الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

تقسيم الولايات زمن الفاروق رضي الله عنه؛ إجراء استراتيجي دقيق استجابة لتوسع رقعة الدولة الإسلامية

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة : السادسة والخمسون

لمَّا اتَّسعت رقعة الدَّولة الإِسلاميَّة في عهد عمر؛ قسم الدَّولة أقساماً إِداريَّةً كبيرةً؛ ليسهل حكمها والإِشراف على مواردها، وقد كانت الفتوحات سبباً رئيسيّاً في تطوير عُمَرَ لمؤسسات الدَّولة، ومن بينها مؤسَّسة الولاة ويعتبر تقسيم الولايات في عهد عمر امتداداً في بعض نواحيه لما كانت عليه في عهد أبي بكرٍ إِقليميّاً، مع وجود تغيُّراتٍ في المناصب القياديَّة لهذه الولايات في كثيرٍ من الأحيان. وإِليك نبذةً مختصرةً عن هذه الولايات.
أولاً: مكَّة المكرَّمة:
تولَّى ولاية مكَّة في عهد عمر ـ رضي الله عنه ـ مُحْرِزُ بن حارثة بن ربيعة بن عبد شمس، ثمَّ وَلِيَ مكَّةَ لعمر: قُنفذ بن عمير بن جُدعان التميمي، وشأنه شأن من سبقه؛ فلم تذكر أخبارٌ عن مدَّة ولايته لمكَّة، أو أحداثها، وبعده تولَّى مكَّة لعمر: (نافع بن الحارث الخزاعي) وقد توفي عمر ـ رضي الله عنه ـ وهو على مكَّة، وذكرت المصادر بعض الأحداث عن ولايته مكَّة، منها: شراؤه داراً من صفوان بن أميَّة بغرض جعلها سجناً، وذلك فيما رواه البخاريُّ.
وقد ورد أيضاً: أنَّ نافعاً لقي عمر بـ (عسفان) أثناء قدومه للحجِّ، فقال له عمر: من استعملت على الوادي؛ يعني: مكة ؟ قال نافع: ابن (أبزى) قال: ومن ابن أبزى ؟ قال: مولى من موالينا، فقال استعملت عليهم مولى ؟ فقال: إِنَّه قارأى لكتاب الله، عالم بالفرائض. قال عمر: أما إِنَّ نبيَّكم قال: « إِنَّ الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به اخرين». وفي عهد عمر كانت أبرز الأعمال لولاية مكَّة هي توسعة الحرم المكِّيِّ، حيث قام عمر بشراء بعض الدُّور المجاورة للحرم، وأمر بهدمها، وإِدخالها ضمن حرم المسجد، وبنى حوله جدراناً قصيرةً.
وكانت مكَّة ملتقى الأمراء، والولاة في مختلف الأصقاع بالخليفة عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ في موسم الحجِّ، وبالتَّالي كان لمكَّة دورٌ أساسيٌّ كبيرٌ كإِحدى الولايات الرَّئيسية للدَّولة الإِسلاميَّة في عهد عمر رضي الله عنه.
ثانيًا: المدينة النَّبويَّة:
يعتبر الخليفة هو الوالي المباشر للمدينة، نظراً لأنَّه كان يقيم فيها، وبالتَّالي كان يتولَّى شؤونها ويسوس أمورها، وخلال غياب الخليفة عمر عن المدينة كان يولِّي عليها من يقوم مقامه في إِدارة شؤون المدينة المختلفة، فكان عمر أحيانًا يولِّي على المدينة خلال بعض أسفاره، أو حجِّه (زيدبن ثابت رضي الله عنه كما ولَّى عمر عليَّ بن أبي طالبٍ على المدينة عدَّة مرَّات أثناء غيابه.
وهكذا فإِنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ سار على سياسة الرَّسول ، وأبي بكرٍ في الاستخلاف على المدينة في حال غيابه، وتكتسب ولاية المدينة المنورة أهمِّيَّةً سياسيَّةً متميِّزةً بين الولايات المختلفة في تلك الأيَّام لعدَّة أسبابٍ، على رأسها: أنَّها مقرُّ الخليفة عمر، ومصدر الأوامر إِلى مختلف الأقاليم الإِسلاميَّة، ومنها تنطلق الجيوش المجاهدة، يضاف لذلك: أنَّها مقرُّ إِقامة الكثير من الصَّحابة رضوان الله عليهم، والَّذين كان عمر يمنعهم من الانتشار في الأمصار، ولذلك كان يفد إِليها الكثير من طلاب العلم؛ الَّذين يريدون أن يأخذوا القران، وسنَّة الرَّسول ، وفقههما من أفواه الصَّحابة رضوان الله عليهم.
ثالثًا: الطائف:
تعتبر الطَّائف إِحدى أهم المدن الإِسلاميَّة في عهد عمر ـ رضي الله عنه ـ وكانت تمدُّ حركة الجهاد بالمقاتلين الأشدَّاء، وكان واليها منذ عهد الرسول عثمان بن أبي العاص، وأقرَّه أبو بكر على ما كان عليه، واستمرَّت ولايته على الطَّائف لمدَّة سنتين من خلافة عمر، وقد تاقت نفس عثمان بن أبي العاص إِلى الجهاد، فكتب إِلى عمر يستأذنه في الغزو، فقال له عمر: أمَّا أنا فلا أعزلك، ولكن استخلف من شئت، فاستخلف رجلاً من أهل الطَّائف مكانه، وعيَّن عمر عثمان على عُمان، والبحرين.
وقد ورد: أنَّ والي عمر على الطَّائف حين وفاته هو (سفيان بن عبد الله الثَّقفي) ، وقد كان بينه وبين عمر بن الخطاب مكاتبات تتعلَّق بأخذ الزَّكاة من الخضار، والفواكه، أو من العسل، وكلها تدلُّ على كثرة المزارع، ووفرة الإِنتاج الزِّراعي في الطَّائف أيَّام عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه. وقد ظلَّت مدينة الطَّائف وما جاورها تنعم بالاستقرار في عهد عمر رضي الله عنه. وقد كانت لأهل مكَّة متنفساً يقدمون إِليه في الصَّيف، واعتُبرت الطَّائف أحد الأمصار الرَّئيسيَّة التَّابعة للدَّولة الإسلاميَّة في عهد عمر.
رابعًا: اليمن:
عندما تولَّى عمر ـ رضي الله عنه ـ الخلافة كانت اليمن تنعم بالاستقرار، وقد ضُبطت أمورها عن طريق ولاةٍ موزَّعين في أنحاء اليمن، وقد أقرَّ عمر عمَّال أبي بكرٍ على اليمن، وكان يعلى بن أميَّة أحد ولاة أبي بكر على اليمن، وقد لمع اسمه في خلافة عمر بن الخطَّاب، وذكر المؤرخون: أنَّه ولِّيَ بعد ذلك على أنَّه والي عمر على اليمن، واشتهر بذلك حتَّى وفاة عمر رضي الله عنه.
وقد أوردت المصادر العديد من الحوادث الَّتي وقعت لوالي اليمن (يعلى بن أميَّة) مع بعض الأهالي من اليمن، إِضافة إِلى حديثها عن بعض القضايا الَّتي قدَّم أصحابها شكاوى ضدَّ يعلى أمام عمر بن الخطَّاب، ممَّا استلزم استدعاء يعلى إِلى المدينة المنوَّرة عدَّة مرَّات حقَّق خلالها عمر معه في هذه القضايا، وفي أثناء غياب يعلى كان عمر أحياناً يعيِّن مكانه من يقوم بعمله، وقد كانت بين يعلى وعمر عدَّة مكاتبات تتعلَّق بقضايا الزَّكاة، كما ذكر يعلى نفسه ضمن الولاة الذين قاسمهم عمر أموالهم في أواخر خلافته، وقد ذُكِر من ولاة اليمن لعمر عبدُ الله بن أبي ربيعة المخزومي، ولعلَّه كان على منطقةٍ محدَّدةٍ من اليمن، وهي (الجند) كما صرح بذلك الطَّبري، حيث ذكره ضمن ولاته حين وفاته؛ إِذ كان والياً لعمر على الجند بجانب ذكره ليعلى كوالٍ لليمن.
وقد لعب أهلُ اليمن دوراً رئيسيَّاً في حركة الفتوح أيَّام عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه. فاشتركوا في فتوح الشَّام، وفي فتوح العراق، ومصر، وعندما اختطَّت الأمصار الإِسلاميَّة الجديدة في العراق كالبصرة، والكوفة نزلتها الكثير من القبائل اليمنيَّة، وعلى رأسها كندة الَّتي نزلت الكوفة، كما استقرَّت أعدادٌ أخرى من القبائل اليمنيَّة بالشَّام، وكان لهم دورٌ كبيرٌ في فتوحاتها، كما سكنت مجموعةٌ منهم في مصر بعد إِنشاء الفسطاط.
ولا شكَّ أنَّ هذه الهجرات المنظَّمة من القبائل اليمنيَّة في عهد عمر قد خُطِّط لها، وقد يكون لأمراء البلدان على اليمن دورٌ كبيرٌ في هذا التَّخطيط، وفي عمليَّة توزيع القبائل على الأمصار، ومن هنا كانت اليمن من أهم الولايات الإِسلاميَّة على عهد عمر، وكان دورها وتأثيرها واضحاً بالنسبة لمختلف الولايات.
خامساً: البحرين:
عندما تولَّى عمر أمر المسلمين كان العلاء بن الحضرمي والياً على البحرين، فأقرَّه عمر في بداية خلافته والياً عليها، واستمرَّ عليها حتَّى سنة أربع عشرة على أرجح الأقوال، وقد اشترك العلاء ـ رضي الله عنه ـ في الجهاد المبكِّر في نواحي بلاد الفرس، وكان له دور رئيسيٌّ فيه، وفي أواخر فترة ولاية العلاء على البحرين أصدر عمر ـ رضي الله عنه ـ قراراً بعزل العلاء عن الولاية، ونقله إِلى ولاية البصرة، وقد كره العلاء ذلك، فتوفي قبل أن يصل البصرة، ودفن في البحرين، وقد قيل في سبب عزله: إِنَّه غزا فارس عن طريق البحرين دون إِذنٍ من عمر، وكان عمر يكره أن يحمل المسلمين في البحر، وبعد وفاة العلاء تولَّى على البحرين عثمان بن أبي العاص، فأخذ يجاهد ما يليه من نواحي بلاد فارس، حتَّى وصل في بعض فتوحه إِلى نواحي السِّند، وقد صدرت أوامر عمر ـ رضي الله عنه ـ إِلى عثمان ابن أبي العاص تأمره بالتَّعاون في فتوحه مع والي البصرة أبي موسى الأشعري، فأصبحت جيوشهما تتعاون في غزو فارس عن طريق البصرة.
وقد اشتهر عن عثمان بن أبي العاص ورعُه، وبُعْدُه عن الوقوع في الحرام، وقد تولَّى عثمان ولاية البحرين لعمر مرَّتين على الأقلِّ؛ إِذ إنَّه ولاه للمرَّة الأولى في السَّنة الخامسة عشرة ثمَّ احتاج إِليه لقيادة بعض الجيوش في نواحي البصرة، ليشترك في فتوحاتها، وقد تولَّى (عياش بن أبي ثور) البحرين بعد عثمان بن أبي العاص، ويبدو: أنَّ فترته لم تطل، ثمَّ ولَّى عمر على البحرين (قُدامة بن مظعون) رضي الله عنه؛ الَّذي صحبه أبو هريرة، وولَّى له أمر القضاء في البحرين بالإِضافة إِلى بعض المهامِّ الأخرى، وخلال فترة ولاية قُدامة للبحرين امتدحه النَّاس، إِلا أنَّه حدث في اخر ولايته أن اتُّهم ـ رضي الله عنه ـ بشرب الخمر، وبعد التَّحقيق ثبتتِ التُّهمة، فأقام الفاروق عليه الحدَّ، وقدامة بن مظعون خال أولاد عمر بن الخطاب، عبد الله، وأم المؤمنين حفصة، وقد غضب قدامة على عمر إِلا أنَّ عمر أصرَّ على إِرضائه، وكان يقول: إِنِّي رأيت رؤيا: أنَّه قد أتاني اتٍ في منامي، فقال لي: صالح قدامة، فإِنَّه أخوك، وقيل: إِنَّ عزل قدامة عن ولاية البحرين كان في سنة عشرين للهجرة، وقد تولَّى على البحرين بعد قدامة الصَّحابيُّ المعروف (أبو هريرة) رضي الله عنه، وقد كان أبو هريرة يتولَّى المسؤوليَّات في البحرين أثناء ولاية قدامة بن مظعون السَّابقة، وكان ضمن الشُّهود؛ الَّذين شهدوا على قدامة في الخمر.
وقد أصدر عمر ـ رضي الله عنه ـ أمراً بتولية أبي هريرة على البحرين بعد عزله لقدامة، وقد ولي البحرين لعمر فيما بعد عثمان بن أبي العاص الثَّقفي مرَّةً أخرى، واستمرَّ والياً عليها حتَّى توفي عمر، وقد وردت في كثيرٍ من النُّصوص ولاية البحرين مضافةً إِليها عُمان، ووردت روايات عن تولية عثمان بن أبي العاص: أنَّه وُلِّي البحرين، واليمامة.
وهذه الرِّوايات تعطينا دلالةً قويَّةً على مدى ارتباط البحرين بكلٍّ من عمان، واليمامة، وأن هذين القسمين ربما اعتبرا جزءاً من ولاية البحرين خلال عصر عمر ابن الخطَّاب رضي الله عنه.
ولا يخفى مدى الارتباط الجغرافي، والبشري بين هذين الإِقليمين وبين البحرين، وقد يفيد تعبير البحرين وما والاها الَّذي يردِّده المؤرِّخون، ووجود توابع للبحرين ربَّما كان المقصود بها عُمان، واليمامة، وقد كانت البحرين مصدراً رئيسيّاً للخراج والجزية، وهذا يدلُّ على ثراء هذه الولاية في تلك الأيَّام، وقد شاركت قبائل البحرين المسلمة، وأمراؤها في فتح بلاد فارس، والمشرق، وكان لهم دورٌ مهمٌّ في تلك الفتوح.
سادسًا: مصر:
كان عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ هو الَّذي تولَّى فتح مصر، وسيأتي تفصيل ذلك بإِذن الله عند حديثنا عن الفتوحات، وأقرَّه عمر والياً عليها، واستمرَّ في ولايته حتَّى توفي عمر بن الخطَّاب رغم اختلافه مع عمر في بعض الأحيان ـ ممَّا كان يدفع عمر إِلى التَّهديد بتأديبه، وكان عمرو هو والي مصر الرَّئيسي ـ ممَّا كان يردُ من وجود بعض الولاة الصِّغار الاخرين في مصر مثل ما ورد عن ولاية عبد الله بن أبي السَّرح على الصَّعيد إِبان وفاة الخليفة عمر، ومن الملاحظ في فترة ولاية عمرو ابن العاص لمصر في عصر عمر كثرة تدخُّل الخليفة عمر في شؤون الولاية المختلفة، وقد استفاد عمرو بن العاص من خبرة الأقباط في قضايا الخراج، والجزية، فاستخدمهم في هذا العمل.
وقد اشتهر عن عمرو منعه لجنوده من الزِّراعة، والاشتغال بها، ومعاقبة من يخالف ذلك بناءً على أوامر عمر بن الخطَّاب، وكان هذا بالطَّبع لتفريغ الجنود لأمور الجهاد، وعدم الرُّكون إِلى الدَّعة، أو الارتباط بالأرض، وقد كان للجند من الأرزاق الَّتي تصرف من بيت المال ما يغنيهم عن ذلك، وقد استطاع عمرو بن العاص بمتابعةٍ من الخليفة عمر تنظيم أمورها في سنواتٍ قليلةٍ؛ حتَّى أخذت مكانتها كولاية كبرى من ولايات الدَّولة، وجرى فيها من الأحداث ممَّا يدلُّ على استقرار أوضاع الولاية، بالرَّغم من المخاطر الَّتي كانت تحدق بها من جرَّاء محاولة الرُّوم المستمرَّة استعادتها عن طريق غزو الإِسكندرية من ناحية البحر، وقد كانت هذه الولاية أرضاً خصبةً لانتشار الإِسلام فيها في عهد الخليفة عمر نظراً لما ظهر فيها من عدلٍ بين النَّاس، ورحمةٍ لم يعهدهما أهلُها من قبلُ بالإضافة إِلى اقتناعهم بحقائق الإِسلام، وتعاليمه السَّمحة، فأصبحوا جنداً من جنوده.
وكانت الأمور الإِداريَّة في مصر تمضي بطريقةٍ بسيطةٍ؛ إِذ كان عمرو هو الوالي، وهو المسؤول عن الخراج، ولا يمنع هذا من استعانة عمرٍو ببعض الولاة على مناطق أخرى تابعةٍ له، كما مرَّ، ولكنَّ الوالي الرَّئيسي والمسؤول أمام الخليفة هو عمرو بن العاص طوال فترة حكم عمر بن الخطَّاب، وقد استفاد عمرٌو من بعض أهل البلاد في ترتيب أمور الخراج، وتنظيم شؤونها الماليَّة.

سابعًا: ولايات الشام:
حينما توفِّي أبو بكر الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ كان المسؤول عن جيوش الشَّام، وبلادها هو خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ ولمَّا تولَّى عمر ـ رضي الله عنه ـ الخلافة أصدر أمراً بعزل خالد بن الوليد عن ولاية الشَّام وتعيين أبي عبيدة بن الجرَّاح مكانه أميراً لأمراء الشَّام، ومسؤولاً مباشراً عنهم، ووالياً على الجماعة فيها.
وحينما تولَّى أبو عبيدة على الشَّام أخذ ينظم أمورها، ويعيِّن الأمراء من قبله على المناطق المختلفة فيها، وأخذ يعيد تنظيمها حيث كان على بعضها أمراء سابقون فمنهم من أقرَّه أبو عبيدة، ومنهم من عزله، يقول خليفة بن خيَّاط: فولَّى أبو عبيدة حين فتح الشَّامات يزيد بن أبي سفيان على فلسطين وناحيتها، وشرحبيل ابن حسنة على الأردن، وخالد بن الوليد على دمشق، وحبيب بن مسلمة على حمص، ثمَّ عزله، وولَّى عبد الله بن قُرط الثُّمالي، ثمَّ عزله، وولَّى عبادة بن الصَّامت، ثمَّ عزله، وردَّ عبد الله بن قُرط، وكان يبعث أحياناً بعض أصحابه لتولِّي مناطق من الشَّام لفترةٍ معيَّنةٍ، ذلك: أنَّ أبا عبيدة بعث معاذ بن جبل على الأردن، ومن ذلك إِنابته لبعض النَّاس مكانه حين كان يسافر للجهاد، فقد أناب سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل على دمشق حين خروجه إِلى بيت المقدس، وكان أبو عبيدة ـ رحمه الله ـ طوال فترة ولايته على الشَّام مثالاً للرَّجل الصَّالح، الورع؛ الذي يقتدي به بقيَّة أمرائه، ويقتدي به العامَّة، وقد استشهد كما مرَّ معنا في طاعون عمواس، ثم تولَّى بعده معاذ، فاستشهد بعده بأيَّام، وحينما علم عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ بوفاة أبي عبيدة، ووفاة معاذ من بعده عيَّن على أجناد الشام يزيد بن أبي سفيان ـ رضي الله عنه ـ وفرَّق أمراء اخرين على الشَّام، وقد كان يزيد صاحب خبرة في إِمارة الأجناد؛ إِذ كان على رأس أحد الجيوش الَّتي بعثها أبو بكر إِلى الشَّام للفتح، كما أنَّ أبا عبيدة قد استخلفه عدَّة مرَّاتٍ على دمشق أثناء غزواته.
وقد ذكر المؤرِّخون: أنَّ عمر حينما ولَّى يزيد على أجناد الشَّام حدَّد أمراء اخرين، وزَّعهم على المناطق، واختصَّ يزيد بفلسطين، والأردن، وتعتبر فترة يزيد على الشَّام قصيرةً، لذلك يقلُّ الحديث عنها في المصادر التَّاريخية، وقد توفِّي يزيد في السَّنة الثَّامنة عشرة، وقبيل وفاته استخلف أخاه معاوية بن أبي سفيان على ما كان يتولاه، وكتب إِلى عمر كتاباً في ذلك، وكانت مدَّة ولاية يزيد قريباً من السَّنة، وأقرَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ ولاية معاوية، وأجرى تعديلاتٍ في إِدارة الشَّام بعد وفاة يزيد، وقد حدَّد لمعاوية جند دمشق، وخراجها، وحدَّ من سلطات معاوية في القضاء، والصَّلاة حيث بعث إِليه برجلين من أصحاب رسول الله ، وجعلهما على القضاء، والصَّلاة، وهذا فيه تحديدٌ لسلطات معاوية خصوصاً: أن الصَّلاة وكِّلت إِلى غيره، وكان الأمير في العادة هو أمير الصَّلاة.
ولعلَّ هناك أسباباً دفعت عمر إِلى هذه السِّياسة الجديدة؛ الَّتي بدأت تظهر في الأقاليم الأخرى، وبالأسلوب نفسه الَّذي نهجه مع معاوية تقريباً، وقد اشتهر معاوية بالحلم، والبذل ممَّا جعل مجموعاتٍ من النَّاس تلحق بولايته من العراق، وغيرها، وقد قام عمر بتعيين بعض الأمراء في الشَّام، وجعل ولايتهم من قبل معاوية، وخلال ولاية معاوية على بلاد الشَّام كان في بعض الأحيان يقوم ببعض الغزوات ضدَّ الرُّوم في شمال الشَّام، وهي ما عرفت بالصَّوائف.
وقد استمرَّ معاوية والياً على الشَّام بقيَّة عصر عمر حتَّى وفاته ـ رضي الله عنه ـ مع وجود أمراء اخرين في مناطق معيَّنة من الشَّام لهم اتِّصالهم المباشر بالخليفة في المدينة المنوَّرة، إِلا أنَّ معاوية يُعتبر أشهرهم، حيث كان والياً على البلقاء، والأردن، وفلسطين، وأنطاكية، وقلقيلية، ومعرَّة مصرين، وغيرها من مدن الشَّام، وقد سمَّاه بعض المؤرِّخين: والي الشام بينما تحفَّظ بعضهم، فقالوا حين ذكروا ولاة عمر: ومعاوية بن أبي سفيان على بعض الشام، ولكن بعضهم ذكر: أنه قبل موت عمر جمع الشام كلَّها لمعاوية بن أبي سفيان.
ولابدَّ من التنبيه على أنَّ الولايات كانت تجري فيها تغييراتٌ مستمرةٌ تبعاً للظروف العسكرية والظروف العامة للدولة في تلك الأيام، فكانت الأردن أحياناً تستقل وأحياناً تضم لها أقاليم وأحياناً تنزع منها أقاليم وتضم إِلى الشام أو إِلى فلسطين إِلى غير ذلك ممَّا لا يتسع المقام لذكره.

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022