الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

استمرار فتح العراق زمن الفاروق... المثنى بن حارثة وحسه الإستراتيجي في عمليات الأسواق

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة السابعة والستون

استقام الأمر للمسلمين بعد معركة البويب، وانقاد لهم السَّواد، وأخذ المثنّى يجول هنا، وهناك؛ وزَّع القواد، وأذكى المسالح، وأغار على تجمُّعات الفرس، والعرب، وكان من هذه الغارات غارته على الخنافس، وهي سوقٌ يتوافى إِليها النَّاس، ويجتمع بها ربيعة، ومضر يخفرونهم، فأغار عليها، وانتسف السُّوق وما فيها، وسلب الخضراء، ثمَّ سار مسرعاً حتّى طرق دهاقين الأنبار في أوَّل النَّهار من نفس اليوم، وهو يقول:
صَبَحْنا بالخَنافِسِ جَمْعَ بَكْرٍ وَحَيّاً مِنْ قُضاعَةَ غَيْرَ ميلِ
بِفِتْيانِ الوَغى مِنْ كُلِّ حيٍّ تُباري في الحوادث كلَّ جِيْل
أِبَحْنا دارَهُمْ والْخَيْلُ تُرْدي بكلِّ سَمَيْدَعٍ سامي التَّلِيْلِ
نَسَفْنا سُوْقَهُمْ وَالْخَيْلُ رُوْدٌ مِنَ التَّطْوافِ وَالشَّرِّ البَخِيْلِ
واستعان بدهاقين الأنبار، وأخذ منهم أدلاء، ورتَّب خطَّةً لكسح سوق بغداد، وعبر دجلة، وطلع على بغداد، وسوقها مع أوَّل ضوء النَّهار، فوضع فيهم السَّيف، وقتل منهم وأخذ أصحابه ما شاؤوا، وكان أمر المثنّىلهم: لا تأخذوا إِلا الذَّهب، والفضَّة، ولا تأخذوا من المتاع إِلا ما يقدر الرَّجل منكم على حمله على دابَّته، وهرب أهل الأسواق، وملأ المسلمون أيديهم من الذَّهب، والفضَّة، والحُرِّ من كلِّ شيءٍ، ثمَّ كرُّوا راجعين حتّى إِذا كانوا بنهر السَّبلحين، وعلى حوالي خمسةٍ وثلاثين كيلو متراً من بغداد نزل، وقال: أيُّها الناس ! انزلوا، وقَضُّوا أوطاركم، وتأهَّبوا للسَّير، واحمَدوا الله، وسلوه العافية، ثم انكشفوا قبيضاً. ففعلوا، لقد قطعوا نحواً من ستين كيلو متراً على ظهور الخيل تخلَّلها غارةٌ، كلُّ ذلك في مرحلةٍ واحدةٍ منذ قاموا في اخر الليل إِلى بغداد حتّى عادوا، ورأى المثنّى: أنَّهم في حاجة إِلى استراحةٍ، وكذلك خيلهم، وكان المسلمون يدركون عمق ما أوغلوا، وبينما المثنّى يمرُّ بينهم؛ إِذ سمع همساً، قال قائل منهم: ما أسرع القوم في طلبنا، فقال المثنّى: تناجوا بالبرِّ والتَّقوى، ولا تتناجوا بالإِثم والعدوان.. انظروا في الأمور وقدِّروها (احسبوها) ثمَّ تكلَّموا.. إِنَّه لم يبلغ النذير مدينتهم بعد، ولو بلغهم لحال الرُّعب بينهم وبين طلبكم، إِنَّ للغارات روعات تنتشر عليها يوماً إِلى اللَّيل، ولو طلبكم المحامون من رأي العين، ما أدركوكم؛ وأنتم على الجياد الغراب (الخيل الأصيلة) وهم على المقاريف البطاء حتّى تنتهوا إِلى عسكركم، وجماعتكم، ولو أدركوكم؛ لقاتلتهم لاثنتين، التماس الأجر، ورجاء النَّصر، فثقوا بالله، وأحسنوا به الظَّنَّ، فقد نصركم الله في مواطن كثيرة، وهم أعدُّ منكم (أكثر عدداً) وسأخبركم عنِّي، وعن انكماشي، والذي أريد بذلك: إِنَّ خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أوصانا أن نقلل العُرجة (الإِقامة) ونسرع الكرَّة في الغارات، ونسرع في غير ذلك الأوبة (الإِياب) .
هذا فهم المثنى للحروب والقتال، فقد كان يتحرَّك على حسابٍ محسوبٍ، وتخطيط مرسومٍ، وإِيمانٍ عميق، فكلُّ معركةٍ تضيف إِليه درايةً، وتجربةً، وعلماً، ومعرفةً، وهي تكشف لنا عن عبقرية الصِّدِّيق الحربيَّة النّادرة الَّتي تتلمذ المثنّى عليها، وأفاد منها، رغم أنَّه لم يلقه إِلا أقلَّ من القليل.
نهض المثنّى، وأمرهم بالرُّكوب، وأقبل بهم، ومعهم أدلاؤهم يقطعون بهم الصَّحارى، والأنهار حتّى انتهى بهم إِلى الأنبار، فاستقبلهم الدّهاقين بالإِكرام، واستبشروا بسلامته، وكان وعدهم الإِحسان إِليهم؛ إِذا استقام لهم من أمرهم ما يحبُّون، وقال أحدهم:
وَلِلْمُثَنّى بِالعالِ مَعْرَكَةٌ شاهَدَها مِنْ قبيلة بَشَرُ
كَتِيْبَةٌ أَفْزَعَتْ بِوَقْعَتِها كِسْرى وكادَ الإِيوانُ يَنْفَطِرُ
وشُجِّعَ المُسْلِمُونَ إِذ حَذِروا وَفي صُرُوفِ التَّجارِبِ العِبَرُ
سَهَّل نَهْجَ السَّيْلِ فَاقْتَفَروا اثارَه والأمُورُ تُقْتَفَرُ
ووسَّع المثنّى غارته على شمال العراق، حتّى شمل من أقصى شماله إِلى أقصى جنوبه، فأرسل غارته على الكباث، وكان أهله كلُّهم من بني تغلب، فأخلوه، وارفضُّوا عنه، وتبعهم المسلمون يركبون اثارهم، وأدركوا أخرياتهم، وقتلوا، وأكثروا، وأرسل غارةً على أحياء من تغلب، والنَّمر بصفِّين.
وكان المثنّى بن حارثة سيِّد هذه الغارات كلِّها بعد البُويب، وكان على مقدَّمته حذيفة بن محصن الغلفاني، وعلى مجنبَّته النُّعمان بن عوف بن النُّعمان، ومطر الشيبانيَّان، وقد حدث في إِحدى غارات المثنّى أن أدركت قوَّاته مجموعةً من الأعداء بتكريت يخوضون الماء، فأصابوا ما شاؤوا من النَّعم، حتّى أصاب الرَّجل خمساً من النَّعم، وخمساً من السَّبي، وخمس المال، وجاد به حتى ينزل على النَّاس بالأنبار، وعاد المثنّى إِلى الأنبار، فبعث فرات بن حيّان، وعتيبة بن النَّهاس إِلى صِفِّين وأمرهم بالغارة على أحياء العرب من تغلب، والنَّمر، ثمَّ استخلف على الأنبار ـ والَّتي اتَّخذها قاعدةً متقدِّمةً ـ عمرو بن أبي سُلمى الهُجيمي، واتّبعهما، فلمَّا اقتربوا من صفِّين؛ افترق المثنّى عن فرات، وعتيبة، وفرَّ أهل صفِّين، فعبروا الفرات إِلى الجزيرة، وتحصَّنوا بها، وكانوا من قبائل النَّمر، وتغلب متساندين، فاتبعهم فرات، وعتيبة حتّى رموا بطائفةٍ منهم في الماء، فكانوا ينادونهم (الغرق، الغرق) وكان عتيبة، وفرات يحضَّان الناس، ويحرِّضانهم، ويقولان: (تغريقٌ بتحريقٍ) يذكِّرانهم يوماً من أيام الجاهليَّة أحرقوا فيه قوماً من بكر بن وائل في غيضةٍ من الغياض، ثمَّ رجعوا إِلى المثنّى، وقد أغرقوهم في الفرات، وبلغ خبر ذلك إِلى عمر بالمدينة، فقد كانت له عيونٌ في كلِّ جيشٍ تكتب له، فطلب فرات بن حيّان، وعتيبة إِلى المدينة، وأجرى معهما تحقيقاً في هذا، فأخبراه أنَّهما قالا ذلك على وجه: أنَّه مثلٌ، ولم يفعلاه على وجه طلب ثأر الجاهليَّة، فاستحلفهما، فحلفا: أنَّهما ما أرادا بذلك إِلا المثل، وإِعزاز الإِسلام، فصدَّقهما عمر، وردَّهما إِلى العراق، فرجعا إِليه مع حملة سعد بن أبي وقّاص، فقد كان الفاروق حريصاً على صيانة أخلاق الرَّعيَّة، وحياطتها من تسرُّب الفساد إِليها.
لقد استغلَّ المثنّى النَّصر الرّائع الَّذي أحرزه المسلمون يوم البويب، وشنَّ غاراتٍ منظمةً على أسواق شمال العراق، فطبَّق مبدأ مطاردة الأعداء، وقد استطاع بعد توفيق الله، ثمَّ بما أعطاه الله من صفات القائد العسكري أن ينفِّذه في قوَّةٍ، وعمقٍ بلغ حوالي أربعمئة كيلو متراً، أو يزيد شمالاً، خلاف ما تبحبحوا به شرقاً، وجنوباً، وغرباً على امتداد ذلك الخطِّ، وقد طبَّق المثنّى استراتيجية، وتكتيكات الحرب الخاطفة في عملياته تلك، ولا شكَّ: أنَّ هذه العمليات قد وجهت إِلى السُّلطة الفارسيَّة الحاكمة في المدائن أكبر إِهانةٍ أمام شعبها، وأضعفت الثِّقة في قدرتها على القيام بالدِّفاع ضدَّ هجمات قومٍ كان الفرس حتّى وقتها ينظرون إِليهم نظرةً ملؤها الإِهانة، والازدراء.
ردُّ فعل الفرس:
لم تكن أحداثٌ كالَّتي وقعت لتمرَّ دون أن يكون لها ردُّ فعلٍ في الدوائر الحاكمة في فارس، واجتمع ساداتهم، وقالوا لرستم، ولفيرزان: أين يذهب بكما الاختلاف حتّى وهَّنتما أهل فارس، وأطمعتما فيهم عدوَّهم، والله ما جرَّ هذا الوهن علينا غيركم يا معشر القوّاد ! لقد فرَّقتم بين أهل فارس، وثبَّطتموهم عن عدوِّهم، إِنَّه لم يبلغ من خطركما أن تقرَّكما فارسٌ على هذا الرَّأي، وأن تعرِّضاها للهلكة، ما تنظرون والله إِلا أن ينزل بنا ونهلك ! ما بعد بغداد، وساباط، وتكريت إِلا المدائن. والله لتجتمعانِّ، أو لنبدأنَّ بكما قبل أن يشمت بنا شامتٌ ! والله لولا أنَّ في قتلكم هلاكنا لعجَّلنا لكم القتل السّاعة ! ولئن لم تنتهوا لنهلكنَّكم، ثمَّ نهلك وقد اشتفينا منكم.
وبعد ذلك ذهب رستم، وفيرزان إِلى بوران، فقالا لها: اكتبي إِلى نساء كسرى، وسراريه، ونساء ال كسرى، وسراريهم، ففعلت، وأخرجت لهم ذلك في كتابٍ، فأرسلوا في طلبهنَّ، فأتوا بهنَّ جميعاً، فسلموهنَّ إِلى رجالٍ يعذبونهنَّ، ويستدلُّونهنَّ على ذَكَرٍ من أبناء كسرى، فلم يوجد عندهنَّ منهم أحد، ولكنَّ إِحداهنَّ ذكرت: أنَّه لم يبق إِلا غلامٌ يدعى: يزدجرد من ولد شهريار بن كسرى، وأمُّه من أهل بادوريا، فأرسلوا إِليها، وأخذوها به يطلبونه منها، وكانت حين جمعهنَّ عمُّه شيرويه في القصر الأبيض، وقتل ذكور ال كسرى هم وإخوته السَّبعة عشر حتّى لا ينافسه أحدٌ على عرش فارس قد هرَّبته، وأخفته عند أخواله في إِصطخر، وكان شيرويه قد قتل فيمن قتل أخاه شهريار بن كسرى برويز من زوجته المفضَّلة شيرين، وهو والد يزدجرد هذا، فضغطوا على أمِّ يزدجرد، فدلَّتهم عليه، فأرسلوا إِليه، فجاؤوا به باعتباره الذَّكر الوحيد الباقي من بني ساسان، فملَّكوه، وهو ابن إِحدى وعشرين سنة، واجتمعوا عليه، واطمأنَّ جميع الفرس لذلك، فتباروا في طاعته، ومعونته، ورأوا في ذلك مخرجاً ممّا كانوا فيه، وبدأ يزدجرد الثّالث يزاول سلطانه بمعونة رستم، وفيرزان، فجدَّد المسالح، والثُّغور الَّتي كانت لكسرى، وخصَّص جنداً لكلِّ مسلحة فسمّى جند الحيرة، والأنبار، وجند الأبلة.

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022