ملامح من النظام القضائي زمن خلافة الفاروق رضي الله عنه؛ قياسٌ واجتهادٌ
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الرابعة والخمسون
أولا:فرض القيود على المُلْكِيَّة حتَّى لا يقع تعسُّفٌ في استعمالها:
ومن اجتهادات عمر الَّتي سبق بها زمانه، والَّتي تدلُّ على تغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وتفرض قيوداً على الملكيَّة حتَّى لا يقع تعسُّفٌ في استعمالها ما رواه مالكٌ في الموطأ: عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه: أنَّ الضَّحاك بن خليفة ساق خليجاً له من العريض، فأراد أن يمرَّ به في أرض محمَّد بن مسلمة، فأبى محمَّد، فقال له الضَّحَّاك: لم تمنعني، وهو لك منفعةٌ تشرب به، أولاً، واخراً، ولا يضرُّك ؟! فأبى محمَّد، فكلَّم فيه الضَّحَّاك عمر بن الخطاب، فدعا عمر بن الخطَّاب محمَّد بن مسلمة، فأمره أن يخلِّي سبيله، فقال محمَّد: لا ! فقال عمر: لم تمنع أخاك ما ينفعه، وهو لك نافعٌ تسقي به أوَّلاً واخراً، وهو لا يضرُّك ؟! فقال محمَّد: لا والله ! فقال عمر: والله ليمرنَّ به، ولو على بطنك. فأمره عمر أن يمرَّ به، ففعل الضَّحاك.
وكان هذا قياساً من عمر على حديث أبي هريرة الَّذي قال فيه: إِنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا يمنع أحدكم جاره خشبة يغرزها في جداره » ثمَّ قال أبو هريرة: مالي أراكم عنها معرضين والله لأرميَنَّ بها بين أكتافكم!
ويظهر لنا: أنَّ ما فعله عمر هو قياسٌ أولى، لأنَّ نهي النَّبي صلى الله عليه وسلم الجار أن يمنع جاره غرز خشبةٍ في جداره، هذه العملية وإِن كانت لا تضرُّ الجار فإِنَّها في ذات الوقت لا تنفع هذا الجار، في حين أنَّ مرور الماء اجتمع فيه الأمران معاً، نفع الجار، وعدم إِلحاق الضَّرر به، فهو قياسٌ أولى، وِإذا كان أحمد إِبراهيم يرى أنَّ عمر قضى في هذه النَّازلة بما يعرف اليوم بقواعد العدالة، فإِنَّ عبد السلام السُّليماني يرى: أنَّها تدخل فيما يعرف اليوم في الفقه الغربي بنظرية التَّعسُّف في استعمال الحقِّ، هذه النَّظرية الَّتي سبق إِليها المسلمون الفقه الغربيَّ بعدَّة قرون، وقد استُمِدَّت من حديث أبي هريرة سالف الذِّكر، الَّذي عمَّمه عمر في كلِّ ما يحتاج الجار إِلى الانتفاع به من دار جاره، وأرضه، وذهب اخرون إِلى أنَّه لا يجوز ذلك إِلا بإِذن جاره.
ويلاحظ على هذه النَّازلة عدَّة أمورٍ، وهي:
1ـ أنَّ هذه النَّازلة تدخل في الاجتهاد القضائي لعمر؛ لأنَّه قضى فيها بناءً على شكوى تقدَّم بها الضَّحاك إِلى عمر بعد أن امتنع محمَّد بن مسلمة من الاستجابة لما طلب منه بصفةٍ ودِّيَّةٍ، وبعد أن دُعي هذا الأخير للحضور في مجلس عمر رضي الله عنه.
2ـ أنَّ عمر لم يحكم في هذه النَّازلة جزافاً، بل إِنَّه تثبَّت في الأمر، واطَّلع على ملابسات القضيَّة، وتأكَّد من إِضرار الخصم على موقفه الرَّافض لمرور الماء في أرضه، وهو موقف لا مبرِّر له؛ لأنَّ مرور الماء لم يكن يشكِّل أيَّ ضررٍ على المدَّعى عليه، بل على العكس من ذلك كان سيعود عليه بالنَّفع المحض، ويحقِّق المصلحة المشتركة للطَّرفين معاً، وما دام الأمر كذلك فإِنَّ الامتناع عنه يشكِّل حائلاً أمام تحقيق مصلحةٍ عامَّةٍ، ويدخل في نطاق التَّعسُّف في استعمال الحقِّ، ولم يكن عمر ليتهاون في تحقيق الصَّالح العامِّ لكلِّ أفراد الأمَّة.
3ـ لايَنَ سيِّدنا عمر محمَّد بن مسلمة، وهو يخاطبه مذكراً إِيَّاه بأخوَّة الإِسلام محاولاً إِقناعه بالرُّجوع إِلى جادَّة الصَّواب، لمَّا قوبل هذا اللِّين بالرَّفض الباتِّ المشفوع بالقسم، وهو موقفٌ أبان عن تحدٍّ لأمر الخليفة، وامتناعٍ عن الانصياع لحكمه، فجاء ردُّ فعل عمر عنيفاً وفي مستوى مسؤوليَّته صوناً لهيبة الخلافة، الَّتي لم يكن يستعملها إِلا لتحقيق الصَّالح العامِّ لجماعة المسلمين، وصيانة الحقوق.
ثانيا: إِمضاؤه الطَّلاق الثَّلاث بلفظٍ واحدٍ:
عن ابن عبَّاسٍ، قال: كان الطَّلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكرٍ، وسنتين من خلافة عمر طلاق الثَّلاث واحدةً، فقال عمر بن الخطَّاب: إِنَّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم، فأمضا هعليهم. وعن أبي الصَّهباء قال لابن عبَّاسٍ: أتعلم أنَّما كانت الثلاثة تُجعل واحدةً على عهد النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكرٍ، وثلاثًا من إِمارة عمر ؟ فقال ابن عباس: نعم.
في هذين الأثرين قضى عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ بإِيقاع الطَّلاق الثَّلاث ثلاثًا، على خلاف ما كان عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعهد أبي بكرٍ الصِّدِّيق، حيث كان الطَّلاق ثلاثًا بلفظٍ واحدٍ، أو مجلسٍ واحدٍ يوقع طلقةً واحدةً. ووجهة نظر عمر في إِيقاع هذه العقوبة، والتَّعزير: أنَّ الناس أكثروا من إحداث طلاق الثَّلاثة، فأراد أن يردَّهم إِلى الطَّلاق السُّنِّي الَّذي شرعه الله، وهو إِيقاع طلقةٍ واحدةٍ، ثم يتركها حتَّى تنتهي عدَّتها، فإِن كان له رغبة في عودة وشائج الزَّوجيَّة؛ راجعها قبل انتهاء العدَّة، وهكذا حتَّى ينتهي عدد الطَّلاق الثلاث.
وهذا التَّصرف من عمر بن الخطاب اعتبره بعض النَّاس مخالفةً للنُّصوص، ومنهم الدُّكتور عطيَّة مصطفى مشرفة، حيث قال: وكان عمر جريئاً في العمل بالرَّأي، ولو خالف ذلك بعض النُّصوص، والقواعد الَّتي كانت معروفةً، ومعمولاً بها من قبل، ليكون الحكم ملائماً لأحوال المجتمع الإِسلامي الجديد، وذكر من الأمثال الَّتي ضربها إِيقاعَ الطَّلاق بلفظ الثلاث ثلاثًا.
والحقُّ: أنَّ عمر بهذا التَّصرُّف لم يخالف النُّصوص القطعيَّة، وإِنما اجتهد في فهم النُّصوص؛ إِذ له سند منها:
1ـ روى مالكٌ عن أشهب، عن القاسم بن عبد الله: أنَّ يحيى بن سعيد حدَّثه: أنَّ ابن شهابٍ حدَّثه: أنَّ ابن المسيب حدثه: أنَّ رجلاً من أسلم طلَّق امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث تطليقاتٍ، فقال له بعض الصَّحابة: إِنَّ لك عليها رجعةً، فانطلقت امرأته حتَّى وقفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن زوجي طلقني ثلاث تطليقات في كلمةٍ واحدةٍ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد بِنْتِ منه: ولا ميراث بينكما. ففي هذا الحديث أمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الطَّلاق بكلمةٍ واحدةٍ ثلاثًا.
2ـ روى النَّسائيُّ بسنده: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أُخبر عن رجل طلَّق امرأته ثلاث تطليقاتٍ جميعًا، فقام غضبان، ثمَّ قال: أيلعب بكتاب الله، وأنا بين أظهركم ؟ ! حتَّى قام رجلٌ، وقال: يا رسول الله ! ألا أقتله. ففي هذا الحديث غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على من طلَّق امرأته ثلاثًا بلفظٍ واحدٍ، وأنكر عليه، ممَّا يدلُّ على وقوعها؛ إِذ لو لم تقع الثَّلاث بلفظٍ واحدٍ ثلاثًا؛ لبيَّن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ تأخير البيان عن وقت الحاجة مع إِمكانه غير جائزٍ.
3ـ وعن نافع بن عمير بن عبد يزيد بن ركانة: أنَّ ركانة بن عبد يزيد طلَّق امرأته سهيمة ألبتَّة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وقال: والله ما أردت إِلا واحدة ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: واللهِ ما أردتَ إِلا واحدةً ؟! فقال ركانة: والله ما أردتُ إِلا واحدةً ! فردَّها إِليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلَّقها الثَّانية في زمان عمر، والثَّالثة في زمان عثمان.
ففي هذا الحديث لمَّا طلَّق ركانة زوجته ألبتَّة، وادَّعى: أنَّه لم يرد إِلا طلقةً واحدةً، استحلفه الرَّسول صلى الله عليه وسلم على أنَّه ما يريد إِلا طلقةً واحدةً، فحلف، فردَّها إِليه، ممَّا يدلُّ على أنَّه لو قصد بطلاقه البتَّة الطَّلاق الثَّلاث؛ لوقعن، وإِلا فلم يكن لتحليفه معنىً. وبعد سياق ما تقدَّم نجد: أنَّ أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ استند إِلى دليلٍ من سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنَّه بإِمضائه الثَّلاث بلفظٍ واحدٍ ثلاثاً لم يكن بدعاً من عند نفسه، كما أنَّ كثيراً من الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ وافقه فيما ذهب إِليه، كعثمان بن عفَّان، وعليِّ بن أبي طالبٍ، وعبد الله ابن عباس، وعبد الله بن مسعود، ولهم أكثر من روايةٍ، وعمران بن حصين، وعلى هذا فقضيَّة إِيقاع الطَّلاق ثلاثًا بكلمةٍ واحدةٍ، أو كلماتٍ مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثًا. أو أنت طالق، وطالق، وطالق. أو أنت طالق، ثمَّ طالق، ثمَّ طالق. أو يقول: أنت طالق ثمَّ ثلاثًا، أو عشر طلقاتٍ، أو مئة طلقةٍ، أو ألف طلقةٍ، أو نحو ذلك من العبارات مسألةٌ اجتهاديَّة للحاكم بحسب ما يرى من المصلحة في الزَّمان، والمكان أن يوقعها ثلاثًا، أو طلقةً واحدةً رجعيَّةً.
وقال ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ: لم يخالف عمر إِجماع مَنْ تقدَّمه، بل رأى إِلزامهم بالثَّلاث عقوبةً لهم؛ لما علموا: أنَّه حرام وتتابعوا فيه، ولا ريب: أنَّ هذا سائغٌ للأئمَّة أن يلزموا النَّاس بما ضيقوا به على أنفسهم، ولم يقبلوا فيه رخصةَ الله عزَّ وجل، وتسهيله.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf