واجبات الولاة زمن خلافة الفاروق رضي الله عنه؛ نحو إرساء قواعد الحكم الإسلامي الراشد
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الستون
إِنَّ الولاة بما بوَّأهم الله من مكانةٍ قد ألقى على كاهلهم أعباءً ثقالاً، وواجباتٍ جساماً، أُثر منها عن عمر بن الخطَّاب ما يلي:
1 ـ إِقامة أمور الدِّين:
كنشر الدِّين الإِسلامي بين النَّاس، وإِقامة الصَّلاة، وحفظ الدِّين وأصوله، وبناء المساجد، وتيسير أمور الحجِّ، وإِقامة الحدود الشَّرعيَّة:
_خ نشر الدين الإِسلامي:
حيث اختص ذلك العصر بفتوحاتٍ عظيمةٍ اقتضت من الولاة العمل على نشر الدِّين في البلاد المفتوحة مستعينين بمن معهم من الصَّحابة، وفي زمن عمر كتب إِليه يزيد بن أبي سفيان ـ وكان والياً على الشام ـ: إِنَّ أهل الشام قد كثروا، وملؤوا المدائن، واحتاجوا إلى مَنْ يُعلِّمهم القران، ويفقِّههم، فأعنِّي برجالٍ يعلِّمونهم، فأرسل إِليه عمر خمسةً من فقهاء الصَّحابة.
وقد اشتُهر عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنَّه كان يردِّد: ألا إِننَّي والله ما أرسل عمالي إِليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم ! ولكن أرسلهم إِليكم؛ ليعلِّموكم أمر دينكم، وسنَّة نبيِّكم. وكان عمر يقول لولاته: إِنَّا لا نوليكم على أشعار المسلمين، ولا على أبشارهم، وإِنَّما نولِّيكم؛ لتقيموا الصَّلاة، وتعلِّموهم القران.
وقد أرسل عمر ـ رضي الله عنه ـ مجموعةً من المعلمين إِلى الأمصار الإِسلاميَّة، حيث أسَّسوا المدارس العلميَّة المشهورة، كما مرَّ معنا.
_خ إقامة الصَّلاة:
كان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يكتب لولاته: إِنَّ أهمَّ أمركم عندي الصَّلاة، فمن حفظها، وحافظ عليها؛ حفظ دينه، ومن ضيَّعها؛ فهو لما سواها أشدُّ إِضاعةً. كما كان عمر يؤكِّد لولاته أهمِّية إِقامة الصَّلاة في النَّاس بقوله: وإِنَّما نولِّيكم؛ لتقيموا الصَّلاة، وتعلِّموهم العلم، والقران.
وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ ينصُّ في قرار التَّعيين: أنَّ فلاناً أمير الصَّلاة، والحرب، كالقرار الَّذي عيَّن فيه عمَّار بن ياسر على الصَّلاة، والحرب، وعبد الله بن مسعودٍ على القضاء، وبيت المال، وقد تحدَّث الفقهاء الَّذين كتبوا في السياسة الشَّرعيَّة عن أهمِّيَّة الصَّلاة بالنسبة للأمير، وما يتضمَّنه ذلك الأمر من معانٍ عظيمةٍ دنيويَّةٍ، وأخرويَّة.
_خ حفظ الدِّين وأصوله:
حرص الفاروق على حفظ الدِّين على أصوله الصَّحيحة الَّتي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يعمل جاهداً على إِحياء سنَّة الرَّسول صلى الله عليه وسلم، والقضاء على البدع، والعمل على احترام دين الله، وإحياء سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أمر بطرد رجلٍ، وتغريبه نتيجة كثرة إِثارته لمواضيع من المتشابه في القران، كما مرَّ معنا، وأمر رضي الله عنه بالقيام في رمضان، وتعميم ذلك على الأمصار.
وقد كتب إِلى أبي موسى الأشعري: إِنَّه بلغني: أنَّ ناساً من قبلك قد دعوا بدعوى الجاهلية يا ال ضبَّة ! فإِذا أتاك كتابي هذا فانهكهم عقوبة في أموالهم، وأجسامهم حتَّى يفرقوا إِذا لم يفقهوا.
_خ تخطيط وبناء المساجد:
وتذكر بعض الإِحصائيات: أنَّه أنشأى في عهد عمر 4000 مسجدٍ في بلاد العرب وحدها، وقد اشتهر الولاة بنشر المساجد، وتأسيسها في مختلف مناطق حكمهم، مثل عياض بن غَنْمٍ الَّذي أنشأ مجموعةً من المساجد في النَّواحي المختلفة من الجزيرة.
_خ تيسير أمور الحج:
كان الولاة في عهد الخلافة الرَّاشدة مسؤولين عن تيسير أمور الحجِّ في ولاياتهم، وتأمين سلامة الحجَّاج منها، فقد كان الولاة يعيِّنون الأمراء على قوافل الحجِّ، ويحدِّدون لهم أوقات السَّفر حيث لا يغادر الحجَّاج بلدانهم إِلا بإِذن الوالي، وقد أكَّد الفقهاء بعد ذلك على أن تسيير الحجَّاج عملٌ من مهامِّ الوالي على بلده. يقول الماورديُّ: أمَّا تسيير الحجيج من عمله فداخلةٌ في أحكام إِمارته؛ لأنه من جملة المعونات الَّتي تنسب لها.
_خ إِقامة الحدود الشَّرعيَّة:
أقام عمرو بن العاص الحدَّ على أحد أبناء عمر بن الخطَّاب في مصر، ثمَّ عاقبه عمر نفسه بالجلد، وقيل: إِنَّه توفي بعد ذلك في أثر هذا الجلد، وقد كان الولاة يقومون بالقصاص في القتل دون إِذن الخليفة إِلى أن كتب إِليهم عمر: ألا تقتلوا أحداً إِلا بإِذني، فأصبحوا يستأذنون عمر في القتل قبل تنفيذه، فإِقامة الحدود من الأمور الدِّينيَّة، والدُّنيويَّة الَّتي كان ينظر إِليها الخلفاء وولاتهم نظرةً جادَّةً، ويهتمُّون بها كما يهتمُّون بشعائر الدِّين المختلفة.
2 ـ تأمين النَّاس في بلادهم:
إِنَّ المحافظة على الأمن في الولاية من أعظم الأمور الموكلة إِلى الوالي، وفي سبيل تحقيق ذلك فإِنَّه يقوم بالعديد من الأمور، أهمُّها إِقامة الحدود على العصاة، والفسَّاق، ممَّا يجدُّ من الجرائم الَّتي تهدِّد حياة النَّاس، وممتلكاتهم. وقد كتب عمر ـ رضي الله عنه ـ إِلى أبي موسى الأشعري: أخيفوا الفسَّاق، واجعلوهم يداً يداً، ورجلاً رجلاً. كما أنَّ إِقامة فريضة الجهاد ضدَّ الأعداء كان لها دورٌ كبيرٌ في تأمين البلاد الإِسلاميَّة، وأمصارها.
3 ـ الجهاد في سبيل الله:
إِذا استعرضنا أسماء الأمراء منذ بداية خلافة أبي بكر إِلى خلافة عمر؛ لوجدنا لهم باعاً طويلاً في الفتوحات، بل إِنَّهم كانوا يوجِّهون أمراء إِلى بلدانٍ لم تفتح بعد، فيعملون على فتحها، ومن ثم تنظيمها، كأمراء الشَّام: أبي عبيدة، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة. وأمراء العراق: كالمثنَّى بن حارثة، وخالد بن الوليد، وعياض بن غَنْمٍ، وغيرهم.
وقد كان الولاة في عهد الخلفاء الرَّاشدين مع إِدارتهم لبلادهم مجاهدين لنواحي العدوِّ، ولم يمنعهم ذلك من القيام بأعمالهم الموكلة إِليهم، وقد تحدَّثت المصادر التَّاريخية عن أهمِّ أعمال الولاة في دعم حركة الجهاد، والَّتي من أهمِّها:
ـ إِرسال المتطوِّعين إِلى الجهاد.
ـ الدِّفاع عن الولاية ضدَّ الأعداء: فقد قال عمر: ولكم عليَّ أن أسدَّ ثغوركم.
ـ تحصين البلاد: فقد أمر الفاروق ببناء حصونٍ لمن نزل الجيزة في مصر من قبائل الفتح، خوفاً عليهم من الإِغارات المفاجئة.
ـ تتبُّع أخبار الأعداء: فقد اشتُهر عن أبي عبيدة ـ رضي الله عنه ـ متابعته الدَّقيقة لتجمعات الرُّوم في بلاد الشام، فكان يقوم ببعض العمليات الانسحابيَّة التمويهيَّة بناء على هذه الأخبار.
ـ إِمداد الأمصار بالخيل: وضع عمر ـ رضي الله عنه ـ سياسةً عامَّةً في الدولة لتوفير الخيل اللازمة للجهاد في الأمصار الإِسلاميَّة حسب حاجتها، فأقطع أناساً من البصرة أراضي كي يعملوا فيها على إِنتاج الخيل، وتربيتها، كما أعطى عمر أناساً من المسلمين في دمشق أرضاً للعناية بالخيل، فزرعوها، فانتزعها منهم، وأغرمهم لمخالفتهم الهدف من إِعطائهم الأراضي، وهو المساعدة في إِنتاج الخيل، وقد كان لعمر أربعة الاف فرسٍ في الكوفة، وكان قيِّمه عليها سلمان بن ربيعة الباهلي في نفرٍ من أهل الكوفة يصنع سوابقها، ويجريها في كلِّ يومٍ، وبالبصرة نحوٌ منها، وأيضاً في كلِّ مصر من الأمصار الثَّمانية عددٌ قريب من العدد السَّابق وكانت هذه الخيول مجهَّزةً للدِّفاع الفوري عن الدَّولة الإِسلاميَّة.
ـ تعليم الغلمان وإِعدادهم للجهاد:
فقد كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يكتب إِلى أهل الأمصار يأمرهم بتعليم أولادهم الفروسيَّة، والسِّباحة، والرَّمي، وقد أصيب أحد الغلمان أثناء التَّعليم في الشام، ومات، فكتبوا إِلى عمر في ذلك فلم يثنه عن أمره بتعليم الأولاد الرَّمي.
ـ متابعة دواوين الجند:
اهتمَّ الفاروق ـ رضي الله عنه ـ اهتماماً خاصَّاً بدواوين الأمصار نظراً لاعتقاده: أنَّ أهل الأمصار أحوجُ النَّاس للضَّبط خصوصاً القريبة من الأعداء، وهي الأمصار الَّتي تحتاج إِلى الجنود باستمرارٍ، وقد كان الولاة على البلدان مسؤولين مباشرةً عن دواوين الجند رغم وجود بعض الموظفين الاخرين الَّذين يتولَّون مهمَّتها، ولكن باعتبار أنَّ هؤلاء الولاة هم أمراء الحرب، فقد كانت مسؤوليَّتهم عن الدَّواوين في بلدانهم كمسؤوليَّة الخليفة باعتبارهم نواباً.
ـ تنفيذ المعاهدات:
وقد جرت بعض المعاهدات بين أبي عبيدة بن الجرَّاح وبعض مدن الشَّام، وكذلك الحال بالنسبة لأمراء العراق، كسعد بن أبي وقَّاص، وأبي موسى الأشعري، وغيرهم من الولاة، وقد كان الولاة إِضافةً إِلى ذلك يحرصون على حماية حقوق الذِّميِّين والمعاهدات الشَّخصية، والعامَّة، وينفِّذون المعاهدات انطلاقاً من الأوامر الشَّرعيَّة برعاية العهد.
وقد أوصى الفاروق بأهل الذمَّة، فقال: أوصيكم بذمَّة الله، وذمَّة رسوله خيراً أن يُقاتل مَنْ وراءهم، وألا يُكلَّفوا فوق طاقتهم.
4 ـ بذل الجهد في تأمين الأرزاق للنَّاس:
فقد قال عمر: إِنْ سلَّمني الله؛ لأدعنَّ أرامل العراق وهنَّ لا يحتجن إِلى أحدٍ بعدي ! ونحن لا ننسى موقف عمر عام الرَّمادة، حين حلَّ الجوع بالنَّاس، فإِنَّه وضع جميع إِمكانيات الدَّولة لحلِّ الأزمة، وإِشباع البطون الجائعة، فقد روى البيهقيُّ في سننه: أنَّ عمر أنفق على أهل الرَّمادة حتَّى وقع المطر، فترحَّلوا، فخرج إِليهم عمر راكباً فرساً، فنظر إِليهم وهم يترحَّلون بظعائنهم، فدمعت عيناه، فقال رجل من بني محارب بن خصفة: أشهد أنَّها انحسرت عنك، ولست بابن أمةٍ ـ يمتدح عمر ـ فقال له عمر: ويلك ! ذلك لو أنفقت من مالي، أو من مال الخطَّاب، إِنَّما أنفقت من مال الله.
وقد قال رضي الله عنه: ولكم عليَّ ألا أجتبي شيئاً من خراجكم، ولا ممَّا أفاء الله عليكم إِلا من وجهه، ولكم عليَّ إِذا وقع في يدي ألا يخرج منِّي إِلا في حقِّه، ولكم عليَّ أن أزيد أعطياتكم، وأرزاقكم إِن شاء الله.
وقد أخذ توزيع الأعطيات في عهد عمر شكلاً دوريّاً منتظماً، ولم يكن ذلك خاصَّاً بسكَّان البلدان، بل إِنَّ القبائل في البادية شملتها الأعطيات، فقد كان عمر ابن الخطَّاب يدور في القبائل القريبة من المدينة، ويوزِّع عليهم أعطياتهم بنفسه، وكان يكتب إِلى بعض ولاته: أن أعط النَّاس أعطياتهم، وأرزاقهم. وكان يقول: إنَّه فيئهم الذي أفاء الله عليهم، ليس هو لعمر، ولا ال عمر، اقسمه بينهم.
ولم يكتف عمر بتأمين الأموال للنَّاس، بل إِنَّه عمل على تأمين الطَّعام، ففي إِحدى زياراته للشَّام قام إِليه بلال بن رباح، فقال: يا أمير المؤمنين ! إنَّ أمراء أجنادك بالشَّام والله ما يأكلون إِلا لحوم الطَّير، والخبز النَّقي ! وما يجد ذلك عامَّة المسلمين، فقال لهم عمر ـ رضي الله عنه ـ: ما يقول بلال ؟ فقال له يزيد بن أبي سفيان: يا أمير المؤمنين ! إِن سعر بلادنا رخيصٌ، وإِنا نصيب هذا الذي ذكر بلال هنا بمثل ما كنا نقوت عيالاتنا بالحجاز. فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: لا والله لا أبرح حتَّى تضمنوا لي أرزاق المسلمين في كلِّ شهر ! ثم قال: انظروا كم يكفي الرَّجل ما يشتهيه ؟ قالوا: جريبان مع ما يصلحه من الزَّيت، والخلِّ عند رأس كلِّ هلالٍ. فضمنوا له ذلك، ثمَّ قال: يا معشر المسلمين ! هذا لكم سوى أعطياتكم، فإِن وفَّى لكم أمراؤكم بهذا الذي فرضت لكم عليهم، وأعطوكموه في كل شهرٍ؛ فذلك أحبُّ، وإِن هم لم يفعلوا؛ فأعلموني حتَّى أعزلهم، وأولِّي غيرهم.
وقد كان عمر يحرص على توفير الطَّعام في البلدان، ويتابع الأسواق، ويمنع الاحتكار، وكذلك كان ولاته يقومون بمهمَّتهم في مراقبة الأسواق، كما كان يأمر التجار بالمسير في الافاق والجلب على المسلمين وإِغناء أسواقهم، ولم يكتف الفاروق وولاته بتأمين الطَّعام، ومراقبة الأسواق فقط، بل إِنَّ السَّكن، وتوزيعه كان من المهامِّ الموكلة لأمراء البلدان، فعند إِنشاء الأمصار، وتخطيطها؛ وزعت الأراضي على الناس لسكناها في الكوفة، والبصرة والفسطاط، كما كان الأمراء يشرفون على تقسيم البيوت في المدن المفتوحة، كحمص، ودمشق، والإِسكندرية، وغيرها.
5 ـ تعيين العمال والموظفين:
كان تعيين العمَّال، والموظَّفين في الوظائف التَّابعة للولاية في كثيرٍ من الأحايين من مهامِّ الوالي، حيث إِنَّ الولايات في الغالب تتكوَّن من بلدٍ رئيسيٍّ إِضافةً إِلى بلدانٍ، وأقاليم أخرى تابعةٍ للولاية، وهي بحاجةٍ إِلى تنظيم أمورها، فكان الولاة يعيِّنون من قبلهم عمَّالاً وموظَّفين في تلك المناطق، سواءٌ كانوا في مستوى أمراء، أو عمَّال خراج، وفي الغالب فإِنَّ هذا التَّعيين يتمُّ بالاتِّفاق بين الخليفة، والوالي.
6 ـ رعاية أهل الذمة:
كانت رعاية أهل الذمَّة، واحترام عهودهم، والقيام بحقوقهم الشَّرعية، ومطالبتهم بما عليهم للمسلمين من واجباتٍ، وتتبُّع أحوالهم، وأخذ حقوقهم ممَّن يظلمهم انطلاقاً من الأوامر الشَّرعية في هذا الجانب من واجبات الوالي، وقد كان الخلفاء يشترطون على الذمِّيِّين في كثيرٍ من الأحيان شروطاً معيَّنةً قبل مصالحتهم، وبالتَّالي يوفون لهم بحقوقهم ويطالَبون بما عليهم من شروط.
7 ـ مشاورة أهل الرَّأي في ولايته، وإِكرام وجوه النَّاس:
شدَّد عمر على الولاة في استشارة أهل الرأي في بلادهم، وكان الولاة يطبِّقون ذلك، ويعقدون مجالس للنَّاس لأخذ آرائهم، وكان يأمر ولاته باستمرار بمشاورة أهل الرَّأي، وطلب من ولاته إِنزال النَّاس منازلهم، فقد كتب عمر إِلى أبي موسى الأشعري: بلغني: أنَّك تأذن للنَّاس جمَّاً غفيراً، فإِذا جاءك كتابي هذا فَائْذَنْ لأهل الشَّرف، وأهل القران، والتَّقوى، والدِّين، فإذا أخذوا مجالسهم فَائْذَنْ للعامَّة. وكتب إِليه أيضاً: لم يزل للنَّاس وجوه يرفعون حوائج النَّاس، فأكرموا وجوه النَّاس، فإِنَّه بحسب المسلم الضَّعيف أن ينتصف في الحكم، والقِسْمَة.
8 ـ النَّظر إِلى حاجة الولاية العمرانيَّة:
فقد قام سعد بن أبي وقَّاص بحفر نهرٍ في ولايته بناءً على طلب بعض كبار الفرس لصالح المزارعين في المنطقة، كما كتب عمر بن الخطَّاب إِلى أبي موسى الأشعري، يأمره بحفر نهرٍ لأهل البصرة، وقام أبو موسى بحفر نهر طوله أربعة فراسخ، حتَّى تمكَّن من جلب المياه لسكَّان البصرة.
كما اعتنى ولاة عمر ـ رضي الله عنه ـ عند تأسيسهم للأمصار المشهورة: الكوفة، والبصرة، والفسطاط بتخطيط الشَّوارع، وتوزيع الأراضي، وبناء المساجد، وتأمين المياه، وغير ذلك من المصالح العامَّة لهذه المدن، كما اهتمَّ الولاة بتوطين السكَّان في المناطق غير المرغوب فيها؛ لقربها من العدوِّ، أو غير ذلك من الأسباب، فقد قدَّموا لهم الإِغراءات، وأقطعوهم الأراضي تشجيعاً لهم على البقاء فيها، وقد فعل ذلك عمر، وعثمان في إِنطاكية، وفي بعض بلاد الجزيرة.
9 ـ مراعاة الأحوال الاجتماعيَّة لسكَّان الولاية:
كان الوفد إِذا قدموا على عمر ـ رضي الله عنه ـ سألهم عن أميرهم، فيقولون خيراً، فيقول: هل يعود مرضاكم ؟ فيقولون: نعم. فيقول: هل يعود العبد ؟ فيقولون: نعم. فيقول: كيف صنيعه بالضَّعيف؛ هل يجلس على بابه ؟ فإِن قالوا لخصلةٍ منها: لا؛ عزله. وكان عمر يقوم بعزل العامل إِذا بلغه أنَّه لا يعود المريض، ولا يُدخل عليه الضَّعيف.
كما حرص عمر بن الخطَّاب على أن يظهر عمَّاله بالمظهر المتواضع أمام النَّاس؛ حتَّى يشعر الناس بأنَّ ولاتهم منهم، ولا يتميَّزون عنهم، فكان عمر يشترط على عمَّاله مركباً، وملبساً مماثلاً للناس، وينهاهم عن اتِّخاذ الأبواب، والحجَّاب.
10 ـ عدم التَّفريق بين العربيِّ، وغيره:
يجب على الولاة أن يقوموا بالمساواة بين النَّاس وأن لا يفرِّقوا بين العربيِّ وغيره من المسلمين، فقد قدم قومٌ على عاملٍ لعمر بن الخطاب، فأعطى العرب، وترك الموالي، فكتب إِليه عمر: أمَّا بعد: فبحسب المرء من الشرِّ أن يحقر أخاه المسلم. وفي روايةٍ: كتب إِليه: ألا سوَّيت بينهم.
كما أنَّ هناك العديد من الواجبات الأخلاقيَّة الأخرى الَّتي أمر الإِسلام بالتزامها مثل: الوفاء بالعهد، وإِخلاص المرء في عمله، ومراقبة الله سبحانه وتعالى في كل ما يعمل، واستعداده للتَّعاون مع سائر الجماعة في كلِّ أعمال البرِّ، والتقوى، ووجوب النُّصح لله، ورسوله، ولأئمَّة المسلمين وعامَّتهم. فإِنَّ هذا ولا شكَّ يؤدِّي إِلى إِصلاح حال الجماعة، وكان على الوالي ـ فضلاً عن الالتزام بهذه المعاني ـ نشرها بين النَّاس في ولايته، وذلك من خلال خطبه، وكتبه، ومواعظه، وتصرُّفاته، وقد كان الولاة في عصر الرَّاشدين ـ بصفةٍ إِجماليَّة ـ نموذجاً صالحاً لهذه الأخلاقيَّات، والواجبات، سواءٌ في أشخاصهم، وخصوصيَّاتهم، أم في سلوكهم العام مع الرَّعية.
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf