تقسيم ولايات العراق وفارس زمن الفاروق رضي الله عنه
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة : السابعة والخمسون
كانت الفتوحات قد بدأت في العراق أيام أبي بكر رضي الله عنه، وكانت في البداية تحت إِمارة المثنَّى بن حارثة الشَّيباني إِلى أن قدم خالد بن الوليد إِلى العراق، فجعل الولاية له، فلمَّا أمره بالمسير إِلى الشام أعاد أبو بكر الولاية مرةً أخرى إِلى المثنَّى بن حارثة، وحينما تولَّى الخلافة عمر بن الخطاب عزل المثنَّى وعيَّن أبا عبيد بن مسعود الثَّقفي، وكان عزل المثنَّى في الوقت نفسه الذي عزل فيه خالدًا، ممّا أثار استغراب الناس فقال عمر: إِني لم أعزلهما في ريبة ولكن الناس عظموهما فخشيت أن يوكلوا إِليهما، ومع عزل المثنَّى فقد كان جنديّاً مخلصاً اشترك مع أبي عبيدة في معظم معاركه، وأبلى بلاءً حسناً.
وبعد استشهاد أبي عبيد عاد المثنَّى إِلى القيادة، ثمَّ تولَّى قيادة جيوش العراق سعد بن أبي وقَّاص، وقد انتقضت على المثنَّى جراحه؛ الَّتي أصابته يوم الجسر، فمرض منها، ومات قبل أن يصل سعد بن أبي وقَّاص إِلى العراق، فقد كانت البصرة قد بدأت بالظُّهور على مسرح الأحداث كولاية قبيل معركة القادسيَّة، إِلا أنَّ انتصار القادسيَّة، وسقوط المدائن في يد المسلمين يعتبر بداية مرحلةٍ جديدةٍ، وقويَّةٍ في بلاد العراق، بدأ فيها تنظيم الولايات يأخذ شكلاً معيَّناً، وبارزاً تتَّضح فيه الملامح العامَّة سواءٌ في ولاية البصرة، أو ولاية الكوفة، وما أُلحق بكلٍّ منهما من المدن والقرى؛ الَّتي كانت تتبع كلاًّ منهما من أقاليم فارس، والعراق، أو ما استقلَّ عنهما من الولايات في بلاد فارس.
ولاية البصرة:
وجَّه عمر بن الخطَّاب إِلى نواحي البصرة قبل إِنشائها شريح بن عامرٍ، أحد بني سعد بن بكر مدداً لقطبة بن قتادة، ثمَّ ولاه عمر في نواحي البصرة، وقُتل في إِحدى المعارك، ثمَّ قام عمر بن الخطاب بإِرسال عتبة بن غزوان إِلى نواحي البصرة مع مجموعةٍ من الجند، وولاه عليها، وذلك في السَّنة الرَّابعة عشرة، وليس في السَّادسة عشرة كما يرجِّح ذلك صالح أحمد العلي؛ إِذ يقول: ويزعم بعض المؤرِّخين: أنَّ عتبة أرسل سنة 16 هـ بعد معركة القادسيَّة أو جلولاء، ولكنَّ الأغلبية المطلقة من المؤرِّخين يؤكِّدون: أنَّه أرسل سنة 14 هـ ممَّا يجعلنا نرجح روايتهم.
وقد كانت مرحلة ولاية عتبة على البصرة مرحلةً تأسيسيَّةً وهامَّةً في حياة هذه الولاية، فقد كانت حافلةً بالعديد من الأعمال الجليلة، ومنها مجموعةٌ من الفتوح قام بها في بلاد الفرس القريبة منه على ضفَّتي دجلة والفرات، وقد استعفى عتبة من عمر، فأبى عمر أن يعفيه وكان ذلك في موسم الحجِّ، وعزم عليه عمر ليرجعنَّ إِلى عمله، ثمَّ انصرف، فمات في الطريق إِلى البصرة، فلمَّا بلغ عمر موته؛ قال: أنا قتلتُه؛ لولا أنَّه أجلٌ معلوم، وأثنى عليه خيراً، وكانت وفاته في السَّنة السَّابعة عشرة.
ثمَّ تولَّى من بعده المغيرة بن شعبة، وهو أوَّل مَنْ وضع ديوان البصرة، واستمرَّ واليًا على البصرة إِلى أن عزله عمر ـ رضي الله عنه ـ في السَّنة السَّابعة عشرة من الهجرة بعد التُّهمة الموجَّهة إِلى المغيرة بالزِّنى، وقد قام عمر بالتَّحقيق، وثبتت براءة المغيرة، وجلد الشُّهود الثَّلاثة وقام عمر بعزل المغيرة، من باب الاحتياط، والمصلحة، وولاه عمر فيما بعد على أماكن أخرى، وبعد عزل المغيرة بن شعبة ولَّى عمر على البصرة أبا موسى الأشعري رضي الله عنه. ويعتبر أبو موسى ـ بحقٍّ ـ أشهر ولاة أيَّام عمر بن الخطَّاب، فقد فُتِحت في أيَّامه المواقع العديدة في فارس، فكان يجاهد بنفسه، ويرسل القوَّاد للجهات المختلفة من البصرة، ففي أيَّامه تمكَّن البصريُّون من فتح الأهواز وما حولها وفتحوا العديد من المواضع المهمَّة، وكانت فترة ولايته حافلةً بالجهاد.
وقد تعاون أبو موسى مع الولاة المجاورين له في كثيرٍ من الحروب، والفتوحات، وقد قام بجهودٍ كبيرةٍ لتنظيم المناطق المفتوحة، وتعيين العمَّال عليها، وتأمينها، وترتيب مختلف شؤونها، وقد جرت العديد من المراسلات بين أبي موسى، وعمر بن الخطَّاب في مختلف القضايا، منها: توجيهه لأبي موسى في كيفية استقباله للنَّاس في مجلس الإمارة، ومنها: نصيحته لأبي موسى بالورع، ومحاولة إِسعاد الرَّعيَّة، وهي قيِّمةٌ، قال فيها عمر: أمَّا بعد: فإِنَّ أسعد النَّاس من سعدت به رعيَّتُه، وإِنَّ أشقى النَّاس من شقيت به رعيَّته، إِيَّاك أن ترتع، فيرتع عمَّالك، فيكون مثلك عند ذلك مثل البهيمة نظرت إِلى خضرة من الأرض، فرتعت فيها، تبغي السِّمن، وإِنَّما حتفها في سمنها.
وهناك العديد من الرَّسائل بين عمر، وأبي موسى تدلُّ على نواحٍ إداريةٍ، وتنفيذيَّةٍ مختلفةٍ كان يقوم بها أبو موسى بتوجيهٍ من عمر، وقد جمع معظم هذه المراسلات محمَّد حميد الله في كتابه القيِّم عن الوثائق السِّياسيَّة.
وتعتبر فترة ولاية أبي موسى على البصرة من أفضل الفترات؛ حتَّى لقد عبَّر عنها أحد أحفاد البصريين فيما بعد، وهو الحسن البصريُّ ـ رحمه الله ـ فقال: ما قدمها راكبٌ خيرٌ لأهلها من أبي موسى؛ إِذ أنَّ أبا موسى ـ رحمه الله ـ كان بالإِضافة إِلى إِمارته خير معلمٍ لأهلها، حيث علَّمهم القران، وأمور الدِّين المختلفة.
وفي عهد عمر بن الخطَّاب كان العديد من المدن في فارس، والَّتي فتحت في زمنه تخضع للبصرة، وتدار من قبل والي البصرة الَّذي يعيِّن عليها العمَّال من قبله، ويرتبطون به ارتباطاً مباشراً، وهكذا، واعْتُبرت مراسلات عمر مع أبي موسى من أعظم المصادر الَّتي كشفت سيرة عمر مع ولاته، وبيَّنت ملامح أسلوبه في التعامل معهم.
ولاية الكوفة:
يعدُّ سعد بن أبي وقَّاص أوَّل ولاة الكوفة بعد إنشائها، بل إِنَّه هو الَّذي أنشأها بأمر عمر، وكان له الولاية عليها، وعلى المناطق المجاورة لها قبل بناء الكوفة، وقد استمرَّ سعد والياً على الكوفة، وقام بدوره على أكمل وجهٍ، وكانت لسعد فتوحاتٌ عظيمةٌ بعد استقراره بالكوفة في نواحي بلاد فارس، كما كان لسعدٍ مجموعةٌ من الإِصلاحات الزِّراعيَّة في ولايته، منها: أنَّ مجموعةً من الدَّهاقين سألوا سعداً أن يحفر لهم نهراً لصالح المزارعين في مناطقهم، فكتب سعد إِلى عامله في المنطقة يأمره بحفر النَّهر لهم، فجمع العمال، وحفر النَّهر.
وقد كان سعد ينظِّم أمور المناطق التَّابعة للكوفة، ويعيِّن عليها الولاة من قبله بعد التَّشاور مع عمر بن الخطَّاب رضي الله عنهما. وقد أعجب عقلاء أهل الكوفة بسعد بن أبي وقَّاص، وامتدحوه، فحين سأل عمر بن الخطاب أحد مشاهير الكوفة عن سعدٍ أجاب: إِنَّه متواضعٌ في جبايته، عربيٌّ في نمرته، أسدٌ في تأمُّره، يعدل في القضيَّة، ويقسم بالسَّويَّة، ويبعد بالسَّريَّة، ويعطف عليها عطف البرَّة، وينقلُ علينا خفياً نقل الذَّرَّة.
كما سأل عمر جرير بن عبد الله عن سعد بن أبي وقاص، وولايته، فقال جرير: تركته في ولايته أكرم النَّاس مقدرةً، وأقلَّهم قسوةً، هو لهم كالأمِّ البرَّة، يجمع لهم كما تجمع الذَّرَّة، أشدُّ النَّاس عند البأس، وأحبُّ قريشٍ إِلى النَّاس.
ومع اقتناع خيار أهل الكوفة، وعقلائها بسعدٍ، وامتداحهم له؛ فقد وقعت بعض الشَّكاوى ضدَّه من قبل بعض عوامِّ النَّاس فتمَّ عزله، وسيتم بإِذن الله بيان ذلك عند حديثنا عن الشَّكاوى ضدَّ الولاة.
وبعد عزل سعد بن أبي وقَّاص عن الكوفة أصدر عمر قراراً بتعيين عمَّار بن ياسر على صلاة الكوفة، ويلاحظ: أنَّ عمَّاراً ـ رضي الله عنه ـ كان ضمن القادة الَّذين كانوا في الكوفة، وكان سعد بن أبي وقَّاص يستعين بهم أثناء ولايته على الكوفة، ولذلك كانت لدى عمَّار خبرةٌ سابقةٌ وشبه كاملةٍ عن الولاية قبل أن يتولَّى عليها، وتختلف ولاية عمار هذه عن ولاية سعد؛ إِذ إنَّ عمر جعل مع عمَّار أناساً اخرين يشتركون معه في المسؤوليَّة ويتقاسمون المهامَّ، فكان عمَّار على الصَّلاة، وابن مسعود على بيت المال، وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض، لذلك اختلف الوضع إِلى حدٍّ ما في الولاية في هذه المرحلة عمَّا كانت عليه أيام سعدٍ، ولا يمكننا تجاهل هذا التَّوزُّع الجديد للمسؤوليَّة في الولاية، وقد قام كلٌّ منهم بما نيط به من أمورٍ، فكان عمَّار يقوم بالصَّلاة، وينظِّم أمور الولاية، وشؤونها ويقود الجيوش، فقام ببعض الفتوح، واشترك أهل الكوفة في أيَّامه في عددٍ من المعارك ضدَّ الفرس؛ الَّذين جمعوا الجموع ضدَّ المسلمين، فكان عمَّار يدبر ولايته بمقتضى تلك الظُّروف الحربيَّة حسب توجيهات عمر بن الخطَّاب، وقد استمرَّ عمَّار يؤدِّي مهمَّته في ولاية الكوفة مع ابن مسعودٍ إِضافةً إِلى قيامه بالشؤون الماليَّة للولاية، يقوم بتعليم النَّاس القران، وأمور الدِّين، وكانت ولاية عمَّار لأهل الكوفة قرابة سنةٍ وتسعة أشهرٍ، وعزله عمر بناءً على عدَّة شكاوى من أهل الكوفة ضدَّه، وقد قال عمر لعمار: أساءك العزل ؟ فقال عمَّار: ما سرَّني حين استُعملت، ولقد ساءني حين عُزِلْتُ. وقيل: إِنَّه قال: ما فرحت حين ولَّيتني، ولا حزنت حين عزلتني.كما ذُكر: أنَّه استعفى عمر حين أحس بكراهية أهل الكوفة له، فأعفاه عمر، ولم يعزله.
ثمَّ عيَّن عمر جبير بن مطعم على الكوفة، ثمَّ عزله قبل أن يتَّجه إِلى الكوفة، نظراً لأنَّ عمر أمره بكتمان خبر التَّعيين، ولكن الخبر انتشر بين النَّاس، فغضب عمر، وعزله، ثمَّ تولَّى ولاية الكوفة المغيرة بن شعبة، واستمرَّ يؤدِّي واجبه والياً للكوفة إِلى أن توفي عمر بن الخطَّاب.
المدائن:
كانت المدائن عاصمة كسرى، قد تمَّ فتحها من قبل سعد بن أبي وقَّاص، واستقرَّ بها سعدٌ فترةً من الوقت، ثمَّ انتقل منها إِلى الكوفة بعد تمصيرها، وقد كان ضمن جيش سعدٍ سلمان الفارسيُّ رضي الله عنه. وهو الَّذي اشترك في العديد من المعارك ضدَّ الفرس، وكان له دورٌ كبيرٌ في دعوتهم إِلى الإِسلام قبل القتال، وقد ولاه عمر بن الخطَّاب على المدائن، فسار في أهلها سيرةً حسنةً، فقد كان مثالاً حيّاً لتطبيق تعاليم الإسلام، وقد ذكر أنَّه كان يرفض الولاية؛ لولا أنَّ عمر أجبره على قبولها، فكان يكتب إِلى عمر يطلب الإِعفاء، فيرفض عمر ذلك، وقد اشتهر عن سلمان ـ رضي الله عنه ـ زهده، فكان يلبس الصُّوف، ويركب الحمار ببرذعته بغير إِكافٍ، ويأكل خبز الشَّعير. وكان ناسكاً زاهداً.
وقد استمرَّ سلمان يعيش في المدائن إِلى أن توفي على أرجح الأقوال سنة 32 هـ في خلافة عثمان بن عفَّان، ويبدو: أنَّ سلمان لم يكن والي المدائن في أواخر أيام عمر رضي الله عنه؛ إذ إنَّ عمر قد عين حذيفة بن اليمان على المدائن، ولم يذكر المؤرِّخون عزل عمر لسلمان، فلعلَّه استعفى عمر، فوافقه بعد أن كان يمانع في إِعفائه، وولَّى بعده حذيفة بن اليمان.
وقد ورد العديد من الأخبار عن ولاية حذيفة على المدائن، منها: كتاب عمر إِلى أهل المدائن بتعيين حذيفة والياً عليهم، وأمر عمر أهل المدائن بالسَّمع، والطَّاعة لحذيفة. وقد استمرَّ حذيفة والياً على المدائن بقيَّة أيام عمر، وكذلك طيلة خلافة عثمان.
أذربيجان:
كان حذيفة بن اليمان أوَّل الولاة على أذربيجان، ثمَّ تولَّى بعدما نقل إِلى المدائن عتبة بن فرقد السَّلمي، وفي أثناء ولايته حدثت بينه وبين عمر العديد من المراسلات، من ذلك: أنَّ عتبة بن فرقد حين جاء إِلى أذربيجان وجد عندهم نوعاً من الحلوى الطَّيبة تسمى (الخبيص) ففكَّر أن يصنع منها لعمر بن الخطَّاب، وبالفعل وضع منها، وغلَّفها بما يحفظها من الجلود، وغيرها، وبعث بها إِلى عمر بن الخطَّاب في المدينة، فلمَّا تسلَّمها؛ ذاق الخبيص فأعجبه، فقال عمر: أكلُّ المهاجرين أكل منه شبعه ؟ قال الرسول: لا إِنَّما هو شيءٌ خصَّك به، فأمر عمر بردِّها على عتبة في أذربيجان، وكتب إِليه: يا عتبة ! إِنَّه ليس من كدِّك، ولا كدِّ أبيك، فأشبع المسلمين في رحالهم ممَّا تشبع في رحلك، وإِيَّاك والتَّنعُّم وزيَّ أهل الشِّرك، ولبوس الحرير، فإِنَّ رسول الله نهى عن لبوس الحرير.
وقد رويت الحادثة برواياتٍ مختلفةٍ يؤكِّد بعضها بعضاً، وقد استمرَّ عتبة والياً على أذربيجان بقيَّة خلافة عمر ـ رضي الله عنه ـ وجزءاً من خلافة عثمان.
وقد وجد العديد من ولاة عمر في مناطق مختلفةٍ في العراق، وفارس. منهم من كان مستقلاًّ بولايته، ومنهم من كانت ولايته مرتبطةً بإِحدى الولايتين الكبيرتين في العراق اللَّتين هما محورا الإدارة، والقيادة لبلاد العراق، وفارس: الكوفة، أو البصرة، ومن هذه البلدان الَّتي اختُصَّت بولاةٍ: الموصل، حلوان، كسكر.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf