مصارف الدَّولة زمن خلافة الفاروق رضي الله عنه؛ معطيات وأرقام
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة التاسعة والأربعون
تنقسم مصارف بيت المال إِلى ثلاثة أقسام، هي: مصارف الزَّكاة وما يتَّصل بها، ومصارف الجزية، والخراج، والعشور وما يتَّصل بها، ومصارف الغنائم وما يتَّصل بها، وقد بيَّن القران الكريم، والسُّنَّة النَّبويَّة، وعمل الصَّحابة رضوان الله عليهم مصارف هذه الأبواب.
1 ـ مصارف الزَّكاة:
ذكر المولى عزَّ وجل ثمانية أصناف ممَّن تجب لهم الزَّكاة، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ *} [التوبة: 60].
وقد كان الفقراء، والمساكين في عهد عمر ـ رضي الله عنه ـ يُعطَون من هذه الأموال ما يبعدهم عن المسكنة، والفقر، ويخرجهم من الفاقة، والعوز، ويقرِّبهم إِلى أدنى مراتب الغنى، واليسار، وقد كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يقول: إِذا أعطيتم؛ فأغنوا.
وهذه هي السِّياسة العمريَّة الرَّاشدة، وهي إِعطاء ما يكفي، وزيادة النِّسبة للعجز المؤقَّت، أمَّا العجز المزمن من مرضٍ، ونحوه، فإِنَّ الزَّكاة بالنسبة لهذا الصِّنف من النَّاس معونةٌ دائمةٌ منتظمةٌ حتَّى يزول الفقر بالغنى، ويزول العجز بالقُدرة، والبطالة بالكسب، وتتعدَّى هذه السِّياسة العمريَّة المسلمين، فتشمل مساكين أهل الكتاب بعد إِسقاط الجزية عنهم، كما أنَّ من نفقات الزَّكاة العاملين عليها، فهم لهم وظائف شتَّى، وأعمالٌ متشعِّبةٌ، كلُّها تتَّصل بتنظيم الزَّكاة، وبإِحصاء مَن تجب عليه، وفيما تجب، ومقدار ما يجب، ومعرفة من تجب له، وكم عددهم، ومبلغ حاجتهم، وقدر كفايتهم إِلى غير ذلك من الشؤون الَّتي تحتاج إِلى جهازٍ كاملٍ من الخبراء، وأهل الاختصاص، ومن يعاونهم، وأمَّا المؤلَّفة قلوبهم فقد أسقط عمر سهمهم، وذلك لأنَّ الإِسلام كان قوي الجانب في خلافته فلا حاجة للإِنفاق من أموال الزَّكاة على هذا الصِّنف من الأصناف الثَّمانية، الَّتي نصَّت عليها الآية.
وأمَّا في عصرنا الحاضر؛ فلا يزال التَّأليف موجوداً بصورةٍ، أو أخرى، ويوجد من تنطبق عليه شروط المؤلَّفة قلوبهم.
وقد استغلَّ بعض خصوم الإِسلام، ودعاة الجمود من المسلمين إِسقاط نصيب المؤلَّفة قلوبهم من الزَّكاة في عهد عمر، فكتبوا عن هذه القصَّة، وادَّعوا: أنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ بهذا أوقف نصَّاً من نصوص القران الكريم، وهذا الادِّعاء ليس بصحيح، كما أنَّه لا يتَّفق مع الحقيقة، فالواقع: أنَّ الخليفة عمر ـ رضي الله عنه ـ أوقف نصيب المؤلَّفة قلوبهم لسببٍ، وحكمةٍ، وهي: أنَّ الإِسلام أصبح عزيزاً قويّاً بعد أن كان ضعيفاً في عهده الأوَّل، ورأى رضي الله عنه: أنَّه لا داعي لتأليف هؤلاء، وهؤلاء بعد العزَّة والنُّصرة، والقوَّة.
وقد وافق الصَّحابة على قرار الفاروق، ولم تأت هذه الموافقة اعتباطاً وإِنَّما نتيجة الاقتناع بالمبرِّرات الَّتي دفع بها لإِيقاف إِعطاء المؤلَّفة قلوبهم، من حيث إِنَّ الإِسلام قد غدا في قوَّةٍ، ومكنةٍ تجعلانه في غنىً عن عددٍ قليلٍ لا وزن له بعد دخول أممٍ كثيرةٍ في الإِسلام، كما أنَّه ليس ثمَّة خوفٌ من هؤلاء الَّذين يطلبون التَّأليف، بل كان الخوف عليهم أن يظلُّوا على نزعتهم التَّواكليَّة، ثمَّ إِنَّ حقَّ هؤلاء ليس حقّاً موروثاً يتوارثونه جيلاً بعد جيلٍ.
إِنَّ عمر لم يقف جامداً أمام هذا النَّص فيما يتَّصل بسهم المؤلَّفة قلوبهم، فهو قد فهم: أنَّ المقصود من النَّص هو إِعزاز الإِسلام بدخول أشراف العرب فيه، وتثبيت مَنْ أسلم منهم على الإِسلام، فقد نظر إِلى علَّة النَّص لا إِلى ظاهره، وحيث أعزَّ الله الإِسلام، وكثر أهله، فقد أصبح الإِعطاء حينئذٍ ـ في نظر عمر ـ ذلَّةً، وخنوعاً، وزالت العلَّة الَّتي من أجلها جعل الله للمؤلفة قلوبهم نصيباً من الزَّكاة، وبناء على ذلك أوقف عمر هذا السَّهم، ولم يعطه لهم، وبناءً على هذا الفهم الصَّحيح لا يجوز أن نقول: إِنَّ عمر ألغى العمل بالنَّصِّ القراني المتعلِّق بإِعطاء المؤلَّفة قلوبهم نصيباً من الزَّكاة؛ لأنَّ ذلك من قبيل النَّسخ، ولا نسخ إِلا من طرف صاحب الشَّرع نفسه، وعليه فلا نسخ بعد وفاة الرَّسول صلى الله عليه وسلم .
لقد كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يراعي تغيُّر الظُّروف، والعِلل الَّتي بنيت عليها نصوص الأحكام، ولم يكن يقف مع ظواهرها، كما سبق القول، كما كان الإِنفاق في الرِّقاب، والغارمين، وفي سبيل الله وابن السبيل، وقد اعتنى القران الكريم بابن السبيل أيَّما اعتناء، فقد جعل له سهماً من الزَّكاة، ونصيباً من الفيء ومن خمس الغنائم، وعناية الإِسلام بالمسافرين الغرباء، والمنقطعين عنايةً فذَّةً، لم يعرف لها نظيرٌ في نظامٍ من الأنظمة، أو شريعةٍ من الشَّرائع، ويؤكِّد هذه العناية هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم والصِّدِّيق.
كما أنَّ عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ اتَّخذ في عهده داراً خاصَّةً أطلق عليها (دار الدَّقيق)، وذلك: أنَّه جعل فيها الدَّقيق، والسَّويق، والتَّمر، والزَّبيب، وما يحتاج إِليه، يعين به المنقطع به، والضَّيف، ومن ينزل بعمر، ووضع عمر في طريق السُّبل ما بين مكَّة والمدينة ما يصلح مَنْ ينقطع به، ويحمل من ماءٍ إِلى ماءٍ.
إِنَّ هذا التَّحديد للأصناف الثَّمانية يوجب على الدَّولة حصرهم، وتتبُّع حالتهم، وأن يكون هناك سجلات في كلِّ بلدٍ، ثمَّ في المقرِّ الرَّئيسي للدَّولة، وقد كان للصَّدقة ديوانٌ خاصٌّ بها في دار الخلافة، له فروعٌ في سائر الولايات، وقد كان ذلك في عهد الخليفة عمر ـ رضي الله عنه ـ بعد تدوين الدَّواوين.
إِنَّ نظرةً إِلى تلك الأصناف الثَّمانية الَّذين ذكرتهم الآية نلاحظ: أنَّها قد شملت المصالح الدِّينية، والسِّياسية، والاجتماعيَّة من دعوةٍ للجهاد في سبيل الله، وتكوين الجيوش، والعمل على القضاء على الفقر، وسداد الدَّين، ودفع الحاجة عن ذوي الحاجة، أي: أنَّها تشمل كلَّ متطلبات المجتمع، وإيجاد الأمن، والمحبة، والتالف بين أفراده.
2 ـ مصارف الجزية، والخراج، والعشور:
تُصرف في أعطيات الخلفاء، والعمَّال، والجند، وال البيت، وزوجات المجاهدين، وغيرها من أوجه الخير.
ـ أعطيات الخليفة:
وقد فُرض للخليفة عمر ـ رضي الله عنه ـ من الأعطيات خمسة الاف، أو ستة الاف درهمٍ على روايةٍ أخرى.
ـ أعطيات العمال:
أي: ولاة الأقاليم، ففي عهد الخليفة عمر ـ رضي الله عنه ـ عيَّن الفاروق في كلِّ ولايةٍ، والياً حازماً عادلاً لحكمها وإِدارتها، وزوَّده بعددٍ من الأعوان، والمساعدين، والجباة، والقضاة، والكتَّاب، وعمال الخراج، والصَّدقات، وغيرهم، فكان للصَّلاة، والحرب عاملٌ ـ وهو الأمير ـ ولتحصيل الأموال عاملٌ اخر، ولمساحة الأراضي، وتقدير الضَّرائب، وإِحصاء النَّاس عمَّالٌ لهم خبرةٌ ودرايةٌ، وقد أجرى لهم الأعطيات بما يتناسب مع منصب كلٍّ منهم، وما تتطلَّبه أعماله، مراعياً في ذلك حالة الإِقليم من قربٍ، وبعدٍ، وتوفُّر خيراتٍ، ورخصٍ، وغلاءٍ، ولم يجعل لصرفها موعداً ثابتاً لا يتخلَّف، وسيأتي الحديث عن العمال بالتَّفصيل ـ بإِذن الله ـ عند حديثنا عن مؤسَّسة العمَّال.
ـ أعطيات الجند:
اهتمَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ بأمر الجند، فنظَّم ديوان الجيش، وسار في تقسيم الأرزاق فيه على أساس القربى من النَّسب النَّبويِّ الشَّريف، والسَّابقة للإِسلام، وبذلك أصبح في مقدِّمة أصحاب المعاشات ال بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم بنو هاشم، وكان العبَّاس يتسلمها، ويوزِّعها عليهم، ثمَّ زوجات النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وتختصُّ كلُّ واحدةٍ بمعاشٍ مستقلٍّ عن ال البيت، أمَّا بقيَّة المسلمين؛ فقد قُسِّموا إِلى طبقاتٍ حسب ترتيب اشتراكهم في الجهاد في سبيل الله، فبدأ بأهل بدر، ثمَّ من حاربوا بعد بدرٍ إِلى الحديبية، ثمَّ مَنْ حاربوا من الحديبية إِلى اخر حروب الردَّة، ثمَّ مَنْ تلاهم ممَّن شهد القادسية، واليرموك، وهكذا، كما أنَّه جعل مخصَّصاتٍ لزوجات المحاربين، وأطفالهم منذ الولادة، ولم يغفل أمر الغلمان، واللُّقطاء، بل خصَّص لهم أعطياتٍ سنويَّةً، أدناها مئة درهم تتزايد عند بلوغهم، كما فرض للموالي من ألفين إِلى ألف.
وقد وردت رواياتٌ كثيرةٌ تتَّفق فيما بينها في كثيرٍ من أرقام المقررات الَّتي قرَّرها الخليفة عمر ـ رضي الله عنه ـ أعطياتٍ للجند، وتختلف بعض الاختلافات في تلك المقادير، وأمَّا ما صحَّ من مقادير العطاء، فإِنَّ عطاء زوجات النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كان عشرة الاف درهم (10000 درهم) كلَّ سنةٍ إِلا جويرية، وصفية، وميمونة فقد فرض لهنَّ أقل من ذلك، ثمَّ زاد عطاءهنَّ إِلى اثني عشر ألف درهم (12000 درهم) إِلا صفية، وجويرية كان عطاؤهنَّ ستة الاف درهم (6000 درهم)، وقد طالبت عائشة بالمساواة بين أمَّهات المؤمنين، فوافق عمر على مساواتهنَّ.
وكان عطاء المهاجرين، والأنصار أربعة الاف درهم (4000 درهم) لكلِّ واحدٍ سنويّاً سوى عبد الله بن عمر بن الخطاب فإِنه فرض له ثلاثة الاف وخمسمئة درهمٍ (3500 درهم) معلِّلاً ذلك بأنَّه هاجر به أبوه؛ أي: ليس كمن هاجر بنفسه، وكان عبد الله صبيَّاً حين الهجرة، ثمَّ زاد المهاجرين ألفاً، فصار عطاؤهم خمسة الاف درهم (5000 درهم) كلَّ سنة، ويبدو: أنَّ هذا العطاء للبدريين فقط من المهاجرين، والأنصار، وأمَّا من شهد صلح الحديبية؛ فكان عطاؤه ثلاثة الاف درهم (3000 درهم) كلَّ سنة، وفرض لكل مولودٍ مئة درهمٍ (100 درهم) وكان يفرض للفطيم، ثمَّ فرض للمولود حين ولادته خوفاً من تعجيل فطامه. وأمَّا الموالي؛ فقد فرض لأشرافهم كالهرمزان حينما أسلم ألفي درهم (2000 درهم) وغير ذلك من الأعطيات.
وإضافة إِلى العطاء السَّنوي فإِنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ كان يوزِّع عطايا متفرقةً، وإِلى جانب ما خصَّص لكلِّ فردٍ ممَّن سبق ذكرهم وزيادةً على عطائه السَّابق طعامٌ من الحنطة كلَّ شهرٍ، وقد قال الخليفة عمر ـ رضي الله عنه ـ في اخر عهده: لئن كثر المال لأفرضنَّ لكلِّ رجلٍ أربعة الاف درهمٍ، ألفٌ لسفره، وألفٌ لسلاحه، وألفٌ يخلِّفها لأهله، وألف لفرسه، وبغله.
وقد روى الخليفة عمر ـ رضي الله عنه ـ: أنَّ لكلِّ مسلمٍ حقَّاً في بيت المال، منذ أن يولد حتَّى يموت، ولقد أعلن هذا المبدأ بقوله: والله الذي لا إِله إِلا هو ! ـ ثلاثاً ـ ما من أحدٍ إِلا له في هذا المال حقٌّ أُعطيَه، أو مُنِعَه، وما أحدٌ بأحقَّ به من أحدٍ إِلا عبدٌ مملوكٌ، وما أنا فيه إِلا كأحدكم، ولكنَّا على منازلنا من كتاب الله، وقسْمِنا من رسول الله، فالرَّجل وبلاؤه في الإِسلام، والرَّجل وقدمه في الإِسلام، والرَّجل وغناؤه في الإِسلام، والرَّجل وحاجته، والله لئن بقيت ليأتينَّ الرَّاعي بجبل صنعاء حَظُّه من هذا المال وهو مكانه قبل أن يَحْمَرَّ وجهُه!
ومن المهمِّ أن نتبيَّن وجهة نظر عمر ـ رضي الله عنه ـ في عدم المساواة بين المسلمين في العطاء، ودعمه الواضح لقرابة الرَّسول صلى الله عليه وسلم، ولكبار الصَّحابة من المهاجرين والأنصار، واعتباره للسَّابقة في الإِسلام والبلاء في الجهاد، فلا شكَّ: أنَّ الفئة الَّتي حازت الأموال الوفيرة في خلافته هي الَّتي أقامت على أكتافها صرح الدَّولة الإِسلاميَّة؛ كما أنَّها أكثر فقهاً، والتزاماً بالشَّرع، ومقاصده، وأكثر ورعاً وصلاحاً في التَّعامل مع المال، وتذليله لتحقيق المقاصد الاجتماعيَّة عن طريق الإِنفاق، ودعم هذه الفئة اقتصاديّاً يقوِّي نفوذها في المجتمع، ويجعلها أقدر على القيام بالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر.
ويلاحظ: أنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ عزم على تبديل سياسة التَّفضيل في العطاء إِلى المساواة، وقد صرح بذلك في اخر خلافته قائلاً: لئن بقيت إِلى قابلٍ لألحقنَّ اخر الناس بأوَّلهم، ولأجعلنَّهم بيَّاناً واحداً ـ أي: سواء ـ وأمَّا عن نظرة عمر إِلى الأموال العامَّة فقد عبر عنها بقوله: إنَّ الله جعلني خازناً لهذا المال، وقاسماً له، ثمَّ قال: بل الله يقسمه[(1365)].
وقد بكى عندما رأى عظمة الأموال الَّتي جلبت إلى بيت المال في فتوح فارس، فلمَّا ذكَّره عبد الرحمن بن عوف بأنَّه يوم شكرٍ، وسرورٍ، وفرحٍ؛ قال عمر: كلا إِنَّ هذا لم يُعْطَهُ قومٌ إِلا ألقي بينهم العداوة، والبغضاء، ونظر إِلى أموال فتح جلولاء، فقرأ الآية: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: 14] وقال: الَّلهُمَّ لا نستطيع إِلا أن نفرح بما زيَّنت لنا ! اللَّهُمَّ فاجعلني أنفقه في حقِّه، وأعوذ بك من شره !
3 ـ مصارف الغنائم:
أمَّا توزيع الغنائم، فقد قسمها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الآية الكريمة، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41]. وأما أربعة أخماس الغنيمة الباقية؛ فكانت توزع بين الغانمين، للفارس ثلاثة أسهم: سهمان لفرسه، وسهم له. وللرَّاجل سهمٌ، وقد كان للرَّسول صلى الله عليه وسلم سهم في حياته ينفقه على نفسه، وأزواجه، وما بقي من هذه الأسهم كان يجعله في المصالح العامة، أو ينفقه على أهل الفاقة، والاحتياج، وكان لذوي قربى الرَّسول صلى الله عليه وسلم السَّهم الثاني، وهم بنو هاشم، وبنو عبد المطلب، الذين خضعوا للإِسلام، وشملتهم دعوته عليه الصَّلاة، والسَّلام، وقد اختلف النَّاس بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذين السَّهمين، سهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وسهم ذوي القربى، فقال قوم: سهم الرسول للخليفة من بعده.
وقال اخرون: سهم ذوي القربى لقرابة الرسول عليه الصلاة والسلام. وقالت طائفة: سهم ذوي القربى لقرابة الخليفة من بعده، فأجمعوا على أن جعلوا هذين السَّهمين في الكُراع، والسِّلاح، وبذلك أصبحت مخصَّصات السَّهمين تصرف في مصالح المسلمين العامَّة، كتجهيز الجيوش، وسد الثُّغور، والعمل على تقوية الدَّولة، وتمكينها في عهد الخليفة الثاني أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ وأمَّا مخصَّصات الفقراء والمساكين، وأبناء السَّبيل؛ فقد بقيت كما كانت على أيَّام الرَّسول صلى الله عليه وسلم ولم يطرأ عليها أيُّ تغيير، أو تعديلٍ في أيام الخليفة الثَّاني رضي الله عنه.
هذه بعض المعالم الواضحة على المؤسَّسة الماليَّة في زمن الفاروق، وكيف عمل على تطويرها، وقد كان رضي الله عنه شديد الورع في المال العامِّ، ويظهر ذلك في قوله: أنا أخبركم بما أستحلُّ من مال الله، حلَّة الشِّتاء، والقيظ، وما أحج عليه، وأعتمر من الظَّهر، وقوت أهلي كرجلٍ من قريش، ليس بأغناهم، ولا بأفقرهم، أنا رجلٌ من المسلمين، يصيبني ما يصيبهم. وكان يقول: اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم أنِّي لا اكل إِلا وجبتي، ولا ألبس إِلا حلَّتي، ولا اخذ إِلا حقِّي! وكان يقول: إِنِّي أنزلت مال الله منِّي بمنزلة مال اليتيم {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6].
4 ـ أمورٌ متعلِّقةٌ بالتطوُّر الاقتصادي في الدَّولة:
ـ إصدار النُّقود الإسلاميَّة:
تعتبر النُّقود من المعادن الثَّمينة، كالذَّهب، والفضَّة، وهي وسيلةٌ ضروريةٌ للحياة الاجتماعيَّة الخاصَّة، والعامَّة، لا سيَّما في التَّعامل بين الأمم والدُّول، وما يعنينا من هذا الموضوع ـ وقد أصبح للإِسلام دولةٌ فيها مسلمون، وغيرهم من النَّاس، ويجاورها أممٌ ودولٌ ذات نظمٍ، وحضاراتٍ، ظلَّت تتعامل مع الدَّولة الإِسلامية في عهد عمر، وغيره من خلفاء وأمراء المسلمين ـ هو النَّاحية التَّنظيمية، والإِداريَّة الَّتي سلكها عمر بشأن النُّقود، سواءٌ أكان في داخل الدَّولة الإِسلاميَّة أم في دور الحرب الأخرى.
فالمعلومات التَّاريخيَّة تشير إِلى أنَّ عمر بن الخطَّاب قد أبقى على تداول النُّقود، والعملة الَّتي كانت متداولة قبل الإِسلام، وفي عهد الرَّسول صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر بما كان عليها من نقوشٍ هرقليَّة عليها نقوشٌ مسيحيَّةٌ، أو كسرويَّةٌ رُسم فيها بيت النَّار، بيد: أنَّه أقرَّها على معيارها الرَّسمي المعروف على عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكرٍ، مضيفاً إِليها كلمة جائز، لتمييزها من البهارج الزَّائفات، فالذي ضرب النُّقود المسكوكة في الخارج، وأقرَّ التعامل بها، وقرر الدِّرهم الشَّرعي في الإسلام هو الفاروق ـ رضي الله عنه ـ يقول الماورديُّ: إِنَّ عمر بن الخطَّاب هو الَّذي حدَّد مقدار الدِّرهم الشَّرعي.
ويقول المقريزي: وأوَّل من ضرب النُّقود في الإِسلام عمر بن الخطاب سنة ثماني عشرة من الهجرة على نقش الكسروية، وزاد فيها: الحمد لله. وفي بعضها: لا إِله إِلا الله، وعلى جزءٍ منها اسم الخليفة عمر، وعليه: فإِنَّ الفاروق ـ رضي الله عنه ـ قد وضع تنظيماً خاصَّاً لوسيلةٍ من وسائل الحياة الضَّرورية للمسلمين، وغيرهم أثناء حكمه، وقد تبعه الخلفاء الرَّاشدون، وغيرهم ممَّن طوَّروا هذا الأمر مع تطوُّر وتقدُّم المدنيَّة، والحضارة.
ـ الإِقطاع:
مضى أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ في تطبيق السِّياسة النَّبويَّة في إِقطاع الأراضي للنَّاس طلباً لاستصلاحها، فقد أقطع الزُّبير بن العوَّام أرضاً مواتاً ما بين الجرف، وقناة، وأقطع مُجَّاعة بن مرارة الحنفي الخضرمة (قرية كانت باليمامة) وأراد إِقطاع عيينة بن حصن الفزاري، والأقرع بن حابس التَّميمي أرضاً سبخةً ـ ليس فيها كلأٌ، ولا منفعةٌ ـ أرادا استصلاحها، ثمَّ عدل عن ذلك أخذاً برأي عمر ـ رضي الله عنه ـ في عدم الحاجة لتأليفهما على الإِسلام، فقد قال لهما عمر ـ رضي الله عنه ـ: إِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألَّفكما، والإِسلام يومئذٍ ذليلٌ، وإِنَّ الله ـ عزَّ، وجلَّ ـ قد أعزَّ الإِسلام، فاذهبا، فأجهدا جهدكما.
ومن الواضح: أنَّ اعتراض عمر ليس على مبدأ الإِقطاع لاستصلاح الأراضي بل على أشخاص بعينهم لا يرى تأليفهم على الإِسلام، وقد توسَّع عمر ـ رضي الله عنه ـ في إِقطاع الأراضي لغرض استصلاحها جرياً على السِّياسة النَّبويَّة، فقد أعلن: يا أيُّها النَّاس من أحيا أرضاً ميتةً؛ فهي له، وتعتضد اثارٌ ضعيفةٌ لتؤكِّد انتزاع عمر ـ رضي الله عنه ـ ملكية الأرض المقتطعة إِذا لم يتمَّ استصلاحها، وتحدِّد روايةٌ ضعيفةٌ لذلك ثلاث سنوات من تاريخ الإِقطاع، وقد ثبت إِقطاع عمر ـ رضي الله عنه ـ لخوَّات بن جبير أرضاً مواتاً، وللزُّبير بن العوَّام أرض العقيق جميعها، ولعليِّ بن أبي طالبٍ أرض ينبع، فتدفَّق فيها الماء الغزير، فأوقفها عليٌّ ـ رضي الله عنه ـ صدقةً على الفقراء، وتوجد اثارٌ ضعيفةٌ لإِقطاعه عدداً من الصَّحابة الاخرين.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf