أسباب فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه (٤)
الحلقة السادسة والأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1441ه/ديسمبر2019م
3ـ ظهور جيلٍ جديدٍ :
فقد حدث في المجتمع تغيُّر أكبر ، ذلك : أنَّ جيلاً جديداً من النَّاس ظهر ، وأخذ يحتلُّ مكانةً في المجتمع، وهو غير جيل الصَّحابة، جيلٌ يعيش في عصرٍ غير العصر الّذي كانوا يعيشون فيه، ويتَّصف بما لا يتَّصفون به، فهو جيلٌ يعتبر في مجموعه أقلَّ من الجيل الأوَّل الّذي حمل على كتفيه عبء بناء الدَّولة، وإقامتها، فقد تميَّز الجيل الأوَّل من المسلمين بقوَّة الإيمان، والفهم السَّليم لجوهر العقيدة الإسلاميَّة، والاستعداد التَّامّ لإخضاع النَّفس لنظام الإسلام المتمثِّل في القرآن، والسُّنَّة، وكانت هذه الميِّزات أقلَّ ظهوراً في الجيل الجديد الّذي وُجد نتيجةً للفتوحات الواسعة، وظهرت فيه المطامع الفرديَّة، وبُعثت فيه العصبيَّة للأجناس، والأقوام، وبعضهم يحملون رواسب كثيرةً من رواسب الجاهليَّة الّتي كانوا عليها. ولم ينالوا من التَّربية الإسلاميَّة على العقيدة الصَّحيحة السَّليمة مثل ما نال الرَّعيل الأوَّل من الصَّحابة رضي الله عنهم على يد رسول الله (ﷺ)، وذلك لكثرتهم، وانشغال الفاتحين بالحروب، والفتوحات الجديدة، فالصَّحابة كانوا أقلَّ فتناً من سائر مَنْ بعدهم، فإنَّه كلَّما تأخَّر العصر عن النُّبوَّة كثر التَّفرُّق، والخلاف.
كان الجيل الجديد لا يرضى بالواقع الّذي كان يتَّسم به جيل الّذين سبقوه ، فقد اعتاد على غير ما اعتادوا عليه ، فتكوَّنت عقليَّةٌ جديدةٌ ، ومفهومٌ جديدٌ للحياة ، وهو مفهومٌ قد ابتعد عن العقليَّة الّتي كانت سائدةً في عصر الرَّاشدين الأوَّلين ، فأصبح لا يفهم تلك العقليَّة ، ولا يستطيع تشرُّبها ، ولا يسعه أن يذعن لحكمها، ولذلك انضمَّ المنحرفون من الجيل الجديد لدعاة الفتنة .
4ـ استعداد المجتمع لقبول الشَّائعات :
وهكذا ندرك من خلال هذا الخليط غير المتجانس في نسيج المجتمع : أنَّه صار مهيَّئاً للهزَّات ، مستعدّاً للاضطراب ، قابلاً لتلقِّي الإذاعات ، والأقاويل والشَّائعات، وهذا ما يعبِّر عنه بوضوح ابن تيميَّة قائلاً : ولهذا لمَّا كان النَّاس في زمن أبي بكرٍ، وعمر ـ اللَّذين أُمر المسلمون بالاقتداء بهما، كما قال رسول الله (ﷺ) : « اقتـدوا بـاللَّذين من بعدي : أبي بكرٍ ، وعمر » ـ أقرب عهداً بالرِّسالة ، وأعظم إيماناً ، وصلاحاً ، وأئمَّتهم أقوم بالواجب ، وأثبت في الطُّمأنينة لم تقع فتنةٌ، إذ كانوا في حكم القسط ( أي : النُّفوس المطمئنَّة ) .
ولما كان في آخر خلافة عثمان ، وخلافة عليٍّ ؛ كثر القسم الثالث ( أهل النَّفس اللَّوَّامة الّتي تخلط عملاً صالحاً ، وأخر سيئاً ) فصار فيهم شهوةٌ ، وشبهةٌ مع الإيمان ، والدِّين ، وصار ذلك في بعض الولاة ، وبعض الرَّعايا ، ثمَّ كثر هذا القسم؛ ( الّذي خلط عملاً صالحاً ، واخر سيئاً ) بعد ، فنشأت الفتنة الّتي سببها ما تقدَّم من عدم تمحيص التَّقوى ، والطَّاعة في الطَّرفين ، واختلاطهما بنوعٍ من الهوى ، والمعصية في الطَّرفين ، وكلٌّ منهم متأوِّلٌ ، وأنَّه يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، وأنَّه مع الحقِّ ، والعدل ، ومع هذا التَّأويل نوعٌ من الهوى ، ففيه نوعٌ من الظنِّ ، وما تهوى الأنفس ، وإن كانت إحدى الطَّائفتين أولى بالحقِّ من الأخرى، ويوضِّح هذا الواقع بدقَّةٍ أكثر ذلك الحوار الّذي دار بين أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب ، وأحد أتباعه ، قال الرَّجل : ما بال المسلمين اختلفوا عليك ، ولم يختلفوا على أبي بكرٍ ، وعمر ؟ قال عليٌّ : لأنَّ أبا بكرٍ ، وعمر كانا واليين على مثلي ، وأنا اليوم والٍ على مثلك. وكان أمير المؤمنين عثمان بن عفَّان مدركاً لما يدور في وسط المجتمع حيث قال في رسالته إلى الأمراء : أمَّا بعد ، فإنَّ الرَّعيَّة قد طعنت في الانتشار ، ونزعت إلى الشَّره ، وأَعْدَاها على ذلك ثلاث: دنيا مؤثرةٌ، وأهواءٌ مسرعةٌ، وضغائن محمولةٌ، يوشك أن تنفر، فَتُغيَّر.
ثالثاً : مجيء عثمان بعد عمر ، رضي الله عنهما :
كان مجيء عثمان رضي الله عنه مباشرةً بعد عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه واختلاف الطَّبع بينهما مؤدِّياً إلى تغيُّر أسلوبهما في معاملة الرَّعية ، فبينما كان عمر قوي الشَّكيمة ، شديد المحاسبة لنفسه ، ولمن تحت يديه ، كان عثمان ألين طبعاً ، وأرقَّ في المعاملة ، ولم يكن يأخذ نفسه ، أو يأخذ النَّاس بما يأخذهم به عمر حتَّى يقول عثمان لنفسه : يرحم الله عمر ! ومن يطيق ما كان عمر يطيق ؟ ! لكن النَّاس ، وإن رغبوا في الشَّوط الأوَّل من خلافته ؛ لأنَّه لان معهم ، وكان عمر رضي الله عنه شديداً عليهم حتَّى أصبحت محبَّته مضرب المثل .
فقد أنكروا عليه بعد ذلك ، ويرجع هذا إلى نشأة عثمان في لطفه ، ولين عريكته، ورقَّة طبعه ، ودماثة خُلقه ، ممَّا كان له بعض الأثر في مظاهر الفرق عند الأحداث بين عهده ، وعهد سلفه عمر بن الخطَّاب ، وقد أدرك عثمان ذلك حين قال لأقوامٍ سجنهم : أتدرون ما جرَّأكم عليَّ ؟ ما جرَّأكم عليَّ إلا حلمي.
وحين بدت نوايا الخارجين وقد ألزمهم عثمان الحجَّة في ردَّه على المآخذ الّتي أخذوها عليه أمام الملأ من الصَّحابة والنَّاس ، أبى المسلمون إلا قتلهم ، وأبى عثمان إلا تركهم ؛ لحلمه ، ووداعته قائلاً : بل نعفو ، ونقبل ، ولنبصرهم بجهدها ، ولا نحادِّ أحداً حتَّى يركب حدّاً ، أو يبدي كفراً.
رابعاً : خروج كبار الصَّحابة من المدينة :
كان عمر رضي الله عنه قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان إلا بإذنٍ، وأجلٍ، فشكوه، فبلغه، فقام، فقال : ألا إنِّي قد سننت الإسلام سَنَّ البعير، يبدأ فيكون جذعاً، ثم ثَنِيّاً، ثمَّ رباعيّاً، ثمَّ سدسيّاً، ثم بازلاً. ألا فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان، ألا فإنَّ الإسلام قد بَزَل، ألا وإنَّ قريشاً يريدون أن يتَّخذوا مال الله معوناتٍ دون عباده، ألا فأمَّا وابن الخطاب حيٌّ فلا، إنِّي قائمٌ دون شِعب الحرَّة، آخذ بِحلاقيم قريش، وَحُجَزِها أن يتهافتوا في النَّار.
لقد كان عمر يخاف على هؤلاء الصَّحابة من انتشارهم في البلاد المفتوحة ، وتوسُّعهم في القطاع والضِّياع ، فكان يأتيه الرَّجل من المهاجرين ، وهو ممَّن حبس في المدينة ، فيستأذنه في الخروج ، فيجيبه عمر : لقد كان لك في غزوك مع رسول الله ما يبلغك ، وخيرٌ لك من الغزو اليوم ألا ترى الدُّنيا ، ولا تراك.
وأمَّا عثمان فقد سمح لهم بالخروج ، ولان معهم ، يقول الشَّعبيُّ : فلمَّا ولي عثمان، خلَّى عنهم ، فاضطربوا في البلاد ، وانقطع إليهم النَّاس ، فكان أحبَّ إليهم من عمر، فكان من نتائج هذا التوسُّع أن اتَّخذ رجالٌ من قريش أموالاً في الأمصار ، وانقطع إليهم النَّاس.
وفي روايةٍ : فلمَّا ولي عثمان لم يأخذهم بالّذي كان يأخذهم عمر ، فانساحوا في البلاد ، فلمَّا رأوها ، ورأوا الدُّنيا ، وراهم النَّاس انقطع إليهم من لم يكن له طَوْلٌ ، ولا مَزِيَّةٌ في الإسلام ، فكان مغموماً ( مغموراً ) في النَّاس ، وصاروا أوزاعاً إليهم، وأمَّلوهم ،وتقدَّموا في ذلك ، فقالوا : يملكون ، فنكون قد عرفناهم ، وتقدَّمنا في التَّقريب، والانقطاع إليهم ، فكان ذلك أوَّل وهنٍ دخل في الإسلام ، وأوَّل فتنة كانت في العامَّة ليس إلا ذلك.
خامساً : العصبية الجاهليَّة :
يقول ابن خلدون : لما استكمل الفتح ، واستكمل للملَّة الملك ، ونزل العرب بالأمصار في حدود ما بينهم وبين الأمم من البصرة ، والكوفة ، والشَّام ، ومصر ، وكان المختصُّون بصحبة الرَّسول (ﷺ) والاقتداء بهديه ، وآدابه : المهاجرين ، والأنصار ، وقريش ، وأهل الحجاز ، ومن ظفر بمثل ذلك مِنْ غيرهم ، وأمَّا سائر العرب من بني بكر بن وائل ، وعبد القيس ، وسائر ربيعة ، والأزد ، وكندة ، وتميم، وقضاعة ، وغيرهم فلم يكونوا في تلك الصحبة بمكانٍ إلا قليل منهم . وكانت لهم في الفتوحات قدمٌ ، فكانوا يرون ذلك لأنفسهم مع ما يدين به فضلاؤهم من تفضيل أهل السَّابقة ، ومعرفة حقِّهم ، وما كانوا فيه من الذُّهول ، والدَّهش لأمر النُّبوَّة ، وتردُّد الوحي ، وتنزُّل الملائكة ، فلمَّا انحصر ذلك العباب ، وتنوسي الحال بعض الشَّيء ، وذل العدوُّ ، واستفحل الملك ؛ كانت عروق الجاهليَّة تنبض ، ووجدوا الرِّياسة عليهم من المهاجرين ، والأنصار ، وقريش ، وسواهم ، فأنفت نفوسهم منه ، ووافق ذلك أيَّام عثمان ، فكانوا يُظهرون الطعن في ولاته بالأمصار ، والمؤاخذة لهم باللَّحظات ، والخطوات ، والاستبطاء عليهم بالطَّاعات ، والتَّجنِّي بسؤال الاستبداد منهم ، والعزل، ويفيضون في النَّكير على عثمان ، وفشت المقالة في ذلك في أتباعهم ، وتناولوا بالظُّلم في جهاتهم ، وانتهت الأخبار بذلك إلى الصَّحابة بالمدينة ، فارتابوا ، وأفاضوا في عزل عثمان ، وحمله على عزل أمرائه ، وبعث إلى الأمصار من يأتيه بالخبر ... فرجعوا إليه فقالوا : ما أنكرنا شيئاً ، ولا أنكره أعيان المسلمين ، ولا عوامُّهم.
سادساً : توقُّف الفتوحات :
حين توقَّفت الفتوح في أواخر عهد عثمان أمام حواجز طبيعيَّة ، أو بشريَّة لم تتجاوزها ، سواءٌ في جهات فارس ، وشمالي بلاد الشَّام ، أو في جهة إفريقية ، توقفت الغنائم على أثرها ، فتساءل الأعراب ، أين ذهبت الغنائم القديمة ؟ أين ذهبت الأراضي المفتوحة الّتي يعدُّونها حقّاً من حقوقهم، وانتشرت الشَّائعات الباطلة الّتي اتهمت عثمان رضي الله عنه بأنَّه تصرف في الأراضي الموقوفة على المسلمين وفق هواه ، وأنه أقطع منها لمن شاء من النَّاس ، وقد كان لها أثرٌ ، ووقعٌ على الأعراب ، خاصَّةً وأنَّ معظمهم بقي بدون عملٍ يقضون شطراً من وقتهم في الطَّعام ، والنَّوم ، والشَّطر الآخر بالخوض في سياسة الدَّولة ، والحديث عن تصرُّفات عثمان الّتي كانت تهوِّلها السَّبئيَّة ، وقد أدرك أحد عمَّال عثمان هذا الأمر، وهو عبد الله بن عامر ، فأشار على الخليفة حيث طلب من عماله ـ وهم وزراؤه ، ونصحاؤه ـ أن يجتهدوا في أرائهم ، ويشيروا عليه ، فأشار عليه أن يأمر النَّاس بالجهاد ، ويجمهرهم في المغازي حتَّى لا يتعدَّى همُّ أحدهم قمل فروة رأسه ، ودبرة دابَّته.
وفي ذلك الجو من الحديث ، والفكر عند أفراد تعوَّدوا الغزو ، ولم يفقهوا من الدِّين شيئاً كثيراً يمكن أن يُتوقَّع كلُّ سوءٍ ، ويكفي أن يحرَّك هؤلاء الأعراب ، وأن يُوجَّهوا توجيهاً ، فإذا هم يثورون ، ويحدثون القلاقل والفتن ، وهذا ما حدث بالفعل، فإنَّ الأعراب ـ بسبب توقُّف الفتوحات ـ ساهموا في بوادر الفتنة الأولى ، وكانوا سبباً من أسباب اندلاعها .
سابعاً : المفهوم الخاطئ للورع :
الورع في الشَّريعة طيِّبٌ ؛ وهو أن يُترك ما لا بأس به ، مخافة ممَّا فيه بأس ، وهو في الأصل ترفُّع عن المباحات في الله ، ولله ، والورع شيءٌ شخصيٌّ يصحُّ للإنسان أن يطالب به نفسه ، ولكن لا يصحُّ أن يطالب به الآخرين ، ومن أخطر أنواع الورع : الورع الجاهل الّذي يجعل المباح حراماً ، أو مفروضاً ، وهذا الّذي وقع فيه أصحاب الفتنة، فقد استغلَّ أعداء الإسلام يومها مشاعرهم هذه ، ونفخوا فيها ، فرأوا فيما فعله عثمان من المباحات ، أو المصالح خروجاً على الإسلام ، وتغييراً لسنَّة من سبقه ، وعظمت هذه المسائل في أعين الجهلة ، فاستباحوا ـ أو أعانوا من استباح ـ دم الخليفة الرَّاشد عثمان بن عفَّان رضي الله عنه ، وفتحوا على المسلمين باب الفتنة إلى اليوم، وهذا الورع الجاهل نلاحظه اليوم في تصرفات بعض المسلمين الّذين يصرُّون على تكييف أحكام الإسلام وفق ما يشتهون، أو يكرهون، أو وفق عاداتهم، وتقاليدهم.
ثامناً : طموح الطَّامحين :
وجد في الجيل الثاني من أبناء الصَّحابة رضي الله عنهم من يعتبر نفسه جديراً بالحكم، والإدارة، ووجد أمثال هؤلاء أنَّ الطريق أمامهم مغلقٌ، وفي العادة أنَّه متى وجد الطَّامحون الّذين لا يجدون لطموحهم متنفَّساً ، فإنَّهم يدخلون في كلِّ عملية تغيير، ومعالجة أمر هؤلاء في غاية الأهميَّة.
تاسعاً : تامر الحاقدين :
لقد دخل في الإسلام منافقون موتورون اجتمع لهم من الحقد، والذَّكاء، والدَّهاء، ما استطاعوا به أن يدركوا نقاط الضَّعف الّتي يستطيعون من خلالها أن يوجدوا الفتنة، ووجدوا من يستمع إليهم بآذانٍ صاغيةٍ، فكان من اثار ذلك ما كان، فقد عرفنا سابقاً وجود يهود، ونصارى، وفرس، وهؤلاء جميعاً معروفٌ باعث غيظهم، وحقدهم على الإسلام، والدَّولة الإسلاميَّة.
ولكنَّنا هنا نضيف من وقع عليه حدٌّ ، أو تعزيرٌ لأمرٍ ارتكبه في وسط الدَّولة ، وعاقبه الخليفة ، أو ولاته في بعض الأمصار وبالذَّات البصرة ، والكوفة ، ومصر، والمدينة ، فاستغلَّ أولئك الحاقدون من يهود ، ونصارى ، وفرس ، وأصحاب الجرائم مجموعاتٍ من النَّاس كان معظمهم من الأعراب ، ممَّن لا يفقهون هذا الدِّين على حقيقته ، فتكوَّنت لهؤلاء جميعاً طائفةٌ ، وصفت من جميع من قابلهم بأنَّهم أصحاب شرٍّ، فقد وُصِفُوا : بالغوغاء من أهل الأمصار ، ونزَّاع القبائل ، وأهل المياه ، وعبيد المدينة ، وبأنهم ذؤبان العرب ، وأنَّهم حثالة النَّاس ومتَّفقون على الشَّرِّ، وسفهاءٌ عديمو الفقه ، وأراذل من أوباش القبائل ، فهم أهل جفاءٍ ، وهمجٍ ، ورعاعٍ من غوغاء القبائل ، وسفلة الأطراف الأراذل، وأنَّهم الة الشَّيطان، وقد تردَّد في المصادر اسم عبد الله بن سبأ الصَّنعاني اليهوديِّ ضمن هؤلاء الموتورين الحاقدين ، وأنَّه كان من اليهود ، ثمَّ أسلم ، ولم يُنقِّب أحدٌ عن نواياه ، فتنقَّل بين البلدان الإسلاميَّة باعتباره أحد أفراد المسلمين، وسيأتي الحديث عنه في مبحثٍ مستقلٍّ بإذن الله .
عاشراً : التَّدبير المحكم لإثارة المآخذ ضدَّ عثمان رضي الله عنه :
كان المجتمع مهيَّئاً لقبول الأقاويل ، والشَّائعات نتيجة عوامل وأسبابٍ متداخلةٍ، وكانت الأرض مهيّأةً ، ونسيج المجتمع قابلاً لتلقي الخروقات ، وأصحاب الفتنة أجمعوا على الطَّعن في الأمراء بحجَّة الأمر بالمعروف ، والنَّهي عن المنكر ، حتَّى استمالوا النَّاس إلى صفوفهم ، ووصل الطَّعن إلى عثمان بن عفَّان رضي الله عنه نفسه باعتباره قائد الدَّولة ، وإذا ما حصرنا الدَّعاوَى الّتي رُوِّجت ضد الخليفة ، وطعنوه بها، فيمكننا تصنيفها إلى مجموعاتٍ خمس :
1ـ مواقف شخصيَّة له قبل توليه الخلافة ( تغيُّبه عن بعض الغزوات ، والمواقع).
2ـ سياسته الماليَّة : الأعطيات ، الحِمَى .
3ـ سياسته الإدارية النَّافذة : تولية أقربائه ، طريقته في التَّولية .
4ـ اجتهادات خاصَّة به ، أو بمصلحة الأمَّة ( إتمام الصَّلاة بمنى ، جمع القرآن، الزِّيادة في المسجد ) .
5ـ معاملته لبعض الصَّحابة : عمَّار ، أبي ذرٍّ ، ابن مسعودٍ.
وقد بيَّنت موقف عثمان في كلِّ ما وجه إليه في موضعه ، ولم يبق إلا عمَّارٌ رضي الله عنه وسيأتي الحديث عنه بإذن الله . وقد حدث تزيُّد في إبراز المطاعن على عثمان رضي الله عنه سواءٌ في عهده ، وما واجهوه بها ، وردُّه عليها في حينه، أو ما تُقوِّل عليه فيما بعد عند الرُّواة ، والكتَّاب ، فإنَّها لم تصحَّ ، ولم تصل إلى حدِّ أن تكون سبباً في قتله.
إنَّ الماخذ السَّابقَ ذكرها والمدوَّنة في تاريخ الطَّبري ، وغيره من كتب التَّاريخ والمرويَّة عن طريق المجاهيل ، والإخباريِّين الضُّعفاء ـ خاصَّةً الإماميَّة ـ كانت وما تزال بليَّةً عظمى على الحقائق في سِيَر الخلفاء والأئمَّة ، خاصَّةً في مراحل الاضطرابات والفتن ، وقد كان مع الأسف لسيرة عثمان أمير المؤمنين رضي الله عنه من ذلك الحظُّ الوافر، فرواية الحوادث، ووضع الأباطيل على النَّهج الملتوي بعض ما نال تلك السِّيرة النَّيِّرة من تحريف المنحرفين، وتشويه الغالين ؛ بغية التأليب عليه، أو التَّشهير به وقد أدرك عثمان رضي الله عنه بنفسه ذلك عندما كتب إلى أمرائه: أمَّا بعد، فإنَّ الرَّعية طعنت في الانتشار، ونزعت إلى الشرِّ؛ أعداها على ذلك ثلاث: دنيا مؤثرةٌ، وأهواءٌ متسرِّعةٌ، وضغائن محمولةٌ، وقال ابن العربيِّ عن تلك الماخذ جملةً: قالوا متعدِّين متعلِّقين برواية كذَّابين: جاء عثمان في ولايته بمظالم، ومناكير... هذا كلُّه باطلٌ سنداً، ومتناً.
وقد بيَّن ابن تيميَّة بأنَّ عثمان رضي الله عنه ليس معصوماً ، فقال : والقاعدة الكلِّيَّة في هذا ألا نعتقد أنَّ أحداً معصومٌ بعد النَّبيّ (ﷺ) ، بل الخلفاء ، وغير الخلفاء يجوز عليهم الخطأ ، والذُّنوب الّتي تقع منهم قد يتوبون منها ، وقد تُكفَّر عنهم بحسناتهم الكثيرة ، وقد يبتلون أيضاً بمصائب يُكَفِّر الله بها ، وقد يُكَفَّر عنهم بغير ذلك ، فكلُّ ما ينقل عن عثمان غايته أن يكون ذنباً ، أو خطأً ، وعثمان رضي الله عنه قد حصلت له أسباب المغفرة من وجوهٍ كثيرةٍ ، منها سابقته ، وإيمانه ، وجهاده ، وغير ذلك من طاعته ، وقد ثبت أنَّ النَّبيّ (ﷺ) شهد له ، بل بشَّره بالجنَّة على بلوى تصيبه، ومنها: أنَّه تاب من عامَّة ما أنكروه عليه ، وأنَّه ابتلي ببلاءٍ عظيم ، فكفَّر الله به خطاياه ، وصبر حتى قتل شهيداً مظلوماً ، وهذا من أعظم ما يكفِّر الله به الخطايا.
الحادي عشر : استخدام الأساليب والوسائل المهيِّجة للنَّاس :
وأهم هذه الأساليب : إشاعة الأراجيف ، حيث تردَّدت كلمة الإشاعة ، والإذاعة كثيراً ، والتَّحريض ، والمناظرة ، والمجادلة للخليفة أمام النَّاس ، والطَّعن على الولاة، واستخدام تزوير الكتب ، واختلاقها على لسان الصَّحابة رضي الله عنهم عائشة ، وعليٍّ ، وطلحة ، والزبير ، والإشاعة بأنَّ عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه الأحقُّ بالخلافة ، وأنَّه الوصيُّ بعد رسول الله (ﷺ) ، وتنظيم فرقٍ في كلٍّ من البصرة ، والكوفة ، ومصر ؛ أربع فرق من كلٍّ مصر ممَّا يدلُّ على التَّدبير المسبق، وأوهموا أهل المدينة : أنَّهم ما جاؤوا إلا بدعوة الصَّحابة ، وصعَّدوا الأحداث ، حتَّى وصل الأمر إلى القتل.
وإلى جوار هذه الوسائل استخدموا مجموعة من الشِّعارات منها : التَّكبير ، ومنها: أنَّ جهادهم هذا ضدَّ المظالم ، ومنها : أنَّهم لا يقومون إلا بالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر ، ومنها : المطالبة باستبدال الولاة ، وعزلهم ، ثمَّ تطورت المطالبة إلى خلع عثمان ، إلى أن تمادوا في جرأتهم ، وطالبوا ، بل سارعوا إلى قتل الخليفة ، وخاصَّةً حينما وصلهم الخبر بأنَّ أهل الأمصار قادمون لنصرة الخليفة ، فزادهم حماسهم المحموم لتضييق الخناق على الخليفة ، والتَّشوُّق إلى قتله بأيِّ وسيلةٍ.
يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf