ملامح من النظام القضائي زمن خلافة الفاروق رضي الله عنه؛ تنوع في مصادر الأحكام القضائية ودقة في إثبات الأدلة
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الثانية والخمسون
أولا: مصادر الأحكام القضائيَّة:
اعتمد القضاة في العهد الرَّاشدي على المصادر نفسها الَّتي اعتمدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقضاته، وهي: الكتاب، والسُّنَّة، والاجتهاد، ولكن ظهر في العهد الرَّاشدي أمران:
ـ تطوُّر معنى الاجتهاد، والعمل به، وما نتج عنه من مقدِّماتٍ، ووسائل، وغاياتٍ، فظهرت المشاورة، والشُّورى، والإِجماع، والرأي، والقياس.
ـ ظهور مصادر جديدةٍ لم تكن في العهد النَّبويِّ، وهي السَّوابق القضائيَّة الَّتي صدرت عن الصَّحابة من عهد خليفةٍ إِلى خليفةٍ اخر، فصارت مصادر القضاء في العهد الرَّاشدي هي: الكتاب، والسُّنَّة، والاجتهاد، والإِجماع، والقياس، والسَّوابق القضائيَّة، ويظلِّل ذلك كلَّه الشُّورى، والمشاورة في المسائل، والقضايا، والأحكام، وقد وردت نصوصٌ كثيرةٌ، ورواياتٌ عديدةٌ تؤكِّد هذه المصادر السَّابقة، ونقتطف جانباً منها:
1 ـ قال الشَّعبيُّ عن شُريحٍ: قال لي عمر: اقض بما استبان لك من كتاب الله، فإِن لم تعلم كلَّ كتاب الله؛ فاقض بما استبان لك من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإِن لم تعلم كلَّ أقضية رسول الله؛ فاقض بما استبان لك من أئمَّة المهتدين، فإِن لم تعلم كلَّ ما قضى به أئمَّة المهتدين؛ فاجتهد رأيك، واستشر أهل العلم، والصَّلاح.
2 ـ وعن ابن شهابٍ الزُّهريِّ: أنَّ عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ قال؛ وهو على المنبر: يا أيها النَّاس ! إِنَّ الرأي إِنَّما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيباً أنَّ الله كان يُريه، وإِنَّما هو منَّا الظنُّ، والتكلُّف. وروي عنه: أنَّه قال: هذا رأي عمر، فإِن يكن صواباً؛ فمن الله، وإن يكن خطأً؛ فمن عمر.
3 ـ قال ابن القيِّم: فلمَّا استخلف عمر؛ قال: إِنِّي لأستحيي من الله أن أردَّ شيئاً قاله أبو بكر. وأكَّد ذلك عمر أيضاً في كتابٍ اخر إِلى شُريحٍ، قال فيه: أنِ اقضِ بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله؛ فبسنَّة رسول الله، فإِن لم يكن في سنة رسول الله؛ فاقض بما قضى به الصَّالحون.
4 ـ وأمَّا الإِجماع؛ فإِنْ لم يجد القاضي نصَّاً في القران، والسُّنَّة؛ رجع إِلى العلماء، واستشار الصَّحابة، والفقهاء، وعرض عليهم المسألة، وبحثوا فيها، واجتهدوا، فإِن وصل اجتهادهم إِلى رأيٍ واحدٍ؛ فهو الإِجماع، وهو اتِّفاق مجتهدي عصرٍ من أمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم على أمرٍ شرعيٍّ، وهو المصدر الثَّالث من مصادر التَّشريع الإِسلامي باتِّفاق العلماء، وظهر لأوَّل مرَّةٍ في العهد الرَّاشدي، ووردت فيه نصوصٌ كثيرةٌ، وبحوثٌ طويلةٌ في كتاب الفقه، وأصول الفقه، وتاريخ التَّشريع، ولكن القضايا والمسائل الَّتي حصل فيه الإِجماع قليلةٌ، وإِنَّ إِمكانيته محصورةٌ في المدينة المنورة عاصمة الخلافة، ومجمع الصَّحابة، والعلماء، والفقهاء، وهذا يندر في الأمصار الأخرى، فمن ذلك ما روي: أنَّ ابن عباسٍ قال لعثمان ـ رضي الله عنهم ـ: الأخوان في لسان قومك ليسا إِخوة، فلم تحجب بهما الأمَّ من الثُّلث إِلى السُّدس في قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]؛ فقال: لا أستطيع أن أنقض ما كان قبلي، ومضى في البلدان، وتوارث به النَّاس. وهذا معناه: أنَّه إِجماع تمَّ قبل مخالفة ابن عباسٍ، ولا يعتدُّ بمخالفته. والإِجماع يتضمَّن ثلاثة عناصر رئيسية: المشاورة، والاجتهاد، والاتِّفاق، فإِن فُقِد عنصرٌ منها؛ لجأ القاضي إِلى المصدر التَّالي.
5 ـ السَّوابق القضائيَّة: الَّتي قضى بها السَّابقون من الخلفاء، والصَّالحين، وكبار الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ وهذا ما عبَّر عنه صراحةً عمر ـ رضي الله عنه ـ في سوابق أبي بكرٍ، وما أمر به قضاته، وولاته، كما سبق، وهذا ما بيَّنه صراحةً ابن القيِّم تحت عنوان (رأي الصَّحابة خيرٌ من رأينا لأنفسنا) وقال: وحقيقٌ بمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة أن يكون رأيهم لنا خيراً من رأينا لأنفسنا، وكيف لا ؟! وهو الرأي الصَّادر من قلوبٍ ممتلئةٍ نوراً، وإِيماناً، وعلماً، ومعرفةً، وفهماً عن الله ورسوله، ونصيحةً للأمَّة، وقلوبهم على قلب نبيِّهم، ولا واسطة بينهم وبينه، وهم ينقلون العلم والإِيمان من مشكاة النُّبوَّة غضّاً طريّاً، لم يَشُبْهُ إِشكالٌ، ولم يَشُبْهُ خلافٌ، ولم تدنِّسْه معارضةٌ، فقياس رأي غيرهم بآرائهم مِنْ أفسدِ القياس.
6 ـ القياس: لكنَّ السَّوابق القضائية قليلةٌ أيضاً، فإِن لم يجد القاضي نصّاً، ولا إِجماعاً، ولا سابقةً قضائيَّة اعتمد على الاجتهاد، كما جاء في حديث معاذ، ويأتي في أوَّليات الاجتهاد قياس مسألة لم يرد فيها نصٌّ بمسألةٍ ورد فيها نصٌّ، وهو المصدر الرَّابع للتَّشريع، والفقه، والأحكام، وهذا ما جاء في رسالة عمر ـ رضي الله عنه ـ لأبي موسى الأشعري، قال: ثمَّ قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال، ثمَّ اعمد فيما ترى إِلى أحبِّها إِلى الله، وأشبهها بالحقِّ.
7 ـ الرَّأي: فإِن لم يكن للمسألة، والقضيَّة أصلٌ من النُّصوص لتقاس عليها؛ اعتمد القاضي على الاجتهاد بالرَّأي فيما هو أقرب إِلى الحقِّ، والعدل، والصَّواب وقواعد الشَّرع، ومقاصد الشَّريعة، وهو ما تكرَّر في النُّقول السَّابقة، في رسائل عمر لشريحٍ، وغيره وكانت المشاورة، والشُّورى من أهمِّ الوسائل الَّتي يستعين بها القضاة، كما ورد في الرِّوايات، والكتب، والرَّسائل السَّابقة، هو ما أكَّده عمر ـ رضي الله عنه ـ قولاً، وفعلاً، لكثرة محبَّته للشُّورى مع فقهه، وقلَّما يُقدِم على أمرٍ إِلا بعد استشارة كبار الصَّحابة، وفقهائهم. وعن الشَّعبي، قال: كانت القضية ترفع إِلى عمر ـ رضي الله عنه ـ فربَّما يتأمَّل في ذلك شهراً، ويستشير أصحابه.
ثانيا: الأدلَّة الَّتي يعتمد عليها القاضي:
إِنَّ الأدلَّة الَّتي يعتمد عليها القاضي في إِصدار الحكم هي:
1 ـ الإِقرار، وتعتبر الكتابة نوعاً من الإِقرار.
2 ـ الشَّهادة: وعلى القاضي أن يتحقَّق من صلاحية الشُّهود لأداء الشَّهادة، فإِن لم يعرفهم هو؛ طلب منهم أن يأتوا بمن يعرفهم، فقد شهد رجل عند عمر بشهادةٍ، فقال له: لست أعرفك، ولا يضرُّك أن لا أعرفك، ائت بمن يعرفك، فقال رجلٌ من القوم: أنا أعرفه. فقال: بأيِّ شيءٍ تعرفه ؟ قال: بالعدالة، والفضل، قال: فهو جارُك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه ؟ قال: لا. قال: فهل عاملك بالدِّينار والدِّرهم اللَّذين بهما يُستدَلُّ على الورع ؟ قال: لا. قال: فرفيقك في السَّفر الَّذي يُستدلُّ به على مكارم الأخلاق ؟ قال: لا. قال: لست تعرفه.
والشَّهادة مقدَّمةٌ على اليمين سواءٌ أقامها صاحبها قبل أن يحلف خصمه اليمين، أو بعد أن يحلف اليمين، فإِذا استُحلف المدَّعى عليه على دعواه، فحلّفه القاضي على ذلك، ثمَّ أتى المدَّعي بالبينة بعد ذلك على تلك الدَّعوى، قبلت بيِّنته، وردَّت اليمين، قال عمر: اليمين الفاجرة أحقُّ أن تردَّ من البيِّنة العادلة، والمُطالَب بالشَّهادة هو المدَّعي، فقد كتب عمر إِلى أبي موسى فيما كتب: البيَّنة على المدَّعي، واليمين على من أنكر، فإِن لم يتوفر عند المدَّعي إِلا شاهدٌ واحد اعتبر بشهادته، وحلف معها المدَّعي اليمين، فقد كان عمر يقضي في المال باليمين مع الشَّاهد الواحد.
3 ـ اليمين: ولا يلجأ القاضي إِلى تحليف اليمين إِلا عند عجز المدَّعي عن إِقامة البيِّنة ومطالبة المدَّعي باليمين، فإِن حلف قضى بيمينه، وقد قضى عمر على وادعة بالقسامة فحلفوا، فأبرأهم من الدَّم، وقد تحاكم عمر، وأبي بن كعب إِلى زيد بن ثابت في نخلٍ ادَّعاه أبيٌّ، فتوجَّهت اليمين على عمر، فقال زيد: اعف أمير المؤمنين. قال عمر: ولم يعف أمير المؤمنين ؟ إِن عرفت شيئاً استحققته بيميني، وإِلا تركته، والذي لا إِله إِلا هو إِن النَّخل لَنخلي، وما لأبيٍّ فيه حقٌّ ! فلمَّا خرجا؛ وهب النَّخل لأبيٍّ. فقيل له: يا أمير المؤمنين ! هلا كان هذا قبل اليمين ؟ فقال: خفت ألا أحلف فلا يحلف النَّاس على حقوقهم بعدي، فتكون سنَّةً.
ولا يجوز لمن استحقَّت عليه اليمين أن يمتنع عنها ورعاً، وقد رأينا فيما تقدَّم كيف أنَّ عمر حلف، فلمَّا استحقَّ الحقَّ؛ تنازل عنه.
وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يغلِّظ الأيمان على بعض المتخاصمين بتحليفهم إِيَّاها في مكان يوقع الرَّهبة في نفوسهم، فلا يجرؤون على الكذب فيها، فقد حلَّف جماعةً مرَّةً في الحِجْر، واستحلف اخر بين الرُّكن، والمقام.
4ـ القيافة في قضايا إِثبات النَّسب: وهي من القرائن القويَّة الَّتي يُحكم بمقتضاها، دلَّ على ذلك سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل الخلفاء الرَّاشدين، والصَّحابة، وقد أثبت الحكم بالقيافة عمر بن الخطَّاب، وابن عباسٍ، وغيرهم.
5ـ والقرائن بابٌ واسعٌ يتفنَّن القضاة في استنباطها، ويعتبر من القرائن القويَّة قرينة الحبل للمرأة الَّتي لم يسبق لها زواجٌ، فهو يعتبر دليلاً على الزِّنى، ومثله الولادة لمدَّة أقل من مدَّة الحمل، ومنها وجود ميِّتين أحدهما فوق الاخر، فإِنَّ هذا الوضع قرينةٌ قويَّةٌ على أنَّ الذي مات أوَّلاً هو الأسفل، وأنَّ الذي مات اخراً هو الأعلى، ولذلك فقد كان عمر في طاعون عمواس إِن كانت يد أحد الميتين، أو رجله على الاخر؛ ورَّث الأعلى من الأسفل ولم يورث الأسفل من الأعلى، ومن القرائن القويَّة على شرب الخمر وجودها في القيء، وقد أقام عمر حدَّ الشُّرب على مَنْ وجدها في قيئه.
6ـ علم القاضي: لا يعتبر علم القاضي في الحدود دليلاً يخوِّل له إِصدار الحكم على المتَّهم، فقد كتب عمر إِلى أبي موسى الأشعري ألا يأخذ الإِمام بعلمه، ولا ظنِّه، ولا بشبهته، وقال لعبد الرحمن بن عوف: أرأيت لو رأيتُ رجلاً قتل، أو سرق، أو زنى، قال: أرى شهادتك شهادة رجلٍ من المسلمين، قال عمر: أصبت، وأما في غير الحدود؛ فقد اختلفت الرِّواية عن عمر في اعتبار علم القاضي حجَّةً تخوِّل القاضي الاعتماد في الحكم إِن لم يتوفَّر من الأدلَّة غيرها.
هذا وقد كان عمر ـ رضي الله عنه ـ حريصاً على عدم تشجيع النَّاس على الاعتراف بخطاياهم، بل يريد لهم السِّتر والتَّوبة فيما بينهم وبين الله تعالى، فلمَّا خطب شرحبيل بن السَّمط الكندي، وكان يتولَّى مسلحةً دون المدائن، فقال: أيها الناس ! إِنَّكم في أرضٍ الشَّراب فيها فاشٍ، والنِّساء فيها كثيرٌ، فمن أصاب منكم حدّاً، فليأتنا فلنقم عليه الحدَّ، فإِنَّه طهوره، فبلغ ذلك عمر، فكتب إِليه: « لا أحلُّ لك أن تأمر النَّاس أن يهتكوا ستر الله؛ الَّذي سترهم ». ولكن إِذا رفع النَّاس الأمر إِلى القضاء، فإِنَّ الدَّولة كانت تقيم الحدود دون هوادة.
وكان رضي الله عنه عندما يريد أن يحكم بين خصمين يدعو بهذا الدُّعاء: اللَّهم إِن كنت تعلم أنِّي أبالي إِذا قعد الخصمان على من كان الحقُّ من قريبٍ، أو بعيدٍ فلا تمهلني طرفة عين!
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf