قواعد الفاروق رضي الله عنه في اختيار الولاة... شروط متنوعة وضوابط صارمة
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الثامنة والخمسون
سار الفاروق ـ رضي الله عنه ـ على المنهج النَّبوي الشَّريف في اختيار الولاة، فكان لا يولِّي إِلا الأكفاء، والأمناء، والأصلح من غيرهم على القيام بالأعمال، ويتحرَّى في الاختيار، والمفاضلة غاية جهده، ولا يستعمل مَنْ يطلب الولاية، وكان يرى: أنَّ اختيار الولاة من باب أداء الأمانات، بحيث يجب عليه أن يعيِّن على كلِّ عملٍ أصلح مَنْ يجده، فإِن عدل عن الأصلح إِلى غيره مع عدم وجود ما يبرِّر ذلك؛ يكون قد خان الله، ورسوله، والمؤمنين.
ومن أقواله في هذا الشَّأن: وأنا مسؤولٌ عن أمانتي، وما أنا فيه، ومطلعٌ على ما يحضرني بنفسي إِن شاء الله، لا أكله إِلى أحدٍ، ولا أستطيع ما بعد منه إِلا بالأمناء وأهل النُّصح منكم للعامَّة، ولست أجعل أمانتي إِلى أحدٍ سواهم.
وقال رضي الله عنه: من قلَّد رجلاً على عصابةٍ وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله، وخان رسوله، وخان المؤمنين. وقال أيضاً: من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولَّى رجلاً لمودَّةٍ، أو قرابةٍ بينهما؛ فقد خان الله، ورسوله، والمسلمين.
أهمُّ قواعد عمر في تعيين الولاة، وشروطه عليهم:
1 ـ القوَّة والأمانة:
وقد طبَّق الفاروق ـ رضي الله عنه ـ هذه القاعدة، ورجَّح الأقوى من الرِّجال على القويِّ، قد عزل عمر شرحبيل بن حسنة وعيَّن بدله معاوية. فقال له شرحبيل: أعن سخطةٍ عزلتني يا أمير المؤمنين ؟! قال: لا ! إِنَّك لكما أحبُّ، ولكنِّي أريد رجلاً أقوى من رجلٍ. ومن أجمل ما أُثر عن عمر في هذا المعنى قوله: الّلهُمَّ إِنِّي أشكو إِليك جَلَدَ الفاجر، وعجز الثِّقة !
2 ـ مقام العلم في التَّولية:
وقد جرى عمر الفاروق على سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تولية أمراء الجيوش خاصَّةً. قال الطَّبري: إِنَّ أمير المؤمنين كان إِذا اجتمع إِليه جيشٌ من أهل الإِيمان؛ أمَّر عليهم رجلاً من أهل الفقه، والعلم.
3 ـ البصر بالعمل:
كان عمر بن الخطَّاب يستعمل قوماً، ويدع أفضل منهم لبصرهم بالعمل، والتَّفضيل هنا إِنَّما يعني: أن أولئك الَّذين تركهم عمر، كانوا أفضل ديناً، وأكثر ورعاً، وأكثر أخلاقاً، ولكنَّ خبرتهم في تصريف الأمور أقلُّ من غيرهم، فليس من الضَّروري أن يجتمع الأمران كلاهما معاً، وهذه القاعدة الَّتي وضعها عمر ما زالت متَّبعةً حتَّى اليوم في أرقى الدُّول، ذلك بأنَّ المتديِّن، الورع، الخلوق إِذا لم تكن له بصيرةٌ في شؤون الحكم قد يكون عرضةً لخديعة أصحاب الأهواء، والمضلِّلين، أمَّا المحنَّك المجرِّب؛ فإِنَّه يعرف من النَّظرة السَّريعة معاني الألفاظ، وما وراء معاني الألفاظ، وهذا السَّبب نفسه هو الذي دعا عمر بن الخطاب أيضاً لاستبعاد رجلٍ لا يعرف الشَّرَّ، فلقد سأل عن رجلٍ أراد أن يولِّيه عملاً، فقيل له: يا أمير المؤمنين ! إِنَّه لا يعرف الشَّرَّ. قال عمر لمخاطبه: ويحك ! ذلك أدنى أن يقع فيه.
وهذا لا يعني أن يكون العامل غير متَّصفٍ بالقوَّة، والأمانة، والعلم، والكفاية، وغيرها من الصِّفات الَّتي يستلزمها منطق الإِدارة، والحكم، وإِنَّما يقع التَّفاضل بين هذه الصِّفات، ويكون الرُّجحان لما سمَّاه عمر بن الخطَّاب: البصر بالعمل.
4 ـ أهل الوبر، وأهل المدر:
وكان عمر ينظر حين تعيينه أحد عمَّاله إِلى بعض الخصائص، والطِّباع، والعادات، والأعراف، فلقد عرف: أنَّه كان ينهى عن استعمال رجلٍ من أهل الوبر على أهل المدر. وأهل الوبر: هم ساكنو الخيام، وأهل المدر: هم ساكنو المدن، وهذه نظرةٌ اجتماعيَّةٌ سلوكيَّةٌ في انٍ معاً في اختيار الموظَّفين، فلكلٍّ من أهل الوبر، والمدر طبائعُ، وخصائص، وأخلاق، وعادات، وأعراف مختلفة، ومن الطَّبيعي أن يكون الوالي عارفاً بنفسيَّة الرَّعيَّة، وليس من العدل أن يتولَّى أمرها رجلٌ جاهلٌ بها، فقد يرى العرف نكراً، وقد يرى الطَّبيعي غريباً، فيؤدِّي ذلك إِلى غير ما يتوخَّاه المجتمع من أهدافٍ يسعى إِلى تحقيقها.
5 ـ الرَّحمة، والشَّفقة على الرَّعية:
كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يتوخَّى في ولاته الرَّحمة، والشَّفقة على الرَّعيَّة، وكم من مرَّةٍ أمر قادته في الجهاد ألا يغرِّروا بالمسلمين، ولا ينزلوهم منزل هلكةٍ. وكتب عمر لرجلٍ من بني أسلم كتاباً يستعمله به، فدخل الرَّجل على عمر، وبعض أولاد عمر في حجر أبيهم يقبِّلهم، فقال الرَّجل: تفعل هذا يا أمير المؤمنين ؟! فوالله ما قبَّلت ولداً لي قطُّ ! فقال عمر: فأنت والله بالنَّاس أقلُّ رحمةً ! لا تعمل لي عملاً، وردَّه عمر ! فلم يستعمله.
وغزت بعض جيوشه بلاد فارس حتَّى انتهت إِلى نهرٍ ليس عليه جسرٌ، فأمر أمير الجيش أحد جنوده أن ينزل في يومٍ شديد البرد لينظر للجيش مخاضةً يعبر منها، فقال الرَّجل: إِنِّي أخاف إِنْ دخلت الماء أن أموت، فأكرهه القائد على ذلك، فدخل الرَّجل الماء وهو يصرخ: يا عمراه ! يا عمراه ! ولم يلبث أن هلك، فبلغ ذلك عمر، وهو في سوق المدينة. فقال: يا لبيكاه ! يا لبيكاه ! وبعث إِلى أمير ذلك الجيش، فنزعه، وقال: لولا أن تكون سنَّةً؛ لأقدت منك، لا تعمل لي على عملٍ أبداً.
وخطب عمر ولاته، فقال: اعلموا: أنَّه لا حلم أحبُّ إِلى الله تعالى، ولا أعمُّ من حلم إِمام، ورفقه. وأنَّه ليس أبغض إِلى الله، ولا أعمَّ من جهل إِمامٍ، وخَرَقِه، واعلموا: أنَّه من يأخذ بالعافية فيمن بين ظهرانيه؛ يرزق العافية ممَّن هو دونه.
6 ـ لا يولِّي أحداً من أقاربه:
كان عمر حريصاً على ألا يولِّي أحداً من أقاربه رغم كفاية بعضهم، وَسَبْقِهِ إِلى الإِسلام، مثل سعيد بن زيد ابن عمِّه، وعبد الله بن عمر ابنه، وقد سمعه رجلٌ من أصحابه يشكو إِعضال أهل الكوفة به في أمر ولاتهم. وقول عمر: لوددت أنِّي وجدت رجلاً قويَّاً، أميناً، مسلماً أستعمله عليهم. فقال الرَّجل: أنا والله أدلُّك عليه ! عبد الله بن عمر. فقال عمر: قاتلك الله ! والله ما أردت اللهَ بهذا! وكان يقول: من استعمل رجلاً لمودَّةٍ، أو لقرابةٍ لا يشغله إِلا لذلك؛ فقد خان الله، ورسوله.
7 ـ لا يعطي الولاية مَنْ يطلبها:
كان لا يولِّي عملاً لرجلٍ يطلبه، وكان يقول في ذلك: من طلب هذا الأمر؛ لم يُعَنْ عليه، وقد سار على هذا النهج اقتداءً بسنَّة الرَّسول صلى الله عليه وسلم.
8 ـ منع العمال من مزاولة التِّجارة:
كان عمر يمنع عمَّاله، وولاته من الدُّخول في الصفقات العامَّة سواءٌ أكانوا بائعين، أو مشترين، روي: أنَّ عاملاً لعمر بن الخطَّاب اسمه الحارث بن كعب بن وهب، ظهر عليه الثَّراء، فسأله عمر عن مصدر ثرائه، فأجاب: خرجت بنفقةٍ معي، فاتَّجرت بها. فقال عمر: أما والله ما بعثناكم لتتَّجروا، وأخذ منه ما حصل عليه من ربحٍ.
9 ـ إِحصاء ثروة العمَّال عند تعيينهم:
كان عمر يحصي أموال العمَّال، والولاة قبل الولاية، ليحاسبهم على ما زادوه بعد الولاية ممَّا لا يدخل في عداد الزِّيادة المعقولة، وَمَنْ تعلَّل منهم بالتِّجارة لم يقبل منه دعواه، وكان يقول لهم: إِنَّما بعثناكم ولاة، ولم نبعثكم تجَّاراً.
10 ـ شروط عمر على عماله:
كان عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ إِذا استعمل عاملاً؛ كتب عليه كتاباً، وأشهد عليه رهطاً من الأنصار: ألا يركب برذوناً، ولا يأكل نقيَّاً، ولا يلبس رقيقاً، ولا يغلق بابه دون حاجات المسلمين، ثم يقول: اللَّهُمَّ فاشهدْ.
وهذه الشُّروط تعني: الالتزام بحياة الزُّهد، والتَّواضع للناس، وهي خطوةٌ أولى في إِصلاح الأمَّة بحملها على التوسُّط في المعيشة، واللِّباس، والمراكب، وبهذه الحياة التي تقوم في الاعتدال تستقيم أمورها، وهي خطَّةٌ حكيمةٌ، فإِنَّ عمر لا يستطيع أن يلزم جميع أفراد الأمَّة بأمرٍ لا يعتبر واجباً في الإِسلام، ولكنَّه يستطيع أن يلزم بذلك الولاة والقادة، وإِذا التزموا فإِنَّهم القدوة الأولى في المجتمع، وهي خطَّةٌ ناجحةٌ في إِصلاح المجتمع، وحمايته من أسباب الانهيار.
11 ـ المشورة في اختيار الولاة:
كان اختيار الولاة يتمُّ بعد مشاورة الخليفة لكبار الصَّحابة، فقد قال رضي الله عنه لأصحابه يوماً: دلُّوني على رجلٍ إِذا كان في القوم أميراً؛ فكأنه ليس بأميرٍ، وإِذا لم يكن بأميرٍ فكأنَّه أمير. فأشاروا إِلى الرَّبيع بن زياد.
وقد استشار عمر ـ رضي الله عنه ـ الصَّحابة فيمن يولِّي على أهل الكوفة، فقال لهم: من يعذرني من أهل الكوفة، ومن تجنِّيهم على أمرائهم، إِن استعملت عليهم عفيفاً؛ استضعفوه، وإِنِ استعلمت عليهم قويَّاً فجَّروه. ثمَّ قال: أيها النَّاس ! ما تقولون في رجلٍ ضعيفٍ غير أنَّه مسلمٌ تقيٌّ، واخر قويٌّ مشدِّدٌ أيُّهما الأصلح للإِمارة ؟ فتكلَّم المغيرة بن شعبة، فقال: يا أمير المؤمنين ! إِن الضَّعيف المسلم إِسلامه لنفسه، وضعفه عليك، وعلى المسلمين، والقويُّ المشدِّد فشداده على نفسه، وقوَّته لك، وللمسلمين، فأعمل في ذلك رأيك. فقال عمر: صدقت يا مغيرة ! ثم ولاه الكوفة، وقال له: انظر أن تكون ممن يأمنه الأبرار، ويخافه الفجَّار، فقال المغيرة: أفعل ذلك يا أمير المؤمنين!
12 ـ اختبار العمال قبل التَّولية:
كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يختبر عمَّاله قبل أن يولِّيهم، وقد يطول هذا الاختبار كما يوضحه الأحنف بن قيس حين قال: قدمت على عمر بن الخطَّاب ـ رضوان الله عليه ـ فاحتبسني عنده حولاً، فقال: يا أحنف ! قد بلوتُك، وخبرتك، فرأيت أنَّ علانيتك حسنةٌ، وأنا أرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك، وإِنَّا كنَّا نتحدَّث: إِنَّما يهلك هذه الأمَّة كلُّ منافقٍ عليهم. ثمَّ قال له عمر: أتدري لم احتبستك ؟ وبيَّن له: أنَّه أراد اختباره، ثم ولاه.
ومن نصائح عمر للأحنف: يا أحنف! من كثر ضحكه؛ قلَّت هيبته، ومن مزح؛ استُخِفَّ به، ومن أكثر من شيء؛ عُرف به، ومن كثر كلامه؛ كثر سقطه، ومن كثر سقطه، قل حياؤه؛ ومن قلَّ حياؤه، قل ورعه، ومن قلَّ ورعه؛ مات قلبه.
13 ـ جعل الوالي من القوم:
من الملاحظ: أنَّ عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ كان في كثيرٍ من الأحيان يولِّي بعض النَّاس على قومهم إِذا رأى في ذلك مصلحةً، ورأى الرَّجل جديراً بالولاية، ومن ذلك توليته « جرير بن عبد الله البجلي » على قومه بجيلة، حينما وجَّههم إلى العراق، وكذلك تولية سلمان الفارسي على المدائن، وتولية نافع بن الحارث على مكَّة، وعثمان بن أبي العاص على الطَّائف، ولعلَّه كان يرمي من وراء ذلك إِلى أهدافٍ معيَّنةٍ يستطيع تحقيقها ذلك الشَّخص أكثر من غيره.
14 ـ المرسوم الخلافي:
وقد اشتهر عن عمر ـ رضي الله عنه ـ: أنَّه حينما كان ينتهي من اختيار الوالي، واستشارة المستشارين؛ يكتب للوالي كتاباً يسمَّى عهد التَّعيين، أو الاستعمال عند كثيرٍ من المؤرخين، ويمكننا أن نسمِّيه مجازاً (المرسوم الخلافي في تعيين العامل، أو الأمير) وقد وردت العديد من نصوص التَّعيين لعمَّال عمر.
ولكنَّ المؤرِّخين يكادون يتَّفقون على أنَّ عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ كان إِذا استعمل عاملاً؛ كتب له كتاباً، وأشهد عليه رهطاً من المهاجرين، والأنصار، واشترط عليه شروطاً في الكتاب، كما قد يكون الشَّخص المرشَّح للولاية غائباً، فيكتب له عمر عهداً يأمره فيه بالتوجُّه إِلى ولايته، ومثال ذلك كتابه إِلى العلاء الحضرمي عامله على البحرين، أمره بالتوجُّه إِلى البصرة لولايتها بعد عتبة بن غزوان، كما أنَّه في حال عزل أميرٍ وتعيين اخر مكانه فإِنَّ الوالي الجديد كان يحمل خطاباً يتضمَّن عزل الأول، وتعيينه مكانه، وذلك مثل كتاب عمر مع أبي موسى الأشعري حين عزل المغيرة بن شعبة عن ولاية البصرة، وعيَّن أبا موسى مكانه.
15 ـ لا يستعين بنصرانيٍّ على أمور المسلمين:
قدم على عمر فتحٌ من الشَّام، فقال لأبي موسى: ادع كاتبك يقرأه على النَّاس في المسجد. قال أبو موسى: إِنَّه لا يدخل المسجد. قال عمر: لم ؟ أجنب هو ؟ قال: لا، ولكنه نصرانيٌّ، فانتهره عمر، وقال: لا تدنوهم؛ وقد أقصاهم الله، ولا تكرموهم؛ وقد أهانهم الله، ولا تأمنوهم، وقد خوَّنهم الله، وقد نهيتكم عن استعمال أهل الكتاب، فإِنَّهم يستحلون الرَّشوة. وعن أسق قال: كنت عبداً نصرانيّاً لعمر، فقال: أسلم حتَّى نستعين بك على بعض أمور المسلمين؛ لأنَّه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمورهم بمن ليس منهم، فأعتقني لما حضرته الوفاة، وقال: اذهب حيث شئت.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf