شكاوى من الرَّعيَّة في الولاة زمن خلافة الفاروق رضي الله عنه؛ تحقيقات مستمرة لإقرار العدل الإسلامي
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الثانية والستون
كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يحقِّق بنفسه في شكاوى الرَّعية ضدَّ ولاتهم وكان يحرص على استيضاح الأمر، والتَّحقيق الدَّقيق، واستشارة أصحاب الرأي والشُّورى الذين كانوا من حوله، ثمَّ كانت تأتي أوامره في تنفيذ الجزاء والعقوبة على من يستحقُّ سواءٌ أكان عاملاً، أم من الرَّعية، وهذه بعض الشَّكاوى ضدَّ الولاة، وكيف تعامل عمر معها رضي الله عنه:
1 ـ شكاوى أهل الكوفة في سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه:
اجتمع نفرٌ من أهل الكوفة بزعامة الجرَّاح بن سنان الأسديِّ، فشكوا أميرهم سعد بن أبي وقَّاص ـ رضي الله عنه ـ إِلى أمير المؤمنين عمر، وذلك في حال اجتماع المجوس في نهاوند لغزو المسلمين، فلم يشغلهم ما داهم المسلمين في ذلك، ولقد كان سعد عادلاً، رحيماً بالرَّعية، قويّاً، حازماً على أهل الباطل، والشِّقاق، عطوفاً على أهل الحقِّ، والطَّاعة، ومع ذلك شغب عليه هؤلاء القوم ممَّن لا يطيقون حكم الحقِّ، ويريدون أن يحقِّقوا شيئاً من أهوائهم، وقد وقَّتوا لشكواهم وقتاً رأوا: أنَّه أدعى لسماع أمير المؤمنين منهم، حيث كان المسلمون مقبلين على معركة مصيريَّة تستدعي اتِّفاق كلمة المسلمين، وتضافر جهودهم في مواجهتها، وحيث كانوا يعلمون اهتمام عمر الشَّديد باجتماع كلمة المسلمين دائماً، وخاصَّةً في مثل تلك الظُّروف، فرجوا أن يفوزوا ببغيتهم، وقد استجاب أمير المؤمنين لطلبهم في التَّحقيق في أمر شكواهم، مع علمه بأنَّهم أهل هوىً وشرٍّ، ولم يكتمهم اعتقاده فيهم، بل صرَّح لهم بذلك، وبيَّن لهم: أنَّ اعتقاده بظلمهم لواليهم، وتزويرهم الحقائق لا يمنعه من التَّحقيق في أمرهم، واستدلَّ على سوء مقصدهم بتوقيتهم السَّيِّأى، حيث قال لهم: إِنَّ الدَّليل على ما عندكم من الشَّرِّ نهوضكم في هذا الأمر وقد استعدَّ لكم من استعدُّوا.. وايم الله ! لا يمنعني ذلك من النظر فيما لديكم وإِن نزلوا بكم، فبعث عمر محمَّد بن مسلمة والنَّاس في الاستعداد للأعاجم، والأعاجم في الاجتماع، وكان محمَّد بن مسلمة هو صاحب العمَّال الَّذي يقتصُّ اثار مَنْ شكى زمان عمر، فقدم محمَّدٌ على سعدٍ ليطوف به في أهل الكوفة، والبعوث تضرب على أهل الأمصار إِلى نهاوند، فطوَّف به على مساجد أهل الكوفة، لا يتعرَّض للمسألة عنه في السِّرِّ، وليست المسألة في السِّرِّ من شأنهم إِذ ذاك.
وفي هذا بيانٌ لمنهج الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ في التَّحقيق في قضايا الخلاف الَّتي تجري بين المسؤولين ومَنْ تحت ولايتهم، فالتَّحقيق يتمُّ في العلن، وذلك بحضور المسؤول والَّذين هو مسؤول عنهم، وكان لا يقف على مسجدٍ فيسألهم عن سعدٍ إِلا قالوا: لا نعلم إِلا خيراً، ولا نشتهي به بدلاً، ولا نقول فيه، ولا نعين عليه، إِلا مَنْ مالأ الجرَّاح بن سنان، وأصحابَه، فإِنَّهم كانوا يسكتون لا يقولون سوءاً، ولا يسوغ لهم، ويتعمَّدون ترك الثناء حتَّى انتهوا إِلى بني عبسِ. فقال محمَّد: أنشد بالله رجلاً يعلم حقّاً إِلا قال، قال أسامة بن قتادة: اللَّهمَّ إِنْ نشدتنا ! فإِنَّه لا يقسم بالسَّوِيَّة، ولا يعدل في الرَّعية، ولا يغزو في السَّريَّة. فقال سعد: اللَّهُمَّ إِن كان قالها كذباً، ورئاءً، وسمعةً فأعم بصره، وأكثر عياله، وعرِّضه لمضلات الفتن، فعمي، واجتمع عنده عشر بناتٍ، وكان يسمع بخبر المرأة، فيأتيها حتَّى يحبسها، فإِذا عثر عليه؛ قال: دعوة سعدٍ الرَّجل المبارك. قال: ثمَّ أقبل ـ يعني: سعد ـ على الدُّعاء على النَّفر، قال: اللَّهُمَّ إِن كانوا خرجوا أشراً، وبطراً، وكذباً فاجهد بلاءهم ! فجهد بلاؤهم، فقطِّع الجراح بالسُّيوف يوم ثاور الحسن بن عليٍّ ليغتاله بساباط، وشُدخ قُبيصة بالحجارة، وقتل أربد بالوجء ـ يعني: الضرب ـ وبنعال السُّيوف ـ يعني: بأعقابها.
هذا وإِنَّ في هذا الخبر نموذجاً من معيَّة الله تعالى لأوليائه المتَّقين، حيث استجاب الله تعالى دعوة سعدٍ على مَنْ ظلموه، فأصيبوا جميعاً بما دعا عليهم، وإِنَّ في استجابة الله تعالى دعاء سعد، وأمثاله لوناً من العناية الإِلهيَّة بأولياء الله المتَّقين، فكم خاف المبطلون من هذا السِّلاح الخفي؛ الَّذي لا يملكون بكلِّ وسائلهم المادِّيَّة مقاومته، ولا الحدَّ منه، وكون هؤلاء الَّذين دعا عليهم سعدٌ ختم لهم بالخاتمة السَّيِّئة دليلٌ على تمكُّن الهوى، والشَّرِّ من نفوسهم، حتَّى أدَّى بهم ذلك إِلى المصير السَّيِّأى، وقد دافع سعد عن نفسه، فقال: إِنِّي لأول رجل أهرق دماً من المشركين، ولقد جمع لي رسول الله أبويه، وما جمعهما لأحدٍ قبلي ـ يعني: حينما قال له يوم أحد: «ارم فداك أبي، وأمي !» ـ ولقد رأيتني خمس الإِسلام، وبنو أسدٍ تزعم أنِّي لا أحسن أن أصلي، وأن الصَّيد يلهيني. وخرج محمَّد بن مسلمة به وبهم إِلى عمر حتَّى قدموا عليه، فأخبره الخبر، فقال: يا سعد ! ويحك كيف تصلي ؟ قال: أطيل الأوليين، وأحذف الأخريين، فقال: هكذا الظنُّ بك.
ثمَّ قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: لولا الاحتياط؛ لكان سبيلهم بيِّناً. ثمَّ قال: مَنْ خليفتك يا سعد على الكوفة ؟! فقال: عبد الله بن عبد الله بن عتبان، فأقرَّه، واستعمله، وقول عمر ـ رضي الله عنه ـ: لولا الاحتياط؛ لكان سبيلهم بيِّناً يعني: قد اتَّضح أمرهم، وأنَّهم ظالمون جاهلون، وظهرت براءة سعدٍ ممَّا نسبوه إِليه، ولكنَّ الاحتياط لأمر الأمَّة يقتضي درء الفتن، وإِماتتها وهي في مهدها قبل أن تستفحل، فتسبِّب الشِّقاق، والفرقة، وربما القتال، وإِذا كان المسؤول المدَّعى عليه بريئاً ممَّا نسب إِليه؛ فإِنَّ ذلك لا يضرُّه بشيءٍ، وقد برئت ساحته ممَّا نسب إِليه من التُّهمة.
وقد كانوا يفهمون الولاية مغرماً، لا مغنماً، وتكليفاً يرجون به ثواب الله تعالى، فالولاية على أمرٍ من أمور المسلمين نوعٌ من الأعمال الصَّالحة لمن اتَّقى الله تعالى، وأراد رضوانه، والدَّار الاخرة، فإِذا تحوَّل هذا العمل إِلى مصدرٍ للفتنة فإِنَّ الحكمة تقتضي عدم الاستمرار فيه، كما هو الحال في هذه الواقعة، ولكلِّ حادث حديثٌ، وهذا هو ما أقدم عليه عمر حينما أعفى سعداً من العمل، وكلَّف نائبه؛ الذي هو موضعُ ثقة سعد.
هذا وقد استبقى عمر سعداً ـ رضي الله عنهما في المدينة ـ وأقرَّ من استخلفه سعدٌ على الكوفة بعده، وصار سعد من مستشاري عمر في المدينة، ثمَّ جعله من السِّتَّة المرشَّحين للخلافة حين طُعن، ثم أوصى الخليفة من بعده بأن يستعمل سعداً: « فإِنِّي لم أعزله عن سوء، وقد خشيت أن يلحقه من ذلك ».
2 ـ شكاوى ضدَّ عمرو بن العاص والي مصر:
كانت مراقبة عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ لعمرو بن العاص صارمةً، وحازمةً، وكان الخليفة الفاروق يتدخَّل في شؤون الولاية المختلفة وحتَّى عندما اتَّخذ عمرو بن العاص منبراً؛ كتب إِليه: أمَّا بعد: فقد بلغني أنَّك اتَّخذت منبراً تَرْقَى به على رقاب المسلمين، أو ما يكفيك أن تكون قائماً والمسلمون تحت عقبك ؟ فعزمت عليك إِلا ما كسرته، وكان عمرو بن العاص يخشى مراقبة عمر بن الخطَّاب، ويعلم مدى حرصه على إِقامة العدل بين الناس، وعلى إِقامة الحدود الشَّرعية، فكان يبذل جهده حتَّى لا يصل إِلى عمر من الأخبار إِلا ما يسرُّه، ومن ذلك: أنَّ عبد الرحمن بن عمر بن الخطَّاب، ورجلاً اخر شربا شراباً دون أن يعلما: أنَّه مسكرٌ، فسكرا، ثمَّ إِنَّهما جاءا إِلى عمرو بن العاص يطلبان منه أن يقيم عليهما الحدَّ فزجرهما عمرو، وطردهما، فقال له عبد الرحمن: إِن لم تفعل أخبرت أبي. قال عمرو: فعلمت: أنِّي إِن لم أقم عليهما الحدَّ غضب عمر، وعزلني، ثمَّ إِنَّ عمراً جلدهما أمام الناس، وحلق رأسيهما داخل بيته، وكان الأصل العقاب بالحلق مع الجلد في وقتٍ واحدٍ أمام النَّاس، فجاءه كتابٌ من عمر يعنِّفه على عدم حلقه أمام الناس، وكان فيه: تضرب عبد الرحمن في بيتك وتحلق رأسه في بيتك، وقد عرفت: أنَّ هذا يخالفني، إِنَّما عبد الرحمن رجلٌ من رعيَّتك تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين، ولكن قلتَ هو ولد أمير المؤمنين، وقد عرفتَ أن لا هوادة لأحدٍ من النَّاس عندي في حقٍّ يجب لله عليه.
وقد وَجِّهت ضدَّ عمرو بن العاص بعض الشَّكاوى أثناء ولايته، بعضها من جنوده المسلمين، وبعضُها من أهل البلاد من الأقباط، ممَّا دعا عمر رضي الله عنه إِلى استدعاء عمرو بن العاص عدَّة مرَّاتٍ؛ لمعاتبته، بل وأحياناً لمعاقبته على ما بدر منه، ومن ذلك ما تقدَّم به أحد المصريين ضدَّ ابنٍ لعمرو بن العاص ضربه بالسَّوط، ممَّا جعل عمر بن الخطَّاب يستدعي عمراً، وابنه ثمَّ يأمر المصريَّ بالقصاص من ابن عمرو بن العاص، ويقول له: لو ضربت أباه عمراً لما حلنا بينك وبين ذلك، والتفت عمر إِلى عمرو بن العاص، وقال قولته المشهورة: متى استعبدتم النَّاس وقد ولدتهم أمَّهاتهم أحراراً.
كذلك يدخل في هذا الباب ما تقدَّم به أحد الجنود من أنَّ عمرو بن العاص اتَّهمه بالنِّفاق، وكتب معه عمر إِلى عمرو بن العاص أمراً بأن يجلس عمرو أمام النَّاس فيجلده إِذا ثبت صدق ما ادَّعاه بشهادة شهود، وقد ثبت بالشَّهادة أن عمراً رماه بالنِّفاق، فحاول بعض الناس أن يمنع الرَّجل من ضرب عمرو، وأن يدفع له الأرض مقابل الضَّرب، ولكنَّه رفض ذلك، وعندما قام على رأس عمرو ليضربه سأله: هل يمنعني أحدٌ من ضربك ؟ فقال عمرو: لا.. فامض لما أُمرت به. قال: فإِنِّي قد عفوت عنك.
3ـ شكاوى ضدَّ أبي موسى الأشعري والي البصرة:
عن جرير بن عبد الله البجلي: أنَّ رجلاً كان مع أبي موسى الأشعري، وكان ذا صوتٍ، ونكايةٍ في العدوِّ، فغنموا مغنماً فأعطاه أبو موسى بعض سهمه، فأبى أن يقبله إِلا جميعاً، فجلده أبو موسى عشرين سوطاً، وحلقه، فجمع الرَّجل شعره، ثمَّ ترحَّل إِلى عمر بن الخطَّاب حتَّى قدم عليه، فدخل على عمر بن الخطَّاب، قال جرير: وأنا أقرب النَّاس من عمر، فأدخل يده فاستخرج شعره، ثمَّ ضرب به صدر عمر، ثمَّ قال: أما والله لولا النَّار ! فقال: عمر: صدق والله لولا النار ! فقال: يا أمير المؤمنين إِنِّي كنت ذا صوتٍ، ونكايةٍ، فأخبره بأمره، وقال: ضربني أبو موسى عشرين سوطاً، وحلق رأسي، وهو يرى أنَّه لا يُقتصُّ منه.
فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: لأن يكون النَّاس كلُّهم على صرامة هذا؛ فأحبُّ إِليَّ من جميع ما أفاء الله علينا. فكتب عمر إِلى أبي موسى: السَّلام عليك، أمَّا بعد: فإِن فلانًا أخبرني بكذا، وكذا، فإِن كنت فعلت ذلك في ملأ من النَّاس، فعزمت عليك لما قعدت له في ملأ من النَّاس، حتَّى يقتصَّ منك، وإِن كنت فعلت ذلك في خلاءٍ من النَّاس، فاقعد له في خلاءٍ من النَّاس، حتَّى يقتصَّ منك. فقدم الرَّجل، فقال له النَّاس: اعف عنه ! فقال: لا والله لا أدعه لأحدٍ من الناس ! فلما قعد له أبو موسى ليقتصَّ منه، رفع الرَّجل رأسه إِلى السَّماء، ثمَّ قال: اللَّهُمَّ إِنِّي قد عفوت عنه!
وعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: كنَّا مع عمر في مسيرٍ، فأبصر رجلاً يسرع في سيره. فقال: إِنَّ هذا الرَّجل يريدنا، فأناخ ثمَّ ذهب لحاجته، فجاء الرَّجل، فبكى، وبكى عمر ـ رضي الله عنه ـ وقال: ما شأنك ؟ فقال: يا أمير المؤمنين ! إِنِّي شربت الخمر، فضربني أبو موسى، وسوَّد وجهي، وطاف بي، ونهى النَّاس أن يجالسوني، فهممت أن اخذ سيفي، فأضرب به أبا موسى، أو اتيك فتحوِّلني إِلى بلدٍ لا أعرفُ فيه، أو ألحق بأرض الشِّرك، فبكى عمر ـ رضي الله عنه ـ وقال: ما يسرُّني أنَّك لحقت بأرض الشِّرك، وأنَّ لي كذا وكذا، وقال: إِن كنت ممَّن شرب الخمر، فلقد شرب النَّاس الخمر في الجاهلية، ثم كتب إِلى أبي موسى: إِنَّ فلانًا أتاني، فذكر كذا، وكذا، فإِذا أتاك كتابي هذا فَاؤْمُرِ النَّاس أن يجالسوه، وأن يخالطوه، وإِن تاب؛ فاقبل شهادته. وكساه، وأمر له بمئتي درهم.
وجاء في روايةٍ: إِنَّ فلاناً بن فلان التَّميمي أخبرني بكذا، وكذا، وايم الله ! لئن عدت لأسودنَّ وجهك، وليطاف بك في النَّاس، فإِن أردت أن تعلم أحقٌّ ما أقول؛ فعد، واؤمر النَّاس فليؤاكلوه، وليجالسوه، وإِن تاب؛ فاقبلوا شهادته، وكساه عمر ـ رضي الله عنه ـ حلَّةً، وحمله، وأعطاه مئتي درهم، وهذه القصَّة فيها حرص الفاروق على ألا يتعدَّى أحدٌ من عمَّاله العقوبات الشَّرعية عند معاقبة العاصين.
4ـ شكاوى أهل حمص ضدَّ سعيد بن عامر:
قال خالد بن معدان: استعمل علينا عمر بن الخطَّاب بحمص سعيد بن عامر الجمحي، فلمَّا قدم حمص؛ قال: يا أهل حمص ! كيف وجدتم عاملكم ؟ فشكوه إِليه، وكان يقال لأهل حمص: الكوفة الصُّغرى لشكايتهم العمَّال، قالوا: نشكوه أربعاً، لا يخرج إِلينا حتى يتعالى النَّهار، قال: أعظم بها ! وماذا ؟ قالوا: لا يجيب أحداً بليلٍ، قال: وعظيمة ! وماذا ؟ قالوا: وله يوم في الشَّهر لا يخرج فيه إِلينا ! قال: عظيمة ! وماذا ؟ قالوا: يغطُّ الغطَّة بين الأيَّام (أي: يغمى عليه، ويغيب عن حسِّه) فجمع عمر بينهم وبينه وقال: اللَّهمَّ لا تفيِّل رأيي فيه اليوم، وافتتح المحاكمة، فقال لهم أَمامه: ما تشكون منه ؟ قالوا: لا يخرج إِلينا حتَّى يتعالى النَّهار. قال: ما تقول ؟ قال: والله إِن كنت لأكره ذكره: ليس لأهلي خادم، فأعجن عجيني، ثم أجلس حتى يختمر ثمَّ أخبز خبزي، ثمَّ أتوضأ، ثم أخرج إِليهم. فقال: ما تشكون منه ؟ قالوا: لا يجيب أحداً بليلٍ. قال: ما تقول ؟ قال: إِن كنت لأكره ذكره، إِنِّي جعلت النَّهار لهم، وجعلت اللَّيل لله عزَّ وجلَّ. قال: وما تشكون منه ؟ قالوا: إِنَّ له يوماً في الشَّهر لا يخرج إِلينا فيه. قال: ما تقول ؟ قال: ليس لي خادمٌ يغسل ثيابي، ولا لي ثياب أبدِّلها، فأجلس حتَّى تجفَّ، ثمَّ أدلكها، ثمَّ أخرج إِليهم اخر النَّهار، قال: ما تشكون منه ؟ قالوا: يغطُّ الغطَّة بين الأيام. قال: ما تقول ؟ قال: شهدت مصرع خبيبٍ الأنصاريِّ بمكَّة، وقد بضَّعت قريش لحمه، ثمَّ حملوه على جذعةٍ، فقالوا: أتحبُّ أنَّ محمَّداً مكانك ؟ فقال: والله ما أحبُّ أنِّي في أهلي، وولدي، وأنَّ محمَّداً صلى الله عليه وسلم يشاك شوكةً، ثمَّ نادى يا محمد ! فما ذكرت ذلك اليوم وتركي نصرته في تلك الحال وأنا مشركٌ لا أؤمن بالله العظيم إِلا ظننت: أنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يغفر لي بذلك الذَّنب أبداً فتصيبني تلك الغطَّة. فقال عمر: الحمد لله الذي لم يفيِّل فراستي، فبعث إِليه بألف دينارٍ، وقال: استعن بها على أمرك. ففرَّقها.
5ـ عزل من استهزأ بأحد أفراد الرَّعية:
قال قيس بن أبي حازمٍ ـ رحمه الله ـ: استعمل عمر ـ رضي الله عنه ـ رجلاً من الأنصار، فنزل بعظيم أهل الحيرة عمرو بن حيَّان بن بقيلة، فأمال عليه بالطَّعام، والشَّراب ما دعا به، فاحتبس الهزل، فدعا الرَّجل، فمسح بلحيته، فركب إِلى عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال: يا أمير المؤمنين ! قد خدمت كسرى، وقيصر، فما أتى إِليَّ ما أتى في ملكك ! قال: وما ذاك ؟ قال: نزل بي عاملك فلانٌ، فأملنا عليه بالطَّعام، والشراب ما دعا به، فاحتبس الهزل، فدعاني فمسح بلحيتي. فأرسل إِليه عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال: هيه ؟! أمال عليك بالطَّعام والشَّراب ما دعوت به، ثمَّ مسحت بلحيته ؟ والله لولا أن تكون سنَّةً ما تركت في لحيتك طاقةً إِلا نتفتها ! ولكن اذهب فوالله لا تلي لي عملاً أبداً !.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf