الفاروق يطلب من سعدٍ أن يرسل وفداً لمناظرة ملك الفرس
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة التاسعة والستون
قال عمر لسعد في رسائله: لا يكربنَّك ما يأتيك عنهم، ولا ما يأتونك به، واستعن بالله، وتوكَّل عليه، وابعث إِليه رجالاً من أهل النَّظر، والرَّأي، والجلد يدعونه فإِن الله جاعل دعاءهم توهيناً لهم، وفلجاً عليهم. وطلب الفاروق من سعدٍ أن يكتب له كلَّ يومٍ، وشرع في جمع رجالٍ من أهل النَّظر، والرأي، والجلد، فكان الَّذين وقع عليهم الاختيار من أهل الاجتهاد، والآراء، والأحساب:
1 ـ النُّعمان بن مُقرِّن المزني.
2 ـ بُسر بن أبي رُهم الجهني.
3 ـ حملة بن جُويّة الكناني.
4 ـ حنظلة بن الرَّبيع التَّميمي.
5 ـ فرات بن حيَّان العجلي.
6 ـ عدي بن سهيل.
7 ـ المغيرة بن زرارة بن النبَّاش بن حبيب.
واختار سعد نفراً عليهم مهابةٌ، ولهم منظرٌ لأجسامهم، ولهم اراء نافذة.
1 ـ عطارد بن حاجب التَّميمي.
2 ـ الأشعث بن قيس الكندي.
3 ـ الحارث بن حسَّان الذهلي.
4 ـ عاصم بن عمرو التَّميمي.
5 ـ عمرو بن معدي كرب الزَّبيدي.
6 ـ المغيرة بن شعبة الثَّقفي.
7 ـ المعنَّى بن حارثة الشَّيباني.
فهم أربعة عشر داعيةً، بعثهم سعد دعاةً إلى ملك الفرس بأمر عمر ـ رضي الله عنه ـ وهم من سادات القوم، كما أرادهم عمر ـ رضي الله عنه ـ كي يستطيعوا دعوة يزدجرد بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالَّتي هي أحسن، ولعلَّ الله يهديه هو وجنده للإِيمان، وتحقن دماء الطرفين. لقد كان هذا الوفد المنتقى على درجةٍ عاليةٍ من الكفاية، والقدرة لما أوفد له، فبالإِضافة إِلى ما يتمتَّعون به من جسامةٍ، وقوَّةٍ، ومهابةٍ، وحسن رأيٍ، فلهم أيضاً سبق معرفة بالفرس، فقد كان منهم من عاركهم، وعركهم، ومارس معهم الحروب في حملاتٍ سابقةٍ، ومنهم من وفد في الجاهلية على ملوك الفرس، ومنهم من يعرف اللُّغة الفارسيَّة، فكأنَّ سعد اختارهم لهذه الوفادة بعد أن اجتاز كلٌّ منهم كشفاً فنِّيَّاً من حيث كفاءته، وحسن رأيه، وكشفاً طبيّاً من حيث قوَّته، وضعفه، وكشف هيئة من حيث لياقته وجسامته. لقد كان الوفد يتمتَّع بميزتي الرَّغبة، والرَّهبة الَّتي تتوفَّر في جسامتهم، ومهابتهم، وجلدهم، وشدَّة ذكائهم.
وتحرَّك هذا الوفد الميمون بقيادة النُّعمان بن مقرن، فوصلوا المدائن، وأدخلوا على ملك الفرس يزدجرد، فسألهم بواسطة ترجمانه: ما جاء بكم، ودعاكم إِلى غزونا والولوغ ببلادنا ؟ أمن أجل أنَّا تشاغلنا عنكم اجترأتم علينا ؟
فقال النُّعمان بن مقرن لأصحابه، إن شئتم تكلَّمت عنكم، ومن شاء اثرته، فقالوا: بل تكلَّم، فقال: (إِنَّ الله رحمنا، فأرسل إِلينا رسولاً يأمرنا بالخير، وينهانا عن الشرِّ، ووعدنا على إِجابته خيري الدُّنيا والاخرة، فلم يدع قبيلة إِلا وقاربه منها فرقةٌ، وتباعد منه منها فرقةٌ، ثمَّ أمر أن نبتدأى بمن خالفه من العرب، فبدأنا بهم، فدخلوا معه على وجهين مكرهٌ عليه، فاغتبط، وطائعٌ فازداد، فتعرَّفنا جميعاً فضل ما جاء به على الَّذي كنَّا عليه من العداوة، والضِّيق، ثمَّ أمرنا أن نبتدأى بمن جاورنا من الأمم، فندعوهم إِلى الإِنصاف. فنحن ندعوكم إِلى ديننا، وهو دين حسَّن الحسن، وقَبَّح القبيح كلَّه، فإِن أبيتم؛ فأمرٌ من الشرِّ هو أهون من اخر شرٍّ منه: الجزية، فإِن أبيتم؛ فالمناجزة، فإِن أجبتم إِلى ديننا خلَّفنا فيكم كتاب الله، وأقمناكم عليه على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم، وشأنكم وبلادكم، وإِن بذلتم الجزاء؛ قَبِلنا، ومنعناكم، وإِلا قاتلناكم).
فقال ملك الفرس يزدجرد: إِنِّي لا أعلم في الأرض أمَّةً كانت أشقى، ولا أقلَّ عدداً، ولا أسوأ ذات بين منكم، فقد كنا نوكل بكم قرى الضَّواحي، فيكفوننا أمركم، ولا تطمعون أن تقوموا لفارس، فإِن كان غررٌ لحقكم؛ فلا يغرنَّكم منا، وإِن كان الجهد، فرضنا لكم قوتاً إِلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم وملَّكنا عليكم ملكاً يرفُق بكم.
فقام المغيرة بن زرارة، فقال: أمَّا ما ذكرت من سوء الحال؛ فكما وصفت، وأشدَّ. وذَكَر من سوء عيش العرب ورحمة الله بهم بإِرسال النَّبي صلى الله عليه وسلم.. مثل مقالة النُّعمان.. ثمَّ قال: « اختر إِمَّا الجزية عن يدٍ وأنت صاغرٌ، أو السَّيف، وإِلا فنجِّ نفسك بالإِسلام».
فقال يزدجرد: لولا أنَّ الرسل لا تقتل لقتلتكم، لا شيء لكم عندي، ثم استدعى بوقرٍ من ترابٍ، وقال لقومه: احملوه على أشرف هؤلاء، ثمَّ سوقوه حتَّى يخرج من باب المدائن، فقام عاصم بن عمرو، وقال: أنا أشرفهم، وأخذ التراب فحمله، وخرج إِلى راحلته، فركبها، ولما وصل إِلى سعدٍ قال له: (أبشر، فوالله لقد أعطانا الله أقاليد ملكهم !) .
ثمَّ إِنَّ رستم خرج بجيشه الهائل، مئة ألف، أو يزيدون من ساباط، فلمَّا مرَّ على كوثى ـ قرية بين المدائن وبابل ـ لقيه رجلٌ من العرب، فقال له رستم: ما جاء بكم، وماذا تطلبون منَّا ؟ قال: جئنا نطلب موعود الله بملك أرضكم، وأبنائكم؛ إِن أبيتم أن تسلموا، قال رستم: فإِن قتلتم قبل ذلك ؟ قال: من قتل منا دخل الجنة، ومن بقي أنجزه الله وعده، فنحن على يقينٍ، قال رستم: قد وُضعنا إِذاً في أيديكم ؟ قال العربيُّ: أعمالكم وضعتكم، فأسلمكم الله بها، فلا يغرنَّك ما ترى حولك، فإِنَّك لست تجادل الإِنس، وإِنما تجادل القدر !
فغضب منه رستم، وقتله، فلمَّا مرَّ بجيشه على البرس ـ قرية يبن الكوفة والحلَّة ـ غصبوا أبناء أهله، وأموالهم، وشربوا الخمور، ووقعوا على النِّساء ! فشكا أهل البرس إلى رستم، فقال لقومه: « والله لقد صدق العربيُّ ! والله ما أسلَمَنا إِلا أعمالنا ! والله إِنَّ العرب مع هؤلاء وهم لهم حربٌ أحسن سيرةً منكم »!
ولما علم سعد أمير جيش المسلمين خبر رستم، أرسل عمرو بن معد يكرب الزَّبيدي، وطليحة بن خويلد الأسدي يستكشفان خبر الجيش مع عشرة رجالٍ، فلم يسيروا إِلا قليلاً حتى رأوا سرح العدو منتشراً على الطُّفوف، فرجعوا إِلا طليحة، فإِنه ظل سائراً حتَّى دخل جيش العدو، وعلم ما فيه، فرجع إِلى سعدٍ، وأخبره خبره، وكان طليحة هذا من زعماءِ الردَّة.
وقد سمح الفاروق لمن ارتدَّ، وتاب من العرب بالاشتراك في الجهاد، وكان الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ يمنع ذلك، وكان الفاروق يمنع مَنْ خرج من زعماء أهل الردَّة بعد توبته إِلى الجهاد أن يتولَّى إِمارةً، ولم يولِّ منهم أحداً، وحرص على أن يتربَّوا على معاني الإِيمان، والتَّقوى، وأتاح لهم فرصةً ثمينةً ليعبِّروا فيها عن صدق إِيمانهم، وتقواهم، وكان لطليحة الأسدي، وعمرو الزَّبيدي مواقف مشهودة في حروب العراق، والفرس.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf