الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

مقتل عثمان بن عفَّان رضي الله عنه

الحلقة الثامنة والأربعون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

٦ جمادى الأولى ١٤٤١ ه/ ١ يناير ٢٠٢٠م

اشتعال الفتنة
نجح الموتورون الحاقدون الكاذبون في إزاحة الوليد بن عقبة عن ولاية الكوفة ، وعيَّن عثمان رضي الله عنه سعيد بن العاص والياً جديداً على الكوفة ، وعندما وصل سعِيد إلى ولايته صعد المنبر ، وبعدما حمد الله ، وأثنى عليه ، قال : والله لقد بعثت إليكم ، وإنِّي لكارهٌ ، ولكنِّي عندما أمرني عثمان ؛ لم أجد بدّاً من التَّنفيذ ، ألا وإنَّ الفتنة قد أطلعت رأسها فيكم ، ووالله لأضربنَّ وجهها ، حتَّى أقمعها، أو تغلبني وإنِّي رائدٌ نفسي اليوم.
واطَّلع سعيد على أحوال الكوفة ، وعرف توجُّهات النَّاس فيها ، وأدرك تعمُّق الفتن فيها ، وضُلوع مجموعةٍ من الخوارج ، والموتورين ، والحاقدين ، وأعداء الإسلام في التآمر ، والكيد ، والفتنة ، وسيطرة الرُّعاع ، والغوغاء ، والأعراب على الرَّأي فيها، وكتب سعيد رسالةً إلى أمير المؤمنين عثمان يخبره فيها بالأوضاع المتردِّية في الكوفة ، وممَّا قال فيها : إنَّ أهل الكوفـة قد اضطرب أمرهـم ، وقد غلب فيها أهل الشَّرف ، والسَّابقة ، والمقدمة ، والغالب على تلك البلاد روادف ردفت ، وأعراب لَحَتْ ، حتى ما ينظر فيها إلى ذي شرفٍ ، وبلاء .. ! فردَّ عليه عثمان رضي الله عنه برسالةٍ ، طلب منه فيها إعادة ترتيب أوضاع أهلها ، وتصنيفهم على أساس السَّبق ، والجهاد ، وتقديم أهل العلم ، والصِّدق ، والجهاد على غيرهم ، وممَّا قال له فيها : فضِّل أهل السَّابقة والقِدْمة ، ممَّن فتح الله على أيديهم تلك البلاد ، واجعل الّذين نزلوا البلاد بعد فتحها من الأعراب تبعاً لأولئك السَّابقين المجاهدين ، إلا أن يكون السَّابقون تثاقلوا عن الجهاد ، والحقِّ ، وتركوا القيام به ، وقام به مَنْ بعدهم ! واحفظ لكلِّ إنسانٍ منهم منزلته ، وأعطهم جميعاً قِسْطَهم بالحقِّ ، فإنَّ المعرفة بالنَّاس يتحقَّق بها العدل بينهم، وقام سعيد بتنفيذ توجيهات عثمان رضي الله عنه ، وأخبر الخليفة بما فعل ، وجمع عثمان أهل الحلِّ والعقد في المدينة، وأبلغهم بأوضاع الكوفة، ورسوخ الفتنة فيها، وإجراءات سعيد بن العاص لمواجهتها ، فقالوا : أصبت بما فعلت، ولا تسعف أهل الفتنة بشيءٍ، ولا تقدِّمهم على النَّاس ، ولا تطمعهم فيما ليسوا له بأهلٍ ، فإنَّه إذا تولَّى الأمور من ليس أهلاً لها ؛ لم يقم بها، بل يفسدها. فقال عثمان لهم: يا أهل المدينة! إنَّ النَّاس قد تحرَّكوا للفتنة، فاستعدُّوا لمواجهتها، واستمسكوا بالحقِّ، وسوف أخبركم بأخبارها، وأنقلها لكم أوَّلاً بأوَّلٍ.
أولاً : تأذِّي أصحاب الأهواء من الإصلاح :
تأذَّى الرُّعاع ، وأجلاف الأعراب من تقديم أصحاب السَّابقة ، والجهاد ، والبلاء ، والعلم ، والتَّقوى في المجالس والرِّئاسة ، والاستشارة ، وصاروا يعيبون على الولاة تقديم هؤلاء عليهم ، واستشارتهم دونهم ، ويعتبرونه تمييزاً ، وجفوةً ، وإقصاءً لهم ، واستغلَّ الحاقدون الموتورون هذا الأمر في نفوسهم ، وغرسوا فيهم كُره الخليفة ، والدَّولة ، ورفض أعمال الوالي سعيد بن العاص ، ونشر الإشاعات ضدَّه بين النَّاس.
ورفض عامَّةُ النَّاس في الكوفة كلام الموتورين الخارجين ، فسكت هؤلاء الحاقدون ، وصاروا يُخفون شبهاتهم ، ولا يظهرونها ؛ لرفض معظم المسلمين لها، ولكنَّهم كانوا يُسِرُّون بها إلى من يؤيِّدهم من الأعراب ، أو الغوغاء ، أو المعاقبين المغرَّرين، وكان أعداء الإسلام الموتورون على تعدُّد اتجاهاتهم ونزغاتهم يتآمرون على الإسلام ، والمسلمين ، وينشرون الإشاعات الكاذبة ضدَّ الخليفة ، والولاة ، ويستثمرون الأخطاء الّتي تصدر عن بعضهم في تهييج العامَّة ضدهم ، ويزيدون عليها الكثير من الافتراءات والتَّزويرات ، وهم يهدفون من ذلك إلى نشر الفوضى ، وتعميق الفرقة بين المسلمين ، وذلك لتغذية غيظهم ، وحقدهم على الإسلام الّذي قضى على أديانهم الباطلة ، وهدمِ نظام الحكم الإسلاميِّ ، الّذي حطَّم دولهم ، وقضى على جيوشهم . وجنَّد هؤلاء الأعداء لتحقيق أهدافهم الموتورين من الرُّعاع ، والسُّذَّج ، والبُلهاء ، والتفَّ حولهم الحاقدون ممَّن أدَّبهم ، أو حدَّهم ، أو عزَّرهم الخليفة ، أو أحد ولاته ، ونظَّم هؤلاء الأعداء ( جمعيَّة سرِّيَّة ) خبيثةً ، جعلوا أعضاءها هؤلاء الّذي استجابوا لهم ، وجعلوا لهم أتباعاً في المدن الكبيرة ؟ والأقاليم العديدة ، وكوَّنوا شبكة اتِّصالات سرِّيَّة بينهم، وكانت أهم فروع جمعيتهم الخبيثة في : الكوفة ، والبصرة ، ومصر ، ولهم بعض العناصر في المدينة المنوَّرة ، والشَّام.
ثانياً : عبد الله بن سبأ اليهودي على رأس العصابة :
أوصى ابن سبأ أتباعه المجرمين في جمعيَّته السِّريَّة الخبيثة المنتشرين في بلاد المسلمين ، فقال لهم : انهضوا في هذا الأمر ، فحرِّكوه ، وابدؤوا بالطَّعن على أمرائكم، وولاتكم الّذين يعيِّنهم الخليفة ، وأظهروا الأمر بالمعروف ، والنَّهي عن المنكر ، لتستميلوا النَّاس إليكم ، وادعوهم إلى هذا الأمر، وبثَّ عبد الله بن سبأ دعاته في الأمصار ، وكاتب أتباعه الّذين أفسدهم في الأمصار ، وضمَّهم إليه ، وكاتبوه ، وتحرَّك أتباعه في البلدان بدعوتهم ، ودعوا مؤيِّديهم في السِّرِّ إلى ما هم عليه من الخروج على الولاة ، والخليفة ، والعمل على عزل عثمان عن الخلافة ، وكانوا في الظاهر يُظهرون الأمر بالمعروف ، والنَّهي عن المنكر ، ليؤثِّروا في النَّاس ، ويستـميلوهم ، ويخدعوهم ، وصار أتباع ابن سبأ يؤلِّفون الأكاذيب ، والافتراءات عن عيوب أمرائهم ، وولاتهم ، وينشرونها في كتبٍ يرسلها بعضهم إلى بعض في الأمصار ، وصار أهل كلِّ مصر منهم يكتبون كتباً بهذه الأكاذيب إلى أهل مصر آخرين ، فيقرأ أهل كلِّ مصر تلك الكتـب المزوَّرة على النَّاس عندهم ، فيسـمع النَّاس عندهم عن عيوب ، وأخطـاء الوالي في ذلك البلد ، فيقولون : إنَّا لفي عافيةٍ ، مما ابتُلي به المسلمون في ذلك البلد ، ويصدِّقون ما يسمعون ! وبذلك أفسد السَّبئيُّون في الأرض، وأفسدوا المسلمين ، ومزَّقوا كلمتهم ، وزعزعوا أخوَّتهم ، ووحدتهم ، وهيَّجوا النَّاس على الولاة ، والأمراء ، ونشروا الافتراءات ضدَّ الخليفة عثمان نفسه ، وكانوا بهذه الجرائم المنظَّمة ، والمدروسة بمهارةٍ يريدون غير ما يظهرون، ويُسـرُّون غير ما يعلنون، ويهـدفون إلى عزل عثمان ، والقضاء على دولة الإسلام.
توجَّه ابن سبأ إلى الشَّام ليفسد بعض أهلها ، ويؤثِّر فيهم ، ولكنَّه لم ينجح في هدفه الشَّيطانيِّ ، فقد كان له معاوية رضي الله عنه بالمرصاد، ودخل البصرة ؛ ليجنِّد الأتباع له من المارقين ، أو الحاقدين ، أو الرُّعاع البُلَهاء ، وكان والي البصرة عبد الله بن عامر بن كريز ، وكان حازماً عادلاً صالحاً ، ولمَّا وصل ابن سبأ البصرة ، نزل عند رجل خبيثٍ من أهلها كان لصّاً فاتكاً ، هو حكيم بن جبلة.
وبلغ عبد الله بن عامر : أنَّ رجلاً غريباً نازلٌ على حكيم بن جبلة ، وكان حكيم بن جبلة رجلاً لصّاً ، وعندما كانت تعود جيوش الجهاد إلى البصرة ، كان حكيم يتخلَّف عنها ، ليسعى في أرض فارس فساداً ، ويُغِيْرُ على أرض أهل الذمَّة ، ويعتدي على أرض المسلمين ، ويأخذ منها ما يشاء ، فشكاه أهل الذِّمَّة ، والمسلمون إلى عثمان ، فكتب عثمان إلى عبد الله بن عامر ، وقال له : احبس حكيم بن جبلة في البصرة ، ولا تتركه يخرج منها حتَّى تأنس منه رُشداً ، فحبسه ابن عامر في بيته ، وكان لا يستطيع أن يخرج من البصرة ، وبينما كان اللِّصُّ ابن جبلة تحت الإقامة الجبريَّة في بيته ؛ نزل عليه اليهوديُّ عبد الله بن سبأ ، واستغلَّ ابن سبأ زعارة ابن جبلة ، وانحرافه ، وحقده ، ولؤمه ، فجنَّده لصالحه ، وصار ابن جبلة هو رجلُ ابن سبأ في البصرة ، وصار ابن جبلة يقدِّم لابن سبأ أمثاله من المنحرفين، والموتورين ، فيغرس ابن سبأ في نفوسهم أفكاره ، ويجنِّدهم بجمعيته السِّريَّة . ولمَّا علم ابن عامر بابن سبأ ؛ استدعاه ، وقال له : ما أنت ؟ قال ابن سبأ : أنا رجل من أهل الكتاب ، رغب في الإسلام ، فأسلم ، ورغب في جوارك ، فأقام عندك .
قال ابن عامر : ما هذا الكلام الّذي يبلغني عنك ؟ ! اخرج عنِّي ، أخرجه ابن عامر من البصرة ، فغادرها ابن سبأ ، بعد أن ترك فيها رجالاً ، وأتباعاً له ، وجعل فيها فرعاً لحزبه السَّبئيِّ اليهوديِّ ، ذهب ابن سبأ إلى الكوفة ، فوجد فيها رجالاً من المنحرفين ، جاهزين لاستقباله ، فجنَّدهم لجماعته وحزبه ، ولمَّا علم به سعيد بن العاص أخرجه من الكوفة ، فتوجَّه إلى مصر ، فأقام فيها ، وعشَّشَ فيها ، وباض ، وفرَّخ فيها ، وأفسد ، واستمال أناساً هناك من الرُّعاع والبلهاء ، ومن الحاقدين ، والموتورين ، ومن العصاة ، والمذنبين ، وكان ابن سبأ يرتِّب الاتصالات السِّرِّيَّة بين مقرِّه في مصر ، وبين أتباعه في المدينة ، والبصرة ، والكوفة ، ويتحرَّك رجاله بين هذه البلدان، واستمرَّت جهود ابن سبأ وأعوانه حوالي ستِّ سنواتٍ ، حيث بدؤوا أعمالهم الشَّيطانيَّة سنة ثلاثين ، ونجحوا في آخر سنة خمس وثلاثين في قتل الخليفة عثمان ، واستمرَّ إفسادهم طيلة خلافة عليٍّ رضي الله عنه ، وقرَّرَ ( السَّبئيُّون ) أن تكون بداية الفتنة في الكوفة.

يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022