استمرار فتوحات العراق زمن الفاروق رضي الله عنه؛ الظروف والتداعيات
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة : الخامسة و الستون
تمثِّل الفتوحات في عهد الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ في العراق بقيادة خالد بن الوليد المرحلة الأولى من الفتوحات الإِسلاميَّة الَّتي انطلقت نحو المشرق، وقد تمَّ تفصيلها في كتابي: أبو بكر الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ شخصيَّته، وعصره. وفي عهد عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ استكملت الخطَّة على مراحل، هذه إِحداها:
أوَّلاً: تأمير أبي عُبيد الثَّقفي على حرب العراق:
لمَّا مات الصِّدِّيق ودفن ليلة الثلاثاء الثَّاني والعشرين من شهر جمادى الاخرة سنة ثلاث عشرة؛ أصبح عمر، فندب النَّاس، وحثَّهم على قتال أهل العراق، وحرَّضهم، ورغَّبَهم في الثَّواب على ذلك، فلم يقم أحدٌ لأنَّ النَّاس كانوا يكرهون قتال الفرس لقوَّة سطوتهم، وشدَّة قتالهم، ثمَّ ندبهم في اليوم الثَّاني، والثَّالث، فلم يقم أحدٌ، وتكلَّم المثنَّى بن حارثة، فأحسن، وأخبرهم بما فتح الله تعالى على يدي خالدٍ من معظم أرض العراق، وما لهم هناك من الأموال، والأملاك، والأمتعة والزَّاد، فلم يقم أحد في اليوم الثالث، فلمَّا كان اليوم الرَّابع؛ كان أوَّل من انتدب من المسلمين أبو عبيد بن مسعودٍ الثَّقفي، ثمَّ تتابع النَّاس في الإِجابة.
وكان سليط بن قيس الأنصاري قد استجاب لنداء عمر بعد أبي عبيد الثقفي وقال: يا أمير المؤمنين ! إِنَّما كان عن هؤلاء الفرس إِلى وقتنا هذا شقشقةٌ من شقاشق الشَّيطان، ألا وإِنِّي قد وهبت نفسي لله أنا، ومن أجابني من بني عمِّي، ومن اتَّبعني، فكان لكلام سليط هذا أثرٌ قويٌّ في تشجيع النَّاس، ورفع معنوياتهم، وزيادة رغبتهم في جهاد الفرس، وطالبوا الخليفة أن يولِّي عليهم رجلاً من المهاجرين، أو الأنصار، فقال عمر: والله ما أجد لها أحقَّ من الَّذين ندب النَّاس بدءاً، ولولا أنَّ سليطاً عجولٌ في الحرب؛ لأمَّرته عليكم، ولكن أبو عبيد هو الأمير، وسليط هو الوزير، فقال النَّاس: سمعاً، وطاعةً.
وجاء في رواية: وأمَّر على الجميع أبا عبيد، ولم يكن صحابيّاً، فقيل لعمر: هل أمرت عليهم رجلاً من الصَّحابة ؟ فقال: إِنَّما أُؤَمِّر أوَّل من استجاب، إِنَّكم إِنَّما سبقتم النَّاس بنصرة هذا الدِّين، وإِنَّ هذا هو الَّذي استجاب قبلكم. ثمَّ دعاه، فوصَّاه في خاصَّة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيراً، وأمره أن يستشير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يستشير سُليط بن قيس فإِنَّه رجل باشر الحروب.
وقد جاء في وصايا عمر ـ رضي الله عنه ـ لأبي عبيد الثَّقفي ما يأتي: اسمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشركهم في الأمر، ولا تجتهد مسرعاً، بل اتَّئد، فإِنَّها الحرب لا يصلحها إِلا الرَّجل المكيث؛ الَّذي يعرف الفرصة، ولا يمنعني أن أؤمِّر سليطاً إِلا سرعته إِلى الحرب، والسُّرعة إِلى الحرب إِلا عن بيانٍ ضياعٌ، والله لولا سرعته لأمَّرته! ثمَّ قال: إِنَّك تقدم على أرض المكر، والخديعة، والخيانة، والجبريَّة، تقدم على قوم تجرَّؤوا على الشَّرِّ، فعملوه، وتناسوا الخير، فجهلوه، فانظر كيف تكون ؟ واحرز لسانك، ولا تفشينَّ سرك، فإِنَّ صاحب السِّرِّ ما يضبطه متحصِّنٌ لا يؤتى من وجهٍ يكره، وإِذا لم يضبطه؛ كان بمضيعةٍ. ثمَّ أمر المثنَّى بن حارثة أن يتقدَّم إِلى أن يلحقه الجيش، وأمره أن يستنفر مَنْ حسنت توبته من المرتدِّين، فسار مسرعًا حتَّى وصل الحيرة.
وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يتابع جبهات العراق، والفرس، والشَّام، ويمدُّ الجيوش بالإِمدادات، ويرسل لهم التَّعليمات، والأوامر، ويضع الخطط للمعارك، ويشرف بنفسه على تنفيذها.
سار المسلمون إِلى أرض العراق، وهم سبعة الاف رجلٍ، وكتب عمر إِلى أبي عبيدة أن يرسل من كان بالعراق ممَّن قدم مع خالد إِلى العراق، فجهَّز عشرة الاف عليهم هاشم بن عتبة، وأرسل عمر، جرير بن عبد الله البجلي في أربعة الاف إِلى العراق، فقدم الكوفة، فلمَّا وصل النَّاس إِلى العراق؛ وجدوا الفرس مضطربين في ملكهم، واخر ما استقرَّ عليه أمرهم أن ملَّكوا عليهم بوران بنت كسرى، بعدما قتلوا الَّتي كانت قبلها أزرميدخت، وفوضت بوران أمر الملك عشر سنين إِلى رجلٍ منهم يقال له: رستم بن فرخزاد على أن يقوم بأمر الحرب، ثمَّ يصير الملك إِلى ال كسرى، فقبل ذلك، وكان رستم هذا منجِّماً يعرف النُّجوم، وعِلْمها جيِّدًا، فقيل له: ما حملك على هذا ؟ يعنون: وأنت تعلم أن هذا الأمر لا يتمُّ لك، فقال: الطَّمع، وحبُّ الشَّرف.
ثانياً: وقعة النَّمارق، ومعركة السَّقاطية بكسكر، ومعركة باروسما:
1ـ وقعة النَّمارق 13هـ:
وقد كانت هذه المعركة عقب وصول أبي عبيد، وتولِّيه قيادة الجيوش من العراق، وكأنَّما أراد منها الفرس أن يُرهبوا أبا عبيد أوَّل من انتدب، حتَّى يقهروا في نفسه إِرادة الظَّفر، ورغبة النَّصر، فأعدُّوا لها القوى الدَّاخلية، وعبَّؤوا الجند، ولقوا فيها المسلمين من خلفهم، ومن بين أيديهم، ومن أمامهم، وكتبوا إِلى دهاقين السُّودان أن يثوروا بالمسلمين، ودسُّوا في كل رستاق رجلاً ليثور بأهله، فبعثوا جابان إِلى الببهقباذ الأسفل، ونَرْسِي إِلى كسكر، وجنداً ليواقعوا المثنَّى.. وبلغ المثنَّى ذلك، فضمَّ إِليه مسالحه، وحَذِر، وخرج الدَّهاقين، وتوالوْا على الخروج، وثار أهل الرَّساتيق وتتابعوا على الثَّورة، ونزل أبو عبيد، والمثنَّى بخفَّان، وتعبَّى ثمَّ كان اللِّقاء في النَّمارق.. وكان قتالاً شديدًا هزم الله فيه أهل فارس، وأُسر جابان القائد ومردانْشاه، وكان على المُجَنَّبة، وكانا معًا هما اللَّذين تولَّيا أمر الثَّورة.
وكان الذي أسر جابان مطر بن فضَّة التَّميمي، وهو لا يعرفه، فخدعه جابان حتَّى تفلَّت منه بشيءٍ فخلَّى عنه، فأخذه المسلمون، فأتوا به أبا عبيد، وأخبروه: أنَّه قائد الفرس، وأشاروا عليه بقتله، فقال: إِنِّي أخاف الله أن أقتله، وقد أمَّنه رجلٌ مسلمٌ، والمسلمون في التوادِّ والتَّناصر كالجسد ما لزم بعضهم، فقد لزمهم كلَّهم، فقالوا: إِنَّه الملك ـ يعني: القائد. قال: وإِن كان، لا أغدر، فتركه.
_خ وهذا الموقف من أبي عبيد الثَّقفي يعتبر مثالاً على سماحة المسلمين، ووفائهم، بالعهود وإِن أبرمها بعض أفرادها، ولا شكَّ: أن هذه الأخلاق العالية كان لها أثرٌ كبيرٌ في اجتذاب النَّاس إِلى الدُّخول في الإِسلام، فحينما يتسامع النَّاس: أنَّ المسلمين أطلقوا أحد قادة الفرس؛ الذين كانوا أسرع النَّاس في عدائهم لمجرَّد: أنَّه اتفق مع أحد المسلمين على الفداء، فإِنَّهم ينجذبون إِلى أهل هذا الدِّين؛ الذي أخرج هؤلاء الرِّجال.
_خ ولا ننسى موقف المثنى بن حارثة الرَّائع حيث سلَّم الإِمارة لأبي عبيد مع أنَّه يقدم العراق لأوَّل مرَّة؛ لأن أمير المؤمنين أمَّره عليه، فكان نعم القائد، ونعم الجندي، وهذه من سجايا المثنَّى، فقد فعل ذلك مع خالد بن الوليد من قبل، ولم يختلف عطاؤه للإِسلام في حالي القيادة والجنديَّة، وهكذا يكون عظماء الرِّجال.
2ـ معركة السَّقَّاطيَّة بكَسْكَر:
ثمَّ ركب أبو عبيد في اثار مَنِ انهزم وقد لجؤوا إِلى مدينة كَسْكَر، وهي لابن خالة كسرى، واسمه نَرْسي، فوازرهم نرسي على قتال أبي عبيد، فلقيهم أبو عبيد في السَّقَّاطيَّة، فقهرهم، وغنم منهم شيئاً كثيراً، وأطعماتٍ كثيرةً جدّاً، وهرب نرسي وغلب المسلمون على عسكره، وأرضه، ووجدوا في خزائنه شيئاً عظيماً، ولم يكونوا بشيءٍ أفرح منهم بشجر النَّرسيان، لأنَّ (نَرْسي) كان يحميه، ويمالئه عليهم ملوكهم، فاقتسموه، فجعلوا يطعمونه الفلاحين، وبعثوا بخمسه إِلى عمر، وكتبوا إِليه: إِن الله أطعمنا مطاعم كانت الأكاسرة يحمونها، وأحببنا أن تروها، ولتذكروا إِنعام الله، وإِفضاله.
وفي هذا الخبر إِشارةٌ إِلى نوعٍ من الأخلاق الرَّفيعة لدى المسلمين، حيث رفعوا من شأن الفلاحين المحرومين، فأطعموهم من طعام ملوكهم، الَّذي كان محرَّماً عليهم، فكأنَّهم بهذا يقولون لهم: تعالوا إِلى هذا الدِّين العظيم؛ الذي يرفع شأنكم، ويردُّ عليكم كرامتكم الإِنسانيَّة.
وأقام أبو عبيد بكسكر، وبعث قوَّاتٍ لمطاردة الفرس، وتأديب أهل القرى المجاورة الذين نقضوا العهد، ومالؤوا الفرس، ورجحت كِفَّة المسلمين في المنطقة. بعد هذا الانتصار جاء بعض الولاة يطلبون الصُّلح، وقدَّم واليان منهم طعاماً خاصّاً لأبي عبيد من فاخر أطعمتهم، فقالوا: هذه كرامةٌ أكرمناك بها، وقِرىً لك، قال: أأكرمتم الجند، وقريتموهم مثله ؟ قالوا: لم يتيسَّر، ونحن فاعلون، فقال أبو عبيد: فلا حاجة لنا فيما لا يسع الجند، وهابوا، وخافوا على أنفسهم، فقال أبو عبيد: ألم أعلمكم أنِّي لست اكلاً إِلا ما يسع مَنْ معي مِمَّن أُصبتم بهم، قالوا: لم يبق أحد إِلا وقد أُتِيَ بشبعه من هذا في رحالهم وأفضل، فلما علم؛ قبل منهم، وأكل، وأرسل إِلى قومٍ كانوا يأكلون معه أضيافاً عليه يدعوهم إِلى الطَّعام، وقد أصابوا من نُزُل فارس، ولم يروا: أنَّهم أتوا أبا عبيد بشيءٍ، فظنُّوا أنَّهم يُدعون إِلى مثل ما كانوا يُدعون إِليه من غليظ عيش أبي عبيد، وكرهوا ترك ما أتوا به من ذلك، فقالوا له: قل للأمير: إِنَّا لا نشتهي شيئاً مع شيء أتتنا به الدَّهاقين، فأرسل إِليهم: إِنَّه طعامٌ كثير من أطعمة الأعاجم، لتنظروا أين هو ممَّا أتيتم به.
وهكذا أكل هذا الأمير الكريم المتواضع بعد ما ردَّ طعام الأعاجم مرَّتين لمَّا علم في الثَّالثة: أنهم أطعموا جميع الجند مثلما أطعموه، وأفضل، ومع هذا لم يرض أن يأكل وحده حتى دعا أضيافه، وألحَّ عليهم، حتَّى بعد أن علم: أنَّهم أصابوا من طعام الفرس، وعدَّد لهم أصناف هذا الطَّعام؛ ليرغبهم في مشاركته، وهذا لونٌ من الكرم الرَّفيع، والكرم من أهم عناصر الزَّعامة، وإِنَّ هذه المواقف ترشدنا إِلى مقدار ما بلغ إِليه الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ والتَّابعون لهم بإِحسانٍ من الرُّقيِّ الأخلاقي، والتَّقدُّم الحضاريِّ.
3ـ معركة باروسما سنة 13 هـ:
ثمَّ التقوا بمكانٍ بين كَسْكَر والسَّقَّاطية، يقال له: باروسما، وعلى ميمنة نَرْسي وميسرته ابنا خاله، بندويه، وبيرويه، وكان رستم قد جهز الجيوش مع الجالينوس، فلمَّا بلغ أبا عبيد ذلك؛ أعجل نرسي بالقتال قبل وصولهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً فانهزمت الفرس، وهرب نَرْسي، فبعث أبو عبيد المثنَّى بن حارثة، وسرايا أخر إِلى متاخم تلك النَّاحية، كنهر جور، ونحوها، ففتحها صلحاً، وقهراً، وضربوا الجزية، والخراج، وغنموا الأموال الجزيلة، ولله الحمد، وكسروا الجالينوس الَّذي جاء لنصرة جابان، وغنموا جيشه، وأمواله، وفرَّ هارباً إِلى قومه حقيراً ذليلاً.
وهكذا تمَّ القضاء على ثلاثة جيوشٍ للفرس في مدَّةٍ وجيزةٍ، وكان بإِمكان الفرس أن يوحِّدوا هذه الجيوش، وأن يأتوا المسلمين من أمامهم، وخلفهم، وعن يمينهم، وشمالهم؛ لكثرة عددهم، ولكنَّ الله أعمى بصائرهم، وكانوا لشدَّة خوفهم من المسلمين يتمنَّى كلُّ قائدٍ أن يكفيه الاخر مهمَّة المواجهة، وإِضعاف المسلمين؛ ليظفر بالنَّصر عليهم بعد ذلك، وقد أفاد المسلمين سرعةُ تحرُّكهم، وبطءُ حركة جيوش الأعداء.
ثالثاً: وقعة جسر أبي عبيد 13 هـ:
لما رجع الجالينوس هارباً ممَّا لقي من المسلمين؛ تذامرت الفرس بينهم، واجتمعوا على رستم، فأرسل جيشاً كثيفاً، عليهم ذا الحاجب بهمن جاذويه، وأعطاه راية كسرى، وتُسمَّى دِرَفْش كابيان (الرَّاية العظمى) وكانت الفرس تتيمَّن بها، وكانت من جلود النُّمور، وعرضها ثماني أذرع في طول اثني عشر ذراعاً، فوصلوا إِلى المسلمين، وبينهم النَّهر، وعليه جسر، فأرسلوا: إِمَّا أن تعبروا إِلينا، وإِما أن نعبر إِليكم، فقال المسلمون لأميرهم أبي عبيد: مرهم فليعبروا هم إِلينا، فقال: ما هم بأجرأ على الموت منَّا، ثمَّ اقتحم إِليهم، فاجتمعوا في مكانٍ ضيق هنالك، فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يُعهد مثله، والمسلمون في نحو عشرة الاف.
وقد جاءت الفرس معهم بأفْيلَةٍ كثيرةٍ عليها الجلاجل لتذعر خيول المسلمين، فجعلوا كلَّما حملوا على المسلمين فرَّت خيولهم من الفيلة وممَّا تسمع من الجلاجل الَّتي عليها، ولا يثبت منها إِلا القليل على قَسْرٍ، وِإذا حمل المسلمون عليهم لا تقدم خيولهم على الفِيلة، رشقتهم الفرس بالنَّبل، فنالوا منهم خلقاً كثيراً، وقتل المسلمون منهم مع ذلك ستَّة الاف، وقد جفلت خيول المسلمين من أصوات الأجراس المعلَّقة بالفيلة، وصار المسلمون لا يستطيعون الوصول إِليهم، والفيلة تجوس خلالهم، فترجَّل أبو عبيد، وترجل النَّاس معه، وتصافحوا معهم بالسُّيوف، وفقد المسلمون خيلهم، فأصبحوا رجَّالة يقاومون سلاح الفيلة، والفرسان، والمشاة من الفرس، إِلى جانب الرُّماة الذين أضرُّوا بالمسلمين وهم يدفعون بخيولهم نحوهم، فلا تندفع، فكان موقفاً صعباً، أظهر المسلمون فيه من البسالة والتَّضحية ما يندر أن يوجد له مثيلٌ في التَّاريخ، وصمدوا للفرس رغم تفوُّقهم عليهم في كلِّ وسائل القتال، وكانت الفيلة أشدَّ سلاحٍ واجهه المسلمون، فقد كانت تهدُّ صفوفهم، فناداهم أبو عبيد بأن يجتمعوا على الفيلة، ويقطعوا أحزمتها، ويقلبوا عنها أهلها، وبدأ هو بالفيل الأبيض، فتعلَّق بحزامه، وقطعه، ووقع الَّذين عليه، وفعل المسلمون مثل ذلك، فما تركوا فيلاً إِلا حطُّوا رحله، وقتلوا أصحابه، ولكن الفيلة استمرَّت في الهجوم لأنَّها كانت مدربةً، فرأى أبو عبيد أن يتخلَّص منها، فسأل عن مقاتلها، فقيل له: إِنها إِذا قطعت مشافرها؛ تموت، فهجم على الفيل الأبيض، ونفح خرطومه بالسَّيف، فاتَّقاه الفيل بيده وأطاح به، ثمَّ داسه بأقدامه، وأخذ الرَّاية أخوه الحكم بن مسعود، فقاتل الفيل حتى أزاحه عن أبي عبيد، ولكن وقع له ما وقع لأبي عبيد، فقد أراد الفيل قتله، فألقاه بيده، ثمَّ داسه بأقدامه، وانتقلت راية المسلمين إِلى الَّذين سماهم أبو عبيد، ومنهم أبناؤه الثَّلاثة: وهب، ومالك، وجبر، إِلى أن قتلوا جميعاً فانتقلت القيادة للمثنَّى بن حارثة مع اخر النَّهار، وكان بعض المسلمين قد عبروا الجسر منسحبين، واستمرَّ الانسحاب من الميدان، فلمَّا رأى ذلك عبد الله بن مرثد الثَّقفي؛ بادر، وقطع الجسر، وقال: موتوا على ما مات عليه أمراؤكم، أو تظفروا، وحاول منع النَّاس من العبور، فأتوا به إِلى المثنَّى، فضربه من شدَّة غضبه من صنيعه، وقال: ما حملك على الذي صنعت ؟ قال: ليقاتلوا، وقد كان اجتهاده في غير موضعه؛ لأنَّ قطع الجسر أدَّى إِلى وقوع بعض المسلمين في النَّهر، وغرقوا بسبب شدَّة الضَّغط من الفرس، فكانت الفكرة المناسبة أن يحافظ المسلمون على بقيَّتهم بالانسحاب إِن استطاعوا ذلك، وهذا هو ما قام به المثنَّى حيث أمر بعقد الجسر، ووقف هو ومن معه من أبطال المسلمين، فحموا ظهور المسلمين حتَّى عبروا، وقال المثنَّى: أيها النَّاس ! إِنا دونكم فاعبروا على هينتكم ـ يعني: على مهلكم ـ ولا تدهشوا فإِنَّا لن نزايل حتَّى نراكم من ذلك الجانب، ولا تغرقوا أنفسكم، وكان المثنَّى ومن معه من الأبطال من أمثال عاصم بن عمرو، والكلج الضَّبِّيِّ هم اخر مَنْ عبر.
وقد كان بهمن جاذويه حاول أن يجهز على بقيَّة المسلمين ولكنَّه لم يستطع، وفوَّت عليه هذه الفرصة المثنَّى حينما تولَّى قيادة هذا الانسحاب المنظَّم، ولا شكَّ أنَّ هؤلاء الأبطال الَّذين حموا ظهور المسلمين حتَّى انسحبوا قد بذلوا جهوداً جبَّارةً في الصُّمود أمام الأعداء، لقد انسحب خمسة الاف من المسلمين، وخلَّفوا وراءهم أربعة الاف من الشُّهداء منهم عدد كبير من الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ خاصَّة الذين رافقوا أبا عبيد من المدينة، وقد عاد ألفان ممَّن انسحبوا إِلى المدينة وغيرها، ولم يبق مع المثنَّى غير ثلاثة الاف، أمَّا الفرس فقد قتل منهم ستة الاف بالرَّغم من الوضع السَّيِّأى؛ الذي كان فيه المسلمون، ممَّا يدلُّ على بسالتهم، وقوة احتمالهم.
أهمُّ الدُّروس، والعبر، والفوائد من معركة جسر أبي عبيد:
أـ رؤيةٌ صادقة:
كانت دومة امرأة أبي عبيد قد رأت رؤيا: أنَّ رجلاً نزل من السَّماء بإِناءٍ فيه شرابٌ، فشرب أبو عبيد وابنه جبر في ناسٍ من أهله، فأخبرت بها أبا عبيد، فقال: هذه الشَّهادة، وعهد أبو عبيد إِلى النَّاس، فقال: إِن قتلت؛ فعلى النَّاس فلان، حتَّى عدَّ سبعةً من ثقيف من أقاربه؛ الذين ذكرتهم امرأته في الرُّؤيا، فإِن قتل اخرهم؛ فالقيادة للمثنَّى به حارثة.
ب ـ غلطتان سبَّبتا الهزيمة:
_خ مخالفة أبي عبيد لمن معه من أركان الجيش، ووجوهه، لقد نهوه عن العبور، فلم ينته، واستقلَّ برأيه، لقد عبر أبو عبيد الجسر بشجاعةٍ، وإِقدامٍ وحبٍّ للشَّهادة، لكنَّه لم يحسب للمعركة حسابها الكامل، ولم يدرس أرض المعركة، بشكلٍ كافٍ.
ولقد أفلت من يد أبي عبيد عنصر الأمن بانحصاره في مكانٍ ضيِّقِ المخرج، وكأنَّه وضع جيشه في مصيدةٍ دون عذرٍ مقبول، وأفلت من يده عنصر التَّعاون بين الأسلحة المختلفة بخروج سلاح الفرسان من المعركة، فصارت قوَّاته مشاةً دون فرسان، وكان عليهم أن يواجهوا مشاة الفرس، وفرسانهم، وأفيالهم، وفقدت المعركة كفاءة القيادة، حتَّى تولاها المثنَّى أخيراً بعد سبعةٍ سبقوه، وكما فُقد ذلك؛ فُقد أيضاً عنصر الحشد بسبب ضيق المكان؛ إِذ لا فائدة من أعداد الجند؛ إِذا لم تسعفها طوبوغرافيَّة الأرض، كما أنَّه فقد حسن اختيار الهدف وما يتفرَّع عنه من اختيار الأرض، واختيار طريق الوصول إِليه، وطريق ضربه، وما إِلى ذلك، فوَّته على نفسه، بل أتاح لعدوِّه أن يفرضه عليه.
_خ والَّذي زاد غلطة أبي عبيد فداحةً غلطةٌ زادت الغلطة الأولى أثراً، وخسارةً، وفاجعة، إِنَّها غلطة عبد الله بن مرثد الثَّقفي عندما قطع الجسر، كي لا يرتدَّ أحدٌ من المسلمين، ولولا الله، ثم ثبات المثنَّى بن حارثة، ومن معه؛ لهلك المسلمون عن اخرهم.
جـ قيمة القيادة الميدانيَّة:
إِنَّ معركة الجسر أثبتت أهميَّة القيادة الميدانيَّة المتمثِّلة في المثنَّى، وأركان قيادته الَّذين معه، فعندما تنزل المحن بالجيوش يخرج القادة الذين يستطيعون أن يخرجوا بجيوشهم من تلك المحن، فقد تولَّى المثنَّى مع مساعديه من الأبطال حماية الجيش الإِسلامي، فكان اخرَ مَنْ عبر الجسر، وهذا لونٌ رفيعٌ من ألوان التَّضحية، والفداء.
د ـ المثنَّى يقوم برفع الرُّوح المعنويَّة لجيشه:
انسحب المثنَّى بأربعة الاف جنديٍّ من أصل عشرة الاف، وقام بمطاردته قائدان فارسيان، هما: (جابان) و(مردنشاه) باتِّجاه أُلَّيس (السَّماوة)، وجرَّهما المثنى وراءه مسافةً حتَّى توغَّلا، ولم يشأ أن يبدأ حملةً مضادة إِلا بعد مرحلة من الانسحاب، وعند بلوغه السَّماوة؛ شنَّ هجوماً صاعقاً بالخيالة الَّتي قادها، بنفسه، فأنزل بهما هزيمةً عجيبةً، ويبدو: أنَّ هول المفاجأة، وعدم تصوُّرهما: أنَّ إِنسانًا قد أبيد معظم جيشه، يمكن أن يكون له مثل هذا العزم الَّذي يفلُّ الحديد، ومن شدَّة ذهول القطعات الفارسيَّة؛ أنزلت بها خسائر كبيرة، بحيث تمكَّن المثنَّى من أسر القائدين: جابان، ومردنشاه، وأعدمهما المثنَّى، فكان لهذا النَّصر أثرٌ كبير في تقوية معنويات البقيَّة الباقية من الجيش، ورفعت الموقعة معنويات سكَّان المنطقة، ورفعت قيمة المثنَّى في نظر جنوده، والقبائل المجاورة.
هـ كلَّما وقع المسلمون الصَّادقون في مأزقٍ حرجٍ؛ قيَّض الله لهم الأسباب؛ الَّتي تخرجهم من ذلك الحرج:
بقي المثنَّى في العراق في عددٍ قليل لا يكفي حتَّى للاحتفاظ بالممالك الَّتي استولى عليها المسلمون، ولقد كان بإِمكان الفرس أن يلاحقوا بقيَّة الجيش الإِسلامي حتَّى يخرجوهم من العراق، وسيجدون ممَّن بقي على الولاء لهم من العرب من يتولَّى مطاردتهم في الصَّحراء، ولكن الله تعالى مع هذه الفئة المؤمنة، ومع المؤمنين في كلِّ مكان، فكلَّما وقع المسلمون الصَّادقون في مأزق حرج؛ قيَّض الله لهم الأسباب للخروج منه، فقد قيَّض المولى ـ عزَّ وجلَّ ـ أمراً صدَّهم عن المسلمين، حيث انقسموا إِلى قسمين، قسم مع رستم، وقسم مع فيرزان، وأتى الخبر إِلى قائد الفرس بهمن جاذويه، فأسرع بالعودة إِلى المدائن، وكان ممَّن ينظر إِليه في أمور سياستهم، وهكذا كفى الله المؤمنين القتال، وأنقذهم من هذا المأزق الحرج، وأخذوا فرصةً كافية لتلقِّي الجيوش القادمة من دار الخلافة، حتَّى تقوَّوا، وتكوَّن لديهم جيشٌ كبير.
وـ موقف عمر ـ رضي الله عنه ـ عندما تلقَّى خبر الهزيمة:
بعث المثنَّى بن حارثة بأخبار المعركة إِلى الخليفة عمر ـ رضي الله عنه ـ مع عبد الله بن زيد الأنصاري، فقدم على عمر، وهو على المنبر، فقال: ما عندك يا عبد الله بن زيد ؟! قال: أتاك الخبر يا أمير المؤمنين ! فلمَّا انتهى إِليه أخبره خبر النَّاس سرّاً، فما سمع لرجلٍ حضر أمراً تحدَّث عنه أثبت خبراً منه.
وقد تأثَّر عمر ومن حوله من الصَّحابة لمصاب الجيش الإِسلامي في هذه المعركة، وقال: الّلهُمَّ كلُّ مسلمٍ في حلٍّ منِّي ! أنا فئة كلِّ مسلمٍ. من لقي العدوَّ ففظَّع بشيءٍ من أمره، فأنا له فئةٌ، يرحم الله أبا عبيد ! لو كان انحاز إِليَّ؛ لكنت له فئة.وهذا الموقف يدلُّ على أنَّ عمر وهو الرَّجل القويُّ الحازم يلين، ويواسي في مقام الرَّحمة، والعطف.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf