أسباب فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه ٢
الحلقة الرابعة والأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1441ه/ديسمبر2019م
قال الإمام الزُّهريُّ : ولي عثمان اثنتي عشرة سنة أميراً للمؤمنين ، أوَّل ستِّ سنين منها لم ينقم النَّاس عليه شيئاً ، وإنَّه لأحبُّ إلى قريش من عمر بن الخطَّاب ؛ لأنَّ عمر كان شديداً عليهم ، أمَّا عثمان ؛ فقد لانَ لهم ، وَوَصَلَهم ، ثمَّ حدثت الفتنة بعد ذلك، وقد سمَّى المؤرِّخون المسلمون الأحداث في النِّصف الثاني من ولاية عثمان 30ـ35 هـ ( الفتنة ) الّتي أدَّت إلى استشهاد عثمان رضي الله عنه. كان المسلمون في خلافة أبي بكرٍ ، وعمر ، وصدراً من خلافة عثمان ، متَّفقين ، لا تنازع بينهم ، ثمَّ حدثت في أواخر خلافة عثمان أمورٌ ، أوجبت نوعاً من التَّفرُّق ، وقام قومٌ من أهل الفتنة ، والظُّلم، فقتلوا عثمان ، فتفرَّق المسلمون بعد مقتل عثمان.
وقد كان المجتمع الإسلامي في خلافة الصِّدِّيق ، والفاروق ، والنِّصف الأوَّل من خلافة عثمان يتَّصف بالسِّمات الاتية :
1 ـ أنَّه ـ في عمومه ـ مجتمعٌ مسلمٌ بكامل معنى الإسلام ، عميق الإيمان بالله ، واليوم الآخر ، مطبِّقٌ لتعاليم الإسلام بجدِّيةٍ واضحةٍ ، والتزامٍ ظاهر ، وبأقلَّ قدرٍ من المعاصي وقع في أيِّ مجتمعٍ في التَّاريخ ، فالدِّين بالنِّسبة إليه هو الحياة ، وليس شيئاً هامشيّاً يفيء النَّاس إليه بين الحين ، والحين ، إنَّما هو حياة النَّاس ، وروحهم ، ليس فقط فيما يؤدُّونه من شعائر تعبُّديَّةٍ ، يحرصون على أدائها على وجهها الصَّحيح ، وإنَّما من أخلاقياتهم ، وتصوُّراتهم ، واهتماماتهم ، وقيمهم ، وروابطهم الاجتماعيَّة ، وعلاقات الأسرة ، وعلاقات الجوار ، والبيع ، والشِّراء ، والضَّرب في مناكب الأرض ، والسَّعي وراء الأرزاق ، وأمانة التَّعامل ، وكفالة القادرين لغير القادرين ، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ، والرَّقابة على أعمال الحكام والولاة ، ولا يعني هذا بطبيعة الحال : أنَّ كلَّ أفراد المجتمع هم على هذا الوصف ، فهذا لا يتحقَّق في الحياة الدُّنيا ، ولا في أيِّ مجتمعٍ من البشر ، وقد كان في مجتمع الرَّسول (ص) ـ كما ورد في كتاب الله ـ منافقون يتظاهرون بالإسلام ، وهم في دخيلة أنفسهم من الأعداء ، وكان فيه ضعاف الإيمان ، والمعوِّقون ، والمتثاقلون ، والمبطِّئون ، والخائنون ، ولكن هؤلاء جميعاً لم يكن لهم وزنٌ في ذلك المجتمع ، ولا قدرةٌ على تحويل مجراه ؛ لأنَّ التَّيَّار الدَّافق هو تيَّار أولئك المؤمنين الصَّادقي الإيمان المجاهدين في سبيل الله بأموالهم ، وأنفسهم ، الملتزمين بتعاليم هذا الدِّين.
2 ـ أنَّه المجتمع الّذي تحقَّق فيه أعلى مستوى للمعنى الحقيقيِّ ( للأمَّة ) ؛ فليست الأمَّة مجرد مجموعة من البشر جمعتهم وحدة اللُّغة ، ووحدة الأرض ، ووحدة المصالح ، فتلك هي الرَّوابط الّتي تربط البشر في الجاهليَّة ، فإن تكوَّنت منهم أمَّةٌ ، فهي أمَّةٌ جاهليَّة ، أمَّا الأمَّة بمعناها الرَّبانيِّ ؛ فهي الأمَّة الّتي تربط بينها رابطة العقيدة، بصرف النَّظر عن اللُّغة ، والجنس ، واللَّون ، ومصالح الأرض القريبة ، وهذه لم تتحقَّق في التَّاريخ كما تحقَّقت في الأمَّة الإسلاميَّة ، فالأمَّة الإسلاميَّة هي أمَّةٌ لا تقوم على عصبية الأرض ، ولا الجنس ، ولا اللَّون ، ولا المصالح الأرضيَّة ، إنَّما هو رباط العقيدة ، يربط بين العربيِّ ، والحبشيِّ ، والرُّوميِّ ، والفارسيِّ ، يربط بين أهل البلاد المفتوحة والأمَّة الفاتحة على أساس الأخوَّة الكاملة في الدِّين .
ولئن كان معنى الأمَّة قد حقَّقته هذه الأمَّة أطول فترةٍ عرفتها الأرض ، فقد كانت فترة صدر الإسلام أزهى فترةٍ تحقَّقت فيها معاني الإسلام كلُّها، بما فيها معنى الأمَّة، على نحوٍ غير مسبوقٍ.
3 ـ أنَّه مجتمعٌ أخلاقيٌّ ، يقوم على قاعدة أخلاقيَّةٍ واضحةٍ مستمدَّةٍ من أوامر الدِّين، وتوجيهاته ، وهي قاعدةٌ لا تشمل علاقات الجنسين وحدها ، وإن كانت هذه من أبرز سمات هذا المجتمع ، فهو خالٍ من التَّبرُّج ، ومن فوضى الاختلاط ، وخالٍ من كلِّ ما يخدش الحياء من فعلٍ ، أو قولٍ ، أو إشارةٍ ، وخالٍ من الفاحشة إلا القليل الّذي لا يخلو منه مجتمعٌ على الإطلاق ، ولكن القاعدة الأخلاقيَّة أوسع بكثيرٍ من علاقات الجنسين ، فهي تشمل السِّياسة ، والاقتصاد ، والاجتماع ، والفكر ، والتَّعبير ، فالحكم قائم على أخلاقيَّات الإسلام ، وعلاقات النَّاس في المجتمع قائمةٌ على الصِّدق ، والأمانة ، والإخلاص ، والتَّعاون ، والحبِّ ، لا غمز ولا لمز ، ولا نميمة ، ولا قذف للأعراض.
4ـ أنَّه مجتمعٌ جادٌّ ، مشغولٌ بمعالي الأمور لا بسفسافها ، وليس الجدُّ بالضَّرورة عبوساً ، وصرامةً ، ولكنَّه روحٌ تبعث الهمَّة في النَّاس ، وتحثُّ على النَّشاط ، والعمل، والحركة ، كما أنَّ اهتماماته أعلى ، وأبعد من واقع الحسِّ القريب ، وليست فيه سمات المجتمع الفارغة المترهِّلة ، الّتي تتسكَّع في البيوت ، وفي الطُّرقات ، تبحث عن وسيلةٍ لقتل الوقت من شدَّة الفراغ.
5 ـ أنَّه مجتمعٌ مجنَّدٌ للعمل ، في كلِّ اتِّجاهٍ تلمس فيه روح الجنديَّة واضحةً لا في القتال في سبيل الله ، فحسب ، وإذا كان القتال في سبيل الله قد شغل حيِّزاً كبيراً من حياة هذا المجتمع ، ولكن في جميع الاتِّجاهات ، فالكلُّ متأهِّبٌ للعمل في اللَّحظة الّتي يطلب منه فيها العمل ، ومن ثمَّ لم يكن في حاجةٍ إلى تعبئةٍ عسكريَّةٍ ، ولا مدنيَّةٍ ، فهو معبَّأ من تلقاء نفسه بدافع العقيدة ، وبتأثير شحنتها الدَّافعة لبذل النَّشاط في كلِّ اتجاه.
6 ـ أنَّه مجتمعٌ متعبِّدٌ ، تلمس فيه روح العبادة واضحةً في تصرُّفاته ليس فقط في أداء الفرائض ، والتطوُّع بالنَّوافل ابتغاء مرضاة الله ، ولكن في أداء الأعمال جميعاً ، فالعمل في حسِّه عبادةٌ ، يؤدِّيه بروح العبادة ، الحاكم يسوس رعيَّته بروح العبادة ، والمعلِّم الّذي يعلِّم القران ، ويفقه النَّاس في الدِّين يعلِّم بروح العبادة ، والتَّاجر الّذي يراعي الله في بيعه ، وشرائه يفعل ذلك بروح العبادة ، والزَّوج يرعى بيته بروح العبادة والزَّوجة ترعى بيتها بروح العبادة ، تحقيقاً لتوجيه رسول الله (ص) : « كلُّكم راعٍ ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّته » .
هذه من أهم سمات عصر الصِّدِّيق ، وعهد الخلفاء الرَّاشدين ـ بصفةٍ عامَّةٍ ـ إلا أنَّ تلك السِّمات كانت أقوى كلَّما اقتربنا من عهد النُّبوَّة ، وتضعف كلَّما ابتعدنا عن عصر النُّبوَّة ، وهذه السِّمات جعلته مجتمعاً مسلماً في أعلى أفاقه ، وهي الّتي جعلت هذه الفترة المثاليَّة في تاريخ الإسلام ، كما أنَّها هي الّتي ساعدت في نشر هذا الدِّين بالسُّرعة العجيبة الّتي انتشر بها ، فحركة الفتح ذاتها من أسرع حركات الفتح في التَّاريخ كلِّه ، بحيث شملت في أقل من خمسين عاماً أرضاً تمتدُّ من المحيط غرباً إلى الهند شرقاً، وهي ظاهرةٌ في ذاتها تستحقُّ التَّسجيل، والإبراز، وكذلك دخول النَّاس في الإسلام في البلاد المفتوحة بلا قهرٍ ، ولا ضغطٍ ، وقد كانت تلك السِّمات الّتي اشتمل عليها المجتمع المسلم هي الرَّصيد الحقيقيُّ لهذه الظَّاهرة ، فقد أحبَّ النَّاس الإسلام لَمَّا رأوه مطبَّقاً على هذه الصُّورة العجيبة الوضَّاءة ، فأحبُّوا أن يكونوا من بين معتنقيه.
إن دراسة هذه الفترة من التَّاريخ ينبغي أن تترك انطباعاً لا يمحى في نفس الدَّارس ، انطباعاً بأنَّ الإسلام دينٌ واقعيٌّ قابلٌ للتَّطبيق في عالم الواقع بكلِّ مثاليَّاته ، فهي ليست مثاليَّات معلَّقةٌ في الفضاء لمجرد التَّأمُّل ، أو التَّمنِّي ، ولكنَّها مثاليَّاتٌ واقعيَّةٌ، في متناول التَّطبيق إذا حاولها النَّاس بالجدِّيَّة الواجبة ، وأعطوها حقَّها من الجهد ، ثمَّ انطباعاً بأنَّ ما حدث مرَّةً يمكن أن يحدث مرَّةً أخرى ؛ لأنَّ البشر هم البشر، وقد استطاع البشر دائماً أن يحاولوا الصُّعود مرَّةً أخرى ؛ وسيصعدون حين يعزمون ، وسينالون على ذلك النَّصر ، والتَّمكين.
قال تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *} [النور : 55 ] .
ومن الأمور الّتي تساعد المسلمين على العودة إلى الخلافة الرَّاشدة : معرفة العوامل ، والأسباب الّتي أدت إلى زوالها ؛ لكي نعمل على اجتنابها ، والأخذ بالأسباب الّتي جعلها الله سبباً في إكرام الأمَّة بها ، ولذلك نريد أن نفصِّل في أسباب فتنة مقتل عثمان ؛ لأهمِّيتها ، وإليك أهمَّ هذه الأسباب :
أولاً : الرَّخاء وأثره في المجتمع :
كان رسول الله (ص) يرى ما يعانيه أصحابه من شظف العيش ، وفقر الحال ، فكان يصبِّرهم ، ثمَّ يخبرهم : أنَّ هذا الحال الّذي هم عليه لن يدوم طويلاً ، حتَّى تفتح عليهم خزائن الدُّنيا ، وخيراتها ، وحذَّرهم من الاشتغال بذلك عن العمل الصَّالح ، والجهاد في سبيل الله ، وما يمكن أن يجرَّه ذلك عليهم من التقاتل على الدُّنيا ومتاعها الزَّائل ، وقد فقه عمر بن الخطَّاب هذا التَّحذير فكان من سياسته حماية المسلمين من غوائل فتنة المال ، وزخارف الدُّنيا ، فاجتهد في منع المسلمين من التوسُّع في بلاد العجم ، ولولا ظهور مصلحةٍ أخرى راجحةٍ في توسُّعهم ؛ لبقي المنع قائماً ، إلا أنَّ هذا التَّراجع من عمر لم يشمل كبار الصَّحابة ، والمهاجرين ، والأنصار الّذين كانوا بالمدينة ؛ إذ بقي المنع في حقِّهم.
ولا شكَّ : أنَّ الّذي فعله عمر كان يدلُّ على إحساسه ، وخوفه من انتشار المسلمين في أرضٍ تزخر بألوان الخيرات والأرزاق ؛ فتستولي الدُّنيا على قلوبهم ، وتفسد عليهم آخرتهم، فلمَّا جاء عهد عثمان ، وتوسَّعت الفتوحات شرقاً ، وغرباً ، وبدأت الأموال تتقاطر على بيت المال من الغنائم ، والأسلاب ، وامتلأت أيدي النَّاس بالخيرات ، والأرزاق، وغنيٌّ عن الإشارة : أنَّ النِّعم ، والخيرات ، وتلك الواردات من الفتوح سيكون لها أثرها على المجتمع ؛ إذ تجلب الرَّخاء وما يترتَّب عليه من انشغال النَّاس بالدُّنيا ، والافتتان بها ، كما أنَّها مادةٌ للتَّنافس ، والبغضاء ، خاصَّةً بين أولئك الّذين لم يصقل الإيمان نفوسهم ، ولم تهذِّبهم التَّقوى من أعراب البادية ، وجفاتها، ومن مسلمة الفتوحات ، وأبناء الأمم المترفة الدُّخلاء في الإسلام الّذين جروا شوطاً بعيداً في زخارف الدُّنيا ، وبهجتها ، واتَّخذوها غايةً يتنافسون فيها ، وقد أدرك عثمان هذه الظَّاهرة ، وأنذر بما سيؤول إليه أمر الأمَّة من التَّبدُّل والتَّغيُّر في كتابه الموجه إلى الرَّعية : فإنَّ أمر هذه الأمَّة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاثةٍ فيكم : تكامل النِّعم ، وبلوغ أولادكم من السَّبايا ، وقراءة الأعراب والأعاجم للقرآن .
أمَّا تكامل النِّعم فيتحدَّث الحسن البصريُّ ـ وهو شاهد عيانٍ ـ عن حالة المجتمع، ووفور الخيرات ، وإدرار الأموال ، وما ال إليه أمر النَّاس من البطر وعدم الشُّكر ، فيقول : أدركت عثمان على ما نقموا عليه ، قلَّما يأتي على النَّاس يومٌ إلا وهم يقتسمون فيه خيراً ، يقال لهم : يا معشر المسلمين ! اغدوا على أعطياتكم ، فيأخذونها وافرةً ، ثمَّ يقال لهم : اغدوا على السَّمن ، والعسل ، فالأعطيات جاريةٌ ، والأرزاق دارَّةٌ ، والعدوُّ مُتَّقى ، وذات البين حسنٌ ، والخير كثيرٌ ... والأخرى كان السَّيف مغمداً على أهل الإسلام ، فسلُّوه على أنفسهم ، فوالله ما زال مسلولاً إلى يوم النَّاس هذا ! وايم الله إنِّي لأراه سيفاً مسلولاً إلى يوم القيامة .
وأمَّا بلوغ أولاد المسلمين من السَّبايا ؛ فيتمثَّل فيما آل إليه أمر هؤلاء من الدَّعة، والتَّرف ، وكان أوَّلُ مُنْكَرٍ ظهر بالمدينة حين فاضت الدُّنيا ، وانتهى وسع النَّاس طيرانَ الحمام والرَّمي على الجلاهقات فاستعمل عليها عثمان رجلاً من بني ليث سنة ثمانٍ، فقصَّها ، وكسر الجلاهقات، وحدث بين النَّاس النَّشو بتناولهم النَّبيذ، فأرسل عثمان رضي الله عنه رجلاً يطوف عليهم بالعصا ؛ ليمنعهم من ذلك ، وعندما اشتدَّ ذلك ، شكاهم عثمان رضي الله عنه إلى النَّاس ، فأجمعوا على أن يجلدوا في النَّبيذ ، فأُخذ نفرٌ منهم ، فجُلدوا ، ثمَّ جعل عثمان لا يأخذ أحداً على شرٍّ ، أو شهر سلاحاً إلا نفاه من المدينة ، فضجَّ اباؤهم من ذلك.
وقام عثمان في المدينة ، فقال : إنَّ النَّاس تبلغني عنهم هناتٌ ، وهناتٌ ، وإنِّي لا أكون أوَّل من فتح بابها ، ولا أدار راحتها ( أي : الفتنة ) ، ألا وإنِّي زامٌّ نفسي بزمام ، وملجمها بلجامٍ ، فأقودها بزمامها ، وأكبعها بلجامها ، ومنَّا ولكم طرف الحبل ، فمن اتَّبعني ، حملته على الأمر الّذي يعرف ، ومن لم يتَّبعني ؛ فمن خلفٍ منه ، وعزاءٍ منه، ألا وإنَّ لكلِّ نفسٍ يوم القيامة سائقاً ، وشهيداً ، سائقٌ يسوقها على أمر الله ، وشاهدٌ يشهد عليها بعملها ، فمن كان يريد الله بشيءٍ ؛ فليبشر ، ومن كان يريد الدُّنيا ؛ فقد خسر .
وهكذا لمَّا قام عثمان الرَّجل التَّقيُّ ، والخليفة الرَّاشد بواجبه ، وكانت إجراءاته تعزيريَّةً تجاه أبناء الأغنياء الّذين بدؤوا نوعاً من حياة التَّرف ، وفساد الأخلاق ؛ انضمَّ أولئك المنحرفون إلى صفِّ النَّاقمين من الرُّعاع .
وبالنسبة لقراءة الأعراب ، والأعاجم القرآن ، فيظهر في شكلٍ واضحٍ في تكوين طبقةٍ في المجتمع المسلم تتعلَّم القرآن لا رغبةً في الثَّواب ، وإنَّما رغبة في الجُعْل الّذي جعله الخليفة تشجيعاً ، وتأليفاً، ويجب أن نلاحظ : أنَّ هذا التغيير بدأ أثره يظهر أولاً على أطراف الدَّولة الإسلاميَّة ، ثمَّ أخذ يزحف إلى عاصمة الخلافة، ممَّا دفع عثمان رضي الله عنه إلى تذكير المسلمين في خُطَبِه بضرورة الحذر من التَّهالك على الدُّنيا ، وحطامها ، فكان ممَّا قاله في إحدى خطبه :
إنَّ الله إنَّما أعطاكم الدُّنيا ؛ لتطلبوا بها الاخرة ، ولم يعطكموها ؛ لتركنوا إليها ، إنَّ الدُّنيا تفنى ، وإنَّ الاخرة تبقى ، ولا تبطرنَّكم الفانية ، ولا تشغلنَّكم عن الباقية،... واحذروا من الله الغير ، والزموا جماعتكم ، لا تصيروا أحزاباً، ثمَّ قرأ : {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ *وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *} [آل عمران : 103 ـ 104].
وفي مثل هذه الظُّروف ، والخيرات وافرةٌ ، فاضت الدُّنيا على المسلمين ، وتفرَّغ النَّاس بعد أن فتحوا الأقاليم ، واطمأنُّوا ، فأخذوا ينقمون على خليفتهم.
ومن هنا يُعلم أثر الرَّخاء في تحريك الفتنة، ومن هنا أيضاً يمكن فهم مقالة عثمان رضي الله عنه لعبد الرَّحمن بن ربيعة ـ له صحبةٌ ـ وهو على الباب: إن الرَّعية قد أبطر كثيراً منهم البطنة ، فقصِّر بهم ، ولا تقتحم بالمسلمين ، فإنِّي خاشٍ أن يبتلوا. وفي اخر خطبةٍ لعثمان رضي الله عنه وهو يعظ المسلمين بعد أن فتحت الدُّنيا عليهم ، قال : ألا لا تبطرنَّكم الفانية ، ولا تشغلنَّكم عن الباقية ... واحذروا أحداث الدَّهر المغير، والزموا جماعتكم ، ولا تتفرَّقوا شيعاً ، وأحزاباً.
يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf