الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

العقوبات الَّتي نزلت بالولاة في عهد عمر رضي الله عنه؛ تجسيد حقيقي لربط المسؤولية بالمحاسبة

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة الثالثة و الستون

نتيجة لمراقبة الفاروق لولاته لاحظ وجود بعض الأخطاء الَّتي وقع فيها الولاة، فقام بتأديبهم، ومعاقبتهم على هذه الأخطاء الَّتي وقعوا فيها، وقد اختلفت طرق تأديب الولاة حسب اختلاف الأحداث، وحسب ما يراه الخليفة. ومن أهم أساليب عقوبات الولاة:
1ـ القود من الأمراء، والاقتصاص منهم لو أخطؤوا:
وقد كان عمر يقول: ألا وإِنِّي لم أرسل عمالي ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إِليكم ليعلِّموكم دينكم وسنَّة نبيِّكم، فمن فُعل به سوى ذلك؛ فليرفعه إِليَّ، فوالذي نفسي بيده ! إِذن لأقصنَّه. ولم يكتف عمر بالبيانات الرَّسمية التي تهدِّد الولاة، وتمنعهم من الاعتداء على النَّاس بل إِنَّه طبَّق ذلك عمليّاً، كما مرَّ معنا فيمن اشتكى من أبي موسى الأشعري، واشتكى من عمرو ابن العاص رضي الله عنهم.
2ـ عزل الوالي نتيجة وقوعه في الخطأ:
وقد قام الفاروق ـ رضي الله عنه ـ بعزل الولاة نتيجة وقوعهم في أخطاء لا يرتضيها، فقد عزل رضي الله عنه أحد الأمراء نتيجة تدخُّله فيما لا يعنيه في شؤون أجناده؛ حيث بعثه على جيشٍ، فلمَّا نزل بهم؛ قال: عزمت عليكم لما أخبرتموني بكلِّ ذنبٍ أذنبتموه، فجعلوا يعترفون بذنوبهم، فبلغ ذلك عمر، فقال: ما له لا أمَّ له ! يعمد إِلى سترٍ ستره الله، فيهتكه ؟ والله لا يعمل ليأبداً! كما غضب عمر من أحد الولاة حينما بلغه بعض شعره، وهو يتمثَّل فيها بالخمر، فعزله.

3ـ إِتلاف شيءٍ من مساكن الولاة:
وهو ما يقع فيه المخالفة، فقد كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يحرص على أن تكون بيوت الولاة بدون أبواب، وبدون حجَّاب، فلمَّا بلغه عن سعد بن أبي وقَّاص ـ رضي الله عنه ـ: أنَّه قد وضع باباً لداره؛ بعث إِليه محمَّد بن مسلمة، وأمره بإِحراق ذلك الباب، وكان سبب ذلك قرب الأسواق من داره، وكانت الأصوات مرتفعةً بالسُّوق تؤذي سعداً، فوضع باباً يحجز عنه أصوات النَّاس بالسُّوق، وبلغ ذلك أسماع عمر عن دار سعدٍ، وبابه، وأنَّ الناس يسمُّونه قصر سعد، فدعا محمَّد بن مسلمة، وأرسله إِلى الكوفة، وقال: اعمد إِلى القصر حتَّى تحرق بابه، ثمَّ ارجع عودك على بدئك. فخرج حتَّى قدم الكوفة، فاشترى حطباً ثمَّ أتى به القصر، فأحرق الباب.
وروى ابن شبَّة: أنَّ عمر استعمل مجاشع بن مسعود على عملٍ، فبلغه: أنَّ امرأته تجدد بيوتها، فكتب إِليه عمر: من عبد الله أمير المؤمنين إِلى مجاشع بن مسعود، سلام عليك، أما بعد: فقد بلغني: أنَّ الخضيراء تحدِّث بيوتها، فإِذا أتاك كتابي هذا فعزمت عليك ألا تضعه من يدك حتى تهتك ستورها. قال: فأتاه الكتاب والقوم عنده جلوس، فنظر في الكتاب، فعرف القوم: أنَّه قد أتاه بشيءٍ يكرهه، فأمسك الكتاب بيده ثمَّ قال للقوم: انهضوا، فنهضوا، والله ما يدرون إِلى ما ينهضهم، فانطلق بهم حتَّى أتى باب داره، فدخل فلقيته امرأته، فعرفت الشَّرَّ في وجهه، فقالت له: مالك؟ فقال: إِليك عنِّي قد أرمقتني، فذهبت المرأة، وقال للقوم: ادخلوا، فدخل القوم، فقال: فليأخذ كل رجل منكم ما يليه من هذا النَّحو، واهتكوا، قال: فهتكوا جميعًا حتَّى ألقوها إِلى الأرض والكتاب في يده، لم يضعه بعد. وفي أثناء زيارة عمر إِلى الشَّام دعاه يزيد بن أبي سفيان إِلى الطَّعام، فلما دخل عمر البيت وجد فيه بعض السَّتائر، فأخذ عمر يقطِّعها، ويقول: ويحك! أتلبس الحيطان ما لو ألبسته قوماً من النَّاس؛ لسترهم من الحرِّ، والبرد.


4ـ التأديب بالضرب:
فقد استعمله عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ حيث اشتهر عنه حمل الدِّرَّة، وضربه بها، وقد ضرب بعض الولاة، بسبب حوادث اقترفوها، ففي أثناء زيارة عمر إِلى الشَّام دخل على بعض ولاته، فوجد عندهم بعض المتاع الزَّائد، فغضب عمر، وأخذ يضربهم بالدِّرَّة.
وفي أثناء زيارة عمر إِلى الشَّام لقيه الأمراء، فكان أول من لقيه يزيد بن أبي سفيان، وأبا عبيدة، ثمَّ خالدٌ على الخيول، عليهم ثياب فاخرة، لا تليق بالمجاهدين، فنزل، وأخذ الحجارة، ورماهم بها، قال: ما أسرع ما رجعتم عن رأيكم، إِيَّاي تستقبلون في هذا الزِّيِّ، وإِنَّما شبعتم منذ سنتين، وبالله ولو فعلتم هذا على رأس المئتين لاستبدلت بكم غيركم ! فقالوا: يا أمير المؤمنين ! إِنَّها لياقة وإِن علينا السِّلاح، قال: فنعم إِذاً.


5ـ خفض الرُّتبة من والٍ إلى راعي غنم:
وقد استعملها عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ مع أحد ولاته، وروى ابن شبَّة: أنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ استعمل عياض بن غنم على الشَّام، فبلغه أنَّه اتخذ حمَّاماً، واتخذ نُوَّاباً، فكتب إِليه يقدم عليه، فقدم، فحجبه ثلاثًا، ثمَّ أذن له، ودعا بجبَّة صوفٍ، فقال: البس هذه، وأعطاه كنف الرَّاعي وثلاثمئة شاة، وقال: انعق بها، فنعق بها فلمَّا جازه هنيهةً، قال: أقبل، فأقبل يسعى حتَّى أتاه، فقال: اصنع بكذا، وكذا، اذهب. فذهب، حتَّى إِذا تباعد ناداه: يا عياض ! أقبل، فلم يزل يردِّده حتَّى عرَّقه في جبينه، قال: أوردها عليَّ يوم كذا، وكذا، فأوردها لذلك اليوم، فخرج عمر رضي الله عنه، فقال: انزع عليها. فاستقى حتَّى ملأ الحوض، فسقاها، ثمَّ قال: انعق بها، فإِذا كان يوم كذا، فأوردها فلم يزل يعمل به حتَّى مضى شهران، أو ثلاثة، ثمَّ دعاه فقال: هيه ! اتخذت نُواباً، واتَّخذت حمَّاماً أتعود ؟ قال: لا، قال: ارجع إِلى عملك.وقد كانت نتيجة هذه العقوبة التأديبية أن أصبح عياضٌ بعد ذلك من أفضل عمال عمر رضي الله عنه.


6ـ مقاسمة الولاة أموالهم:
وكان تطبيق هذا النِّظام أمراً احتياطيّاً في زمن عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ حيث شعر عمر بنموِّ الأموال لدى بعض الولاة، فخشي أن يكون الولاة قد اكتسبوا شيئًا من هذه الأموال بسبب ولايتهم، وقد علَّق ابن تيمية على فعل عمر هذا، فقال: وكذلك محاباة الولاة في المعاملة من المبايعة، والمؤاجرة، والمضاربة، والمساقاة، والمزارعة، ونحو ذلك هو من نوع الهدية، ولهذا شاطر عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ من عماله من كان له فضلٌ، ودينٌ، لا يُتَّهم بخيانةٍ، وإِنما شاطرهم لما كانوا خُصُّوا به لأجل الولاية من محاباةٍ، وغيرها، وكان الأمر يقتضي ذلك، لأنَّه كان إِمام عدلٍ، يقسم بالسَّويَّة. وقد قام عمر ـ رضي الله عنه ـ بمشاطرة أموال عمَّاله، منهم: سعد بن أبي وقَّاص، وأبو هريرة، وعمرو بن العاص رضي الله عنهم.
وكان رضي الله عنه يكتب أموال عماله؛ إِذا ولاهم، ثمَّ يقاسمهم ما زاد على ذلك، وربما أخذه منهم، وقد قام أيضًا بمشاطرة بعض أقارب الولاة لأموالهم، إِذا ما رأى مبرراً لذلك، فقد أخذ من أبي بكرة نصف ماله، فاعترض أبو بكرة قائلاً: إِنِّي لم ال لك عملاً ! فقال عمر: ولكنَّ أخاك على بيت المال، وعشور الأبلة، فهو يقرضك المال تتَّجر به.


7ـ التَّوبيخ الشَّفوي والكتابي:
وقد قام عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ على معاتبة الأمراء على تصرُّفاتهم أثناء اجتماعهم به، حيث إِنَّه عاتب عمرو بن العاص مرَّاتٍ، كما عاتب عياض بن غنم، وخالد بن الوليد، وأبا موسى الأشعري، وغيرهم من الأمراء. وأمَّا المعاتبة الكتابيَّة في خلافة عمر؛ فهي كثيرة، منها: أنَّه كتب إِلى أحد الولاة، وكان قدم عليه قومٌ فأعطى العرب، وترك الموالي: أمَّا بعد: فبحسب المرء من الشَّرِّ أن يحقر أخاه المسلم، والسَّلام.
ومن هذا كلِّه نجد: أن الولاة لم يكونوا بمنأى عن المحاسبة والتَّأديب بصورٍ مختلفةٍ، ولم تشهد البشريَّة مثيلاً لها في عدلها، وجرأتها، ممَّا جعل هذا العصر الرَّاشدي بحقٍّ نموذجاً رفيعاً للحضارة الإِسلاميَّة بعد عصر الرِّسالة، على صاحبها أفضل الصَّلاة والسَّلام. هذا وقد كانت حريَّة النِّقاش وبحث المشاكل بين الخليفة، وولاته مكفولةً إِلى أقصى ما يمكن تصوُّره من حريَّة النِّقاش، لا يرهب الوالي سلطان الخليفة، وهذا مثال على ذلك: عندما قدم عمر على الشَّام تلقَّاه معاوية في موكبٍ عظيمٍ، فلمَّا رأى معاوية عمر؛ نزل من على صهوة جواده، ومشى إِليه؛ وقال: السَّلام على أمير المؤمنين، فمضى عمر، ولم يردَّ عليه سلامه، ومعاوية يسرع خلف جمل عمر، وكان معاوية سمينًا، فلهث. فقال عبد الرَّحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين ! أتعبت الرَّجل، فلو كلَّمته، فالتفت إِليه عمر، وقال: يا معاوية ! أأنت صاحب الموكب الَّذي أرى. فقال: نعم يا أمير المؤمنين ! قال عمر: مع شدَّة احتجابك، ووقوف ذوي الحاجات ببابك ؟ قال معاوية: نعم يا أمير المؤمنين ! قال: لِمَ ويحك ؟! قال معاوية: لأنَّنا ببلادٍ كثر بها جواسيس العدوِّ، فإِن لم نتخذ العدَّة، والعدد؛ استخفَّ بنا، وهجم علينا ! وأمَّا الحجَّاب؛ فإِنَّنا نخاف من الابتذال، وجرأة الرَّعية، وأنا بعدُ عاملك، إِن استوقفتني؛ وقفت، وإِن نهيتني؛ انتهيت يا أمير المؤمنين ! قال عمر: ما سألتك عن شيءٍ إِلا خرجت منه، إن كنت صادقاً؛ فإِنه رأي لبيب، وإِن كنت كاذباً فإِنَّها خدعة أريب، لا امرك، ولا أنهاك. وانصرف عنه.
ورغم شدَّة عمر على ولاته، ودقَّته في محاسبتهم، وإِقدامه على عزل مَنْ تحوم حوله شبهةٌ، أو تثور في حقِّه شكايةٌ ذات أثرٍ، فإِن رابطةً قويَّةً من الحبِّ، والولاء كانت تربطه بولاته الَّذين كانوا يثقون ثقةً مطلقةً في إِخلاص خليفتهم، وسلامة مقاصده، وسياسته، وتجرُّده، وعدله، لقد كان عمر إِذا غابت عنه أخبار بعض قادته في ساحات الجهاد يكاد يقتله القلق، ويستبدُّ به الخوف، والشَّفقة عليهم، وكان في بعض الحروب الكبرى يخرج بنفسه يتنطَّس الأخبار، ويتحسَّس الأنباء، علَّه يطمئن عليهم. وفي حالات أخرى كان يلتقي بهم، فنجد أمارات الحبِّ العميق بينهم، فلمَّا سار عمر لفتح بيت المقدس، وانتهى إِلى الجابية؛ لقيه قائداه عمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، فوافقا عمر راكباً، فقبَّلا ركبته، وضمَّ عمر كلَّ واحدٍ منهما محتضنهما.

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022