ الضَّعيف حتَّى يجترأى قلبُه، وينبسط لسانُه.
7 ـ سرعة البتِّ في دعوى الغريب، أو تعهُّده بالرِّعاية، والنَّفقة: وقد كتب عمر إِلى أبي عبيدة: تعاهد الغريب فإِنَّه إِن طال حبسه ـ أي: طالت إِقامتُه، وبعده عن أهله من أجل هذه الدَّعوى ـ ترك حقَّه وانطلق إِلى أهله، وإِنَّما أبطل حقَّه من لم يرفع به رأساً.
8 ـ سعة الصَّدر: فقد كتب عمر إِلى أبي موسى: إِيَّاكم والضَّجر، والغضب، والقلق، والتَّأذي بالنَّاس عند الخصومة، فإِذا رأى القاضي من نفسه شيئاً من هذا، فلا يجوز له النُّطق بالحكم حتَّى يذهب عنه ذلك، لئلا يكون الدَّافع إِلى الحكم حالةً نفسيَّةً معيَّنةً، فقد كتب عمر إِلى أبي موسى الأشعري: ولا تحكم وأنت غضبان. وعن شريحٍ، قال: شرط عليَّ عمر حين ولاني القضاء ألا أقضي وأنا غضبان، وممَّا يؤدِّي إِلى ضيق الصَّدر ويدفع أحياناً إِلى الاستعجال المُخِلِّ في البتِّ في بعض القضايا الجوع، والعطش، ونحو ذلك، ولذلك قال عمر: لا يقضي القاضي إِلا وهو شبعان، ريَّان.
9 ـ تجنُّب كلِّ ما من شأنه التَّأثير على القاضي: كالرِّشوة، وتساهل التُّجار معه في البيع، والشِّراء، والهدايا، ونحو ذلك، ولذلك منع عمر القضاة من العمل بالتِّجارة، والصَّفق بالأسواق، وقبول الهدايا، والرَّشاوى، فكتب إِلى أبي موسى الأشعري: لا تبيعنَّ، ولا تبتاعنَّ، ولا تُضاربنَّ، ولا ترتشِ في الحكم. وقال شريح: شرط عليَّ عمر حين ولاني القضاء ألا أبيع، ولا أبتاع، ولا أرشى. وقال عمر: إِيَّاكم والرُّشا، والحكم بالهوى.
10 ـ الأخذ بالأدلَّة الظَّاهرة دون البحث عن النَّوايا: فقد خطب عمر بالنَّاس فكان ممَّا قال: إِنَّا كنَّا نعرفكم ورسول الله فينا، والوحي ينزل، وينبِّئنا بأخباركم، وأمَّا اليوم فإِنَّنا نعرفكم بأقوالكم، فمن أعلن لنا خيراً؛ ظننَّا به خيراً، وأحببناه عليه، ومن أعلن لنا شرَّاً؛ ظننَّا به شرَّاً، وأبغضناه عليه، وسرائركم فيما بينكم وبين الله.
11 ـ الحرص على الصُّلح بين المتخاصمين: قال عمر: ردُّوا الخصوم حتَّى يصطلحوا، فإِنَّ فصل القضاء يورث الضَّغائن بين النَّاس، فإِن عادوا بصلحٍ يتَّفق مع شرع الله أمضاه القاضي، وإِن كان صلحهم لا يتَّفق مع أحكام الشَّريعة نقضه القاضي. قال عمر: الصُّلح جائزٌ بين المسلمين إِلا صلحاً أحلَّ حراماً، أو حرَّم حلالاً، وعلى القاضي أن يحرص على الصُّلح خاصَّةً بين المتخاصمين؛ إِذا لم يتبيَّن له الحقُّ، فقد كتب عمر إِلى معاوية: احرص على الصُّلح بين النَّاس ما لم يستبن لك القضاء، أو كانت بينهم قرابةٌ، فإِنَّ فصل القضاء يورث الشَّنان.
12 ـ العودة إِلى الحقِّ: إِذا أصدر القاضي حكماً في قضيَّةٍ من القضايا ثمَّ تغيَّر اجتهاده في الحكم فيها؛ فلا يجوز له أن يجعل للاجتهاد الجديد أثراً رجعيّاً، فينقض به الحكم الَّذي أصدره قبل تغيُّر اجتهاده، كما لا يجوز لقاضٍ بعده أن ينقض الحكم الصَّادر. فعن سالم بن أبي الجعد، قال: لو كان عليٌّ طاعناً على عمر يوماً من الدَّهر؛ لطعن عليه يوم أتاه أهل نجران، وكان عليٌّ كتب الكتاب بين أهل نجران وبين النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فكثروا على عهد عمر حتَّى خافهم على النَّاس، فوقع بينهم الاختلاف، فأتوا عمر، فسألوه البدل، فأبدلهم، ثمَّ ندموا، ووقع بينهم شيءٌ، فأتوه، فاستقالوه، فأبى أن يقيلهم، فلمَّا وُلِّي عليٌّ؛ أتوه، فقالوا: يا أمير المؤمنين ! شفاعتك بلسانك، وخطُّك بيمينك. فقال عليٌّ: ويحكم ! إِنَّ عمر كان رشيد الأمر. فعمر ـ رضي الله عنه ـ رفض نقض القضاء الأوَّل الَّذي قضاه فيهم، ورفض عليٌّ ـ من بعد عمر ـ نقض القضاء الَّذي قضاه عمر فيهم.
وقد حدث كثيرٌ من التغيُّر في اجتهاد عمر في قضايا كثيرةٍ، منها الحكم في الجَدِّ مع الإِخوة، واشتراك الإِخوة لأبٍ وأمٍّ مع الإِخوة لأمٍّ في الثُّلث عندما لم يبق للإِخوة لأبٍ وأمٍّ من الميراث شيءٌ، ولم ينقل: أنَّه عاد إِلى قضائه الأوَّل، فنقضه، ولكنَّه يعمل باجتهاده الجديد في القضايا المستقبلة، ولا يمنعه حكمه القديم من اتِّباع الحقِّ إِذا لاح له، فقد كتب عمر إِلى أبي موسى الأشعريِّ: ولا يمنعك قضاءٌ قضيت به اليوم، فراجعت فيه رأيك، وهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحقَّ، فإِنَّ الحقَّ قديمٌ، ولا يبطله شيءٌ، ومراجعة الحقِّ خيرٌ من التَّمادي في الباطل، وبناءً على ذلك فقد قضى عمر بن الخطَّاب في الجَدِّ بقضايا مختلفة، وقضى في امرأةٍ توفيت، وتركت زوجها، وأمَّها، وأخويها لأبيها وأمِّها، وأخويها لأمِّها، فأشرك عمر بين الإخوة للأم والأب والأخوة لأم في الثلث، فقال له رجل: إِنك لم تشرك بينهم عام كذا، وكذا. قال عمر: تلك على ما قضينا يومئذٍ، وهذه على ما قضينا اليوم.
13 ـ تقرير البراءة للمُتَّهم حتَّى تثبت إِدانته: فعن عبد الله بن عامر، قال: انطلقتُ في ركبٍ؛ حتَّى إِذا جئنا ذا المروة؛ سُرِقت عيبةٌ لي، ومعنا رجلٌ منهم، فقال له أصحابي: يا فلان ! اردد عليه عيبته، فقال: ما أخذتُها ! فرجعت إِلى عمر بن الخطاب، فأخبرته. فقال: من أنتم ؟ فعددتُهم، فقال: أظنُّه صاحبها ـ لِلَّذي اتُّهم ـ فقلت: لقد أردت يا أمير المؤمنين اتي به مصفوداً ! قال عمر: أتأتي به مصفوداً بغير بيِّنة.
14 ـ لا اجتهاد في مورد النَّصِّ: قال عمر: ثمَّ الفهمَ الفهمَ فيما أُدلي إِليك ممَّا ورد عليك ممَّا ليس في قرانٍ، ولا سنَّة، ثمَّ قايسِ الأمور. هذا أهم ما يجب على القاضي أن يلتزم به.
15 ـ إِخضاع القضاة أنفسهم لأحكام القضاء: كان عمر ـ رضي الله عنه ـ أوَّلَ من يخضع للقضاة، وهو في ذُروة الخلافة خضوعاً يزيِّنه الرِّضا القلبي بالحكم، ويتوجَّه بالإِعجاب الواضح إِذا ما أصاب، والثَّناء الصَّادق على القاضي حتَّى ولو صدر الحكم ضدَّه، وهذا مثالٌ على ذلك، فقد ساوم عمر أعرابيّاً على فرسٍ، فركبه ليجرِّبه، فعَطِبَ الفرسُ، فقال عمر: خذ فرسك. قال الرَّجل: لا. قال عمر: فاجعل بيني وبينك حكماً، قال الرَّجل: شريح. فتحاكما إِليه، فلمَّا سمع، قال: يا أمير المؤمنين ! خذ ما اشتريت، أو ردَّ كما أخذت. فقال عمر: وهل القضاء إِلا هكذا ؟ فبعثه إِلى الكوفة قاضياً.

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022