أثر السَّبئية في أحداث الفتنة
الحلقة السابعة والأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1441ه/يناير 2022م
الثاني عشر : أثر السَّبئية في أحداث الفتنة :
1ـ السَّبئيَّة حقيقةٌ ، أم خيال ؟ :
أجمع القدماء على وجوده بلا استثناء ـ عبد الله بن سبأ ـ ، وخالف في ذلك قلَّةٌ من المعاصرين أكثرهم من الشِّيعة ، وحجَّة من أنكره : أنَّه من إبداع مخيِّلة سيف بن عمر التَّميميِّ ، وذلك لانتقاد بعض علماء الرِّجال له في مجال رواية الحديث إلا أنَّ العلماء يعدونه حجَّةً في الأخبار ، علماً بأنَّه وردت رواياتٌ كثيرةٌ عند ابن عساكر تذكر عبد الله بن سبأ ، وليس ( سيف بن عمر ) من الرُّواة ، وقد حكم الشَّيخ الألباني على بعضها بأنَّها صحيحةٌ من حيث السَّند ، هذا غير الرِّوايات الكثيرة عن ابن سبأ في كتب الشِّيعة سواءٌ في كتب الفرق ، أو الرِّجال ، أو الحديث عندهم ، وليس فيها عمر هذا لا من قريبٍ ، ولا من بعيدٍ .
وقد شكَّك بعض الباحثين في عبد الله بن سبأ، وقالوا بأنَّه شخصيَّةٌ وهميَّةٌ وأنكروا وجوده ، بدون حجَّةٍ ، أو برهان ، وأضاف الّذين أنكروا شخصيَّة ابن سبأ، وهم طائفة من المستشرقين ، وفئةٌ من الباحثين العرب ، وغالبية الشِّيعة المعاصرين : أنَّه شخصيَّةٌ وهميَّةٌ لم يكن لها وجود ، فأين بلغ هؤلاء من قلَّة الحياء، والجهل ، وقد ملأت ترجمته كتب التَّاريخ ، والفرق ، وتناقلت أفعاله الرُّواة ، وطبَّقت أخباره الافاق، لقد اتَّفق المؤرخون ، والمحدِّثون ، وأصحاب كتب الفرق ، والملل والنِّحل ، والطَّبقات، والأدب ، والأنساب الّذين تعرَّضوا للسَّبئيَّة على وجود شخصيَّة عبد الله بن سبأ ؛ الّذي ظهر في كتب أهل السُّنَّة ، كما ظهر في كتب الشِّيعة شخصيَّةً تاريخيَّةً حقيقيَّةً ، ولهذا فإنَّ أخبار الفتنة ، ودور ابن سبأ فيها لم تكن قصراً على تاريخ الإمام الطَّبريِّ ، واستناداً إلى روايات سيف بن عمر التَّميمي فيه ، وإنَّما هي أخبارٌ منتشرةٌ في روايات المتقدِّمين ، وفي ثنايا الكتب الّتي رصدت أحداث التَّاريخ الإسلاميِّ ، واراء الفرق ، والنِّحل في تلك الفترة ، إلا أنَّ ميزة تاريخ الإمام الطَّبريِّ على غيره : أنَّه أغزرها مادَّةً ، وأكثرها تفصيلاً لا أكثر ، ولهذا فإنَّ التَّشكيك في هذه الأحداث بلا سندٍ ، وبلا دليلٍ إنَّما يعني الهدم لكلِّ تلك الأخبار ، والتَّسفيه بأولئك المخبرين ، والعلماء ، وتزييف الحقائق التَّاريخية ، فمتى كانت المنهجيَّة ضرباً من ضروب الاستنتاج العقليِّ المحض في مقابل النُّصوص ، والرِّوايات المتضافرة ؟ ! وهل تكون المنهجيَّة في الضَّرب صفحاً والإعراض عن المصادر الكثيرة المتقدِّمة ، والمتأخِّرة الّتي أثبتت لابن سبأ شخصيَّةً واقعيَّةً ؟ ! ، وقد جاء ذكر ابن سبأ في كتب أهل السُّنة كثيراً ، منها :
ـ جاء ذكر السَّبئيَّة على لسان أعشى همدان، المتوفَّى عام 83 هـ وقد هجا المختار بن أبي عبيد الثقفي وأنصاره من أهل الكوفة بعدما فرَّ مع أشراف قبائل الكوفة إلى البصرة بقوله :
شَهِدْتُ عَلَيْكُمْ أنَّكُمْ سَبَئِيَّةٌ وَأَنِّي بِكُمْ يَا شُرْطَةَ الْكُفْرِ عَارِفُ
وهناك روايةٌ عن الشَّعبيِّ المتوفَّى عام 103 هـ ( 721م ) تفيد : أنَّ أوَّل من كذب عبد الله بن سبأ. وتحدَّث ابن حبيبٍ المتوفى عام 245 هـ ( 860م ) عن ابن سبأ حينما اعتبره أحد أبناء الحبشيَّات. كما روى أبوعاصم خُشيش بن أصرم المتوفَّى سنة 253 هـ خبر إحراق عليٍّ رضي الله عنه لجماعةٍ من أصحاب ابن سبأ في كتابه الاستقامة، ويعتبر الجاحظ المتوفى سنة 255 هـ من أوائل من أشار إلى عبد الله بن سبأ، ولكن روايته ليست أقدم رواية عن ابن سبأ ، كما يرى الدُّكتور جواد علي.
وخبر إحراق عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه لطائفة من الزَّنادقة تكشف عنه الرِّوايات الصَّحيحة في كتب الصِّحاح ، والسُّنن ، والمسانيد، ولفظ الزَّندقة ليس غريباً عن عبد الله بن سبأ ، وطائفته ، يقول ابن تيميَّة : إنَّ مبدأ الضلال إنَّما كان من الزِّنديق عبد الله بن سبأ.
ويقول الذَّهبي : عبد الله بن سبأ من غُلاة الزَّنادقة ، ضالٌّ مضلٌّ. ويقول ابن حجر : عبد الله بن سبأ من غُلاة الزَّنادقة ... وله أتباعٌ يقال لهم : السَّبئيَّة معتقدون الإلهية في عليِّ بن أبي طالبٍ ، وقد أحرقهم عليٌّ بالنَّار في خلافته، ويوجد لابن سبأ ذكرٌ في كتب الجرح ، والتعديل ، يقول ابن حبان المتوفى 354 هـ. وكان الكلبيُّ ـ محمد بن السَّائب الإخباري ـ سبئيّاً ، من أصحاب عبد الله بن سبأ ، من أولئك الّذين يقولون : إنَّ عليّاً لم يمت ، وإنَّه راجعٌ إلى الدُّنيا قبل قيام السَّاعة ... وإن رأوا سحابةً ، قالوا : أمير المؤمنين فيها... ، كما أنَّ كتب الأنساب هي الأخرى تؤكِّد نسبة ( السَّبئيَّة) إلى عبد الله بن سبأ ، ومنها على سبيل المثال كتاب ( الأنساب للسَّمعانيِّ ) المتوفى عام 562 هـ، وعرَّف ابن عساكر المتوفى عام 571 هـ ابن سبأ بقوله : عبد الله بن سبأ الّذي تنسب إليه السَّبئيَّة ، وهم الغُلاة من الرَّافضة ، أصله من اليمن ، كان يهوديّاً ، وأظهر الإسلام.
ولم يكن سيف بن عمر هو المصدر الوحيد لأخبار عبد الله بن سبأ ؛ إذ أورد ابن عساكر في تاريخه رواياتٍ لم يكن سيف فيها ، وهي تثبت ابن سبأ ، وتؤكِّد أخباره ، ويذكر شيخ الإسلام ابن تيميَّة المتوفى سنة 728 هـ : أنَّ أصل الرَّفض من المنافقين الزَّنادقة ، فإنَّه ابتداعُ ابن سبأ الزِّنديق ، وقد أظهر الغلوَّ في عليٍّ ودعا لإمامته ، والنَّص عليها ، وادَّعى العصمة له.
ويشير الشَّاطبيُّ، المتوفَّى عام 790 هـ إلى أن بدعة السَّبئيَّة من البدع الاعتقاديَّة المتعلِّقة بوجود إله مع الله ـ تعالى الله ـ وهي بدعةٌ تختلف عن غيرها من المقالات.
وفي خطط المقريزي المتوفى عام 845 هـ أنَّ عبد الله بن سبأ قام في زمن عليٍّ محدثاً القول بالوصيَّة ، والرَّجعة ، والتَّناسخ.
وأمَّا المصادر الشِّيعيَّة الّتي ذكرت ابن سبأ : فقد روى الكشِّيُّ عن محمَّد بن قولوي، قال : حدَّثني سعد بن عبد الله ، قال : حدَّثني يعقوب بن يزيد ، ومحمَّد بن عيمن ، عن عليِّ بن مهزيار ، عن فضالة بن أيوب الأزديِّ ، عن أبان بن عثمان ، قال: سمعت أبا عبد الله يقول : لعن الله عبد الله بن سبأ ، إنَّه ادَّعى الرُّبوبية في أمير المؤمنين ، وكان والله أميرُ المؤمنين عبداً طائعاً . الويل لمن كذب علينا ! وإنَّ قوماً يقولون فينا ما لا نقول في أنفسنا نبرأ إلى الله منهم والرِّواية من حيث السَّند صحيحةٌ.
وفي كتاب ( الخصال ) أورد القمِّي الخبر نفسه ، ولكن موصولاً بسندٍ اخر ، وأمَّا صاحب روضات الجنَّات ، فقد ذكر ابن سبأ عنده على لسان الصَّادق المصدوق الّذي لعن ابن سبأ لاتِّهامه بالكذب ، والتَّزوير ، وإذاعة الأسرار ، والتأويل.
وقد ذكر الدُّكتور سليمان العودة في كتابه مجموعة من النُّصوص الّتي تزخر بها كتب الشِّيعة ، ومرويَّاتهم عن عبد الله بن سبأ ، فهي أشبه ما تكون بوثائق مسجَّلة تدين من حاول إنكار ابن سبأ ، أو التَّشكيك فيه من متأخِّري الشِّيعة بحجَّة قلَّة ، أو ضعف المصادر الّتي حكت أخباره.
إنَّ شخصية ابن سبأ حقيقةٌ تاريخيَّةٌ لا لبس فيها في المصادر السُّنيَّة ، والشِّيعيَّة المتقدِّمة ، والمتأخرة على السَّواء ، وهي كذلك أيضاً عند غالبية المستشرقين أمثال: يوليوس فلهاوزن، وفان فولتن، وليفي ديلافيدا، وجولد تسهير، ورينولد نكلسن، ودوايت رونلدسن... على حين يبقى ابن سبأ محلَّ شكٍّ ، أو مجرَّد خرافةٍ عند فئة قليلةٍ من المستشرقين ؛ أمثال : كيتاني ، وبرنارد لويس، وفريد لندر المتأرجح علماً بأنَّنا لا نعتدُّ بهم في أحداث تاريخنا .
ومن استقرأ المصادر ، سواءٌ القديمة ، والمتأخِّرة ، عند السُّنَّة ، والشِّيعة ، يتأكَّد له بأنَّ وجود ابن سبأ كان وجوداً حقيقيّاً ، تؤكِّده الرِّوايات التَّاريخيَّة ، وتفيض فيه كتب العقائد ، وذكرته كتب الحديث ، والرِّجال ، والأنساب ، والأدب ، واللُّغة ، وسار على هذا النَّهج كثيرٌ من المحقِّقين والباحثين المُحدَثين ، ويبدو : أنَّ أول من شكَّك في وجود ابن سبأ بعض المستشرقين ، ثمَّ دعَّم هذا الطرح الغالبية من الشِّيعة المحدثين ، بل وأنكر بعضهم وجوده البتَّة ، وبرز من الباحثين العرب المعاصرين مَنْ أُعجِب باراء المستشرقين ، ومن تأثَّر بكتابات الشِّيعة المُحدثين ، ولكنَّ هؤلاء جميعاً ليس لهم ما يدعمون به شكَّهم ، وإنكارهم إلا الشَّكَّ ذاته ، والاستناد إلى مجرَّد الظُّنون ، والفرضيات، ومن أراد التوسُّع في معرفة المراجع والمصادر السُّنيَّة ، والاستشراقيَّة والشِّيعيَّة ، الّتي ذكرت ابن سبأ ، فليراجع : تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة للدُّكتور محمد أمحزون ، وعبد الله بن سبأ ، وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام ، للدكتور سليمان بن حمد العودة .
2ـ دور عبد الله بن سبأ في تحريك الفتنة :
في السَّنوات الأخيرة من خلافة عثمان رضي الله عنه بدت في الأفق سمات الاضطراب في المجتمع الإسلاميِّ نتيجة عوامل التَّغيير الّتي ذكرناها ، وأخذ بعض اليهود يتحيَّنون فرصة الظهور مستغلِّين عوامل الفتنة ، ومتظاهرين بالإسلام ، واستعمال التَّقيَّة ، ومن هؤلاء : عبد الله بن سبأ الملقَّب بابن السَّوداء ، وإذا كان ابن سبأ لا يجوز التَّهويل من شأنه كما فعل بعض المغالين في تضخيم دوره في الفتنة، فإنَّه كذلك لا يجوز التَّشكيك فيه ، أو الاستهانة بالدَّور الّذي لعبه في أحداث الفتنة ، كعاملٍ من عواملها ، على أنَّه أبرزها ، وأخطرها ؛ إذ إنَّ هناك أجواءً للفتنة مهَّدت له، وعوامل أخرى ساعدته ، وغاية ما جاء به ابن سبأ اراءٌ ، ومعتقداتٌ ادَّعاها ، واخترعها من قبل نفسه ، وافتعلها من يهوديَّته الحاقدة ، وجعل يروِّجها لغايةٍ ينشدها ، وغرضٍ يستهدفه ؛ وهو الدَّسُّ في المجتمع الإسلامي بغية النَّيل من وحدته ، وإذكاء نار الفتنة ، وغرس بذور الشِّقاق بين أفراده ، فكان ذلك من جملة العوامل الّتي أدَّت إلى قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وتفرُّق الأمَّة شيعاً، وأحزاباً، وخلاصة ما جاء به أن أتى بمقدِّماتٍ صادقةٍ ، وبنى عليها مبادىء فاسدةً راجت لدى السُّذَّج ، والغلاة ، وأصحاب الأهواء من النَّاس ، وقد سلك في ذلك مسالك ملتويةً لبَّس فيها على مَنْ حوله ، حتَّى اجتمعوا عليه ، فطرق باب القرآن بتأوُّله على زعمه الفاسد ، حيث قال : لَعَجبٌ ممَّن يزعم أنَّ عيسى يرجع ، ويكذِّب بأن محمَّداً يرجع ، وقد قال تعالى : {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85 ] فمحمَّد أحقُّ بالرُّجوع من عيسى، كما سلك طريق القياس الفاسد من ادِّعاء إثبات الوصيَّة لعليٍّ رضي الله عنه بقوله : إنَّه كان ألف نبيٍّ ، ولكلٍّ نبيٍّ وصيٌّ ، وكان عليٌّ وصيَّ محمَّدٍّ ، ثمَّ قال : محمَّد خاتم الأنبياء ، وعليٌّ خاتم الأوصياء .
وحينما استقرَّ الأمر في نفوس أتباعه انتقل إلى هدفه المرسوم، وهو خروج النَّاس على الخليفة عثمان رضي الله عنه فصادف ذلك هوىً في نفوس بعض القوم، حيث قال لهم: من أظلم ممَّن لم يُجِزْ وصيَّة رسول الله (ﷺ) ووثب على وصيِّ رسول الله (ﷺ) وتناول أمر الأمَّة ! ثمَّ قال لهم بعد ذلك : إنَّ عثمان أخذها بغير حقٍّ ، وهذا وصيُّ رسول الله (ﷺ) فانهضوا في هذا الأمر ، فحرِّكوه ، وابدؤوا بالطَّعن على أمرائكم ، وأظهروا الأمر بالمعروف ، والنَّهي عن المنكر ؛ تستميلوا النَّاس ، وادعوهم إلى هذا الأمر، وبثِّ دعاته .
وكاتب من كان استفسد في الأمصار ، وكاتبوه ، ودعوا في السرِّ إلى ما عليه رأيهم ، وأظهروا الأمر بالمعروف ، والنَّهي عن المنكر ، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتبٍ يضعونها في عيوب ولاتهم ، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك ، ويكتب أهل كلِّ مصرٍ منهم إلى مصرٍ اخر بما يصنعون ، فيقرأه أولئك في أمصارهم ، وهؤلاء في أمصارهم حتَّى تناولوا بذلك المدينة ، وأوسعوا الأرض إذاعةً ، وهم يريدون غير ما يظهرون ، ويسرُّون غير ما يبدون ، فيقول أهل مصر : إنَّا لفي عافية ممَّا ابتلي به هؤلاء ، إلا أهل المدينة فإنَّهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار ، فقالوا : إنَّا لفي عافية ممَّا فيه النَّاس.
ويظهر من هذا النَّصِّ الأسلوب الّذي تبعه ابن سبأ ، فهو أراد أن يوقع في أعين النَّاس بين اثنين من الصَّحابة ، حيث جعل أحدهما مهضوم الحقِّ ، هوعليٌّ ، وجعل الثَّاني مغتصباً ، وهو عثمان ، ثمَّ حاول بعد ذلك أن يحرِّك النَّاس ـ خاصَّة في الكوفة ـ على أمرائهم باسم الأمر بالمعروف ، والنَّهي عن المنكر ، فجعل هؤلاء يثورون لأصغر الحوادث على ولاتهم ، علماً بأنَّه ركَّز في حملته هذه على الأعراب الّذين وجد فيهم مادَّةً ملائمةً لتنفيذ خطَّته ، فالقرَّاء منهم استهواهم عن طريق الأمر بالمعروف ، والنَّهي عن المنكر ، وأصحاب المطامع منهم هيَّج أنفسهم بالإشاعات المغرضة المفتراة على عثمان ، مثل تحيُّزه لأقاربه ، وإغداق الأموال من بيت مال المسلمين عليهم ، وأنَّه حمى الحمى لنفسه ، إلى غير ذلك من التُّهم ، والمطاعن الّتي حرَّك بها نفوس الغوغاء ضدَّ عثمان رضي الله عنه ، ثمَّ إنَّه أخذ يحضُّ أتباعه على إرسال الكتب بأخبارٍ سيِّئةٍ مفجعةٍ عن مصرهم إلى بقيَّة الأمصار.
وهكذا يتخيَّل النَّاس في جميع الأمصار : أنَّ الحال بلغ من السُّوء ما لا مزيد عليه، والمستفيد من هذه الحال هم السَّبئيَّة ؛ لأنَّ تصديق ذلك من النَّاس يفيدهم في إشعال شرارة الفتنة داخل المجتمع الإسلاميِّ، هذا وقد شعر عثمان رضي الله عنه بأن شيئاً ما يحاك في الأمصار ، وأنَّ الأمَّة تمخض بشرٍّ ، فقال : والله إن رحى الفتنة لدائرةٌ ، فطوبى لعثمان إن مات ، ولم يحرِّكها!
على أنَّ المكان الّذي رتع فيه ابن سبأ هو في مصر ، وهناك أخذ ينظِّم حملته ضدَّ عثمان رضي الله عنه ، ويحثُّ النَّاس على التوجُّه إلى المدينة لإثارة الفتنة بدعوى : أنَّ عثمان أخذ الخلافة بغير حقٍّ ، ووثب على وصيِّ رسول الله ، يقصد عليًّا، وقد غشَّهم بكتبٍ ادَّعى أنَّها وردت من كبار الصَّحابة حتَّى إذا أتى هؤلاء الأعراب المدينة المنوَّرة واجتمعوا بالصَّحابة لم يجدوا منهم تشجيعاً ، حيث تبرَّؤوا ممَّا نسب إليهم من رسائل تؤلِّب النَّاس على عثمان، ووجدوا عثمان مقدِّراً للحقوق ، بل وناظرهم فيما نسبوا إليه ، وردَّ عليهم افتراءهم ، وفسَّر لهم صدق أعماله ، حتَّى قال أحد هؤلاء الأعراب وهو مالك الأشتر النَّخعي : لعلَّه مُكر به ، وبكم، ويعتبر الذَّهبي: أنَّ عبد الله بن سبأ المهيِّج للفتنة بمصر ، وباذر بذور الشِّقاق والنِّقمة على الولاة ثمَّ على الإمام ـ عثمان ـ فيها، ولم يكن ابن سبأ وحده، وإنَّما كان عمله ضمن شبكة من المتامرين ، وأخطبوطاً من أساليب الخداع ، والاحتيال ، والمكر ، وتجنيد الأعراب ، والقرَّاء ، وغيرهم ، ويروي ابن كثير : أنَّ من أسباب تألُّب الأحزاب على عثمان ظهور ابن سبأ، وذهابه إلى مصر ، وإذاعته بين النَّاس كلاماً اخترعه من عند نفسه ، فافتتن به بشرٌ كثيرٌ من أهل مصر.
إنَّ المشاهير من المؤرِّخين والعلماء من سلف الأمَّة وخلفها يتَّفقون على أنَّ ابن سبأ ظهر بين المسلمين بعقائد ، وأفكارٍ ، وخططٍ سبئيَّةٍ ليلفت المسلمين عن دينهم ، وطاعة إمامهم ، ويوقع بينهم الفرقة ، والخلاف ، فاجتمع إليه من غوغاء النَّاس ما تكوَّنت به الطَّائفة السَّبئيَّة المعروفة الّتي كانت عاملاً من عوامل الفتنة المنتهية بمقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفَّان رضي الله عنه والّذي يظهر من خطط السَّبئيَّة أنَّها كانت أكثر تنظيماً ؛ إذ كانت بارعةً في توجيه دعايتها ، ونشر أفكارها ؛ لامتلاكها ناصية الدِّعاية ، والتَّأثير بين الغوغاء والرُّعاع من النَّاس ، كما كانت نشيطةً في تكوين فروعٍ لها سواءٌ في البصرة ، أم الكوفة ، أم مصر ، مستغلةً العصبية القبليَّة ، ومتمكِّنةً من إثارة مكامن التَّذمُّر عند الأعراب ، والعبيد ، والموالي ، عارفةً بالمواضع الحسَّاسة في حياتهم ، وبما يريدون.
يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf