الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

أسباب فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه
الحلقة الثالثة والأربعون
بقلم الدكتور علي محمد محمد الصلابي
ربيع الآخر 1441ه/ديسمبر2019م

أولاً : أهمِّيَّة دراسة وقائع فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه ، وما ترتَّب عليها من أحداثٍ في الجمل ، وصفِّين ، وغيرهما :
ورد عن كثيرٍ من السَّلف والعلماء الأمر بالتوقُّف عن الخوض في تفاصيل ما وقع بين الصَّحابة ، وإيكال أمرهم إلى الله الحكم العدل ، مع الترضِّي عنهم ، واعتقاد : أنَّهم مجتهدون ، مأجورون إن شاء الله ، والحذر من الطَّعن فيهم ، والوقوع في أعراضهم ، لما يجرُّ ذلك من الطَّعن في الشَّريعة ؛ إذ هم حملتها ، وحاملوها إلينا ، ومن ذلك ما روي عن عمر بن عبد العزيز : أنَّه سئل عن أهل صفِّين ، فقال : تلك دماء طهَّر الله منها يدي ، فلا أحبُّ أن أخضِّب لساني فيها، وسئل أحدهم عن ذلك ، فقال : متمثِّلاً قوله تعالى : {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [البقرة : 134 ] .
وهذا النَّهي معلَّل ، علَّته الخوف ممَّا ذكرناه من الطَّعن فيهم ، والوقوع في أعراضهم ، وما يستوجب ذلك من غضب الله ، ومقته ، فإذا انتفت هذه العلَّة ، فالظَّاهر: أنَّه لا حرج من ذلك ؛ إذا كان الكلام والبحث في تفاصيل ما وقع بينهم لا يؤدِّي إلى الطَّعن فيهم مطلقاً ، فلا بأس من دراسة ذلك ، والتعمُّق في أسبابه ، ودوافعه، وتفصيلاته الدَّقيقة ، ونتائجه وتداعياته على مجتمع الصَّحابة ، ثمَّ على مَنْ بعدهم ، وقد كتب بعض العلماء عن الفتنة ، أمثال ابن كثيرٍ ، والطَّبريِّ ، وغيرهم أحداث تلك الفترة الحرجة من تاريخ الإسلام ، وفَصَّلوا ، وفَصَلُوا في قضايا كثيرةٍ تتعلَّق بتلك الفتنة ، ومنهم من ذهب إلى حدِّ تخطئة أحد الطَّرفين ، أو كليهما ، اعتماداً على رواياتٍ ، ونصوص كثيرة اختلط فيها الصَّحيح بغيره.
وهناك أسبابٌ تدعو علماء أهل السُّنَّة وطلاب العلم منهم للغوص في أعماق فتنة الهرج الّتي وقعت في صدر الإسلام ، والبحث عن تفاصيلها ، ومن هذه الأسباب :
1 ـ أنَّ المؤلفات المعاصرة الّتي تناولت أحداث الفتنة بين الصَّحابة ، والتَّابعين انقسمت إلى ثلاثة أنواعٍ :
أ ـ مصنفاتٌ تربَّى أصحابها على موائد الفكر الغربيِّ ، الحاقد على التَّاريخ الإسلاميِّ ، أو الجاهل بالتَّاريخ الإسلاميِّ ، فلم يروا فيه شيئاً جميلاً ، فراحوا يطعنون في الصَّحابة والتَّابعين بطريقةٍ تخدم أهداف أعداء الإسلام ، وخصومه ؛ الّذين قاموا لدراسة أحداث تلك الفتنة وتفاصيلها ، وإعطائها تفسيراتٍ تطعن في جموع الصَّحابة ، وتضرب الإسلام في أصوله ، وتجعل من هذه الأحداث صراعاً سياسيّاً ، على مناصب وكراس ، تخلَّى فيه الصَّحابة عن إيمانهم ، وتقواهم ، وصدقهم مع الله ، وانقلبوا إلى طلاب دنيا ، وعشَّاق زعامةٍ ، لا يهمُّهم أن تراق الدِّماء ، وتُزهق الأرواح، وتسلب الأموال ، وتستباح الحرمات إذا كان في ذلك ما يحقِّق لهم ما يريدون من الرِّياسة والزَّعامة .
وممَّن تولَّى كبر هذه الفرية ، طه حسين في ( الفتنة الكبرى ) الّذي هو بحقٍّ فتنةٌ كبرى على عقول النَّاشئة من أبناء المسلمين ، فقد راح طه حسين يشنِّع على الصَّحابة، ويشكِّك في نيَّاتهم ، ويتَّهمهم باتهاماتٍ مغرضة خدمة لأهداف أعداء الإسلام ، والمسلمين، وقد تأثَّر الكثير بمنهجه ، ويبدو أنَّ أمثال هؤلاء اعتمدوا على الرِّوايات التَّاريخيَّة ؛ الّتي أوردها المؤرِّخون كالطَّبري ، وابن عساكر ، وغيرهما ، والّتي اختلط فيها الغثُّ بالسَّمين ، والكذب بالصِّدق ، وأخذوها دون مراعاةٍ لمنهج هؤلاء في مصنَّفاتهم ، وهذا خطأٌ كبيرٌ ، وقد تأثَّرت هذه الكتابات بالفكر المنحرف ، والكتابات غير الصحيحة للتَّاريخ الإسلاميِّ، فقد تعمَّد الأعداءُ الإساءة في كتاباتهم للتَّاريخ الإسلاميِّ ، كما في روايات ، وأخبار الكلبيِّ، وأبي مخنف، ونصر بن مزاحم المنقريّ، والّتي توجد حتَّى عند الطبريِّ في تاريخه ، لكنَّ الطَّبريَّ يذكرها مسندةً لهؤلاء ، فيعرف أهل العلم حالها، وكما في كتابات المسعوديِّ في مروج الذَّهب ، واليعقوبيِّ في تاريخه .
وقد أشار الأستاذ محبُّ الدِّين الخطيب في حاشية ( العواصم ) إلى أنَّ التَّدوين التَّاريخيَّ إنَّما بدأ بعد الدَّولة الأمويَّة ، وكان للأصابع المعوجَّة ، والشُّعوبيَّة المتلفِّعة برداء الضلال دورٌ في طمس معالم الخير فيه ، وتسويد صفحاته النَّاصعة.
ويظهر هذا الكيد لمن تدبَّر كتاب العواصم من القواصم لابن العربيِّ مع الحاشية الممتازة الّتي وضعها العلامة محبُّ الدِّين الخطيب ، لقد سوَّد بعضُ الكُتَّاب آلاف الصَّفحات بسبِّ أفضل قرنٍ عرفته البشريَّة ، وصرفوا أوقاتهم ، وجهودهم لتشويه تاريخ المسلمين ، وكانت هذه المادَّة التاريخيَّة الكبيرة ، والّتي تجدها في كتب التَّاريخ، الّتي وضعها أولئك ، أو شاركوا في بعض أخبارها ، وتراها في كتب الحديث عندهم وهي كثيرة واسعة ، وفي ما كتبه شيوخهم في القديم من ضلالات ، وفي الحديث من تقوُّل ؛ هذه المادَّة السـوداء المظلمة الكريهة الشَّـائهة هي المرجع لما كتبه أعداء المسلمين من المستشرقين ، وغيرهم ، وجاء ذلك الجيل المهزوم روحيّاً ، والّذي يرى في الغرب قدوته ، وأمثولته من المستغربين فتلقَّف ما كتبته الأقلام الاستشراقيَّة ، وجعلها مصدره ، ومنهله ، وتبنَّى أفكارهم ، ونشر شبهاتهم في ديار المسلمين ، وكان لذلك أثره الخطير في أفكار المسلمين وثقافتهم ، وكان العدول عن الحق هو الأصل في هذا الشَّرِّ كلِّه ، وإنَّ دراسة أراء المستشرقين ، وصلتها بالانحراف لهي موضوعٌ مهمٌّ يستحقُّ الدِّراسة ، والتتبُّع . لقد بدأت استفادة العدوِّ الكافر من شبهات الأعداء ، وأكاذيبهم ، ومفترياتهم على الإسلام والمسلمين منذ عهد الإمام ابن حزم ( ت 456 هـ).
ب ـ مصنَّفات لبعض علماء هذه الأمَّة من المعاصرين ، وهي مفيدة إجمالاً ، ولكن طريقة عرضهم للأحداث ، وتفسيرهم لمواقف بعض الصَّحابة ، والتَّابعين فيها كثيرٌ من عدم الإنصاف ، مثل ما كتبه أبو الأعلى المودودي ـ رحمه الله ـ في كتابه : ( الخلافة والملك ) ، وما دوَّنه الشَّيخ محمد أبو زهرة ـ رحمه الله ـ في كتابيه: ( تاريخ الأمم الإسلاميَّة ) و( الإمام زيد بن عليٍّ ) فالكتابان مشحونان بكثيرٍ من التَّحامل على مقام بعض الصَّحابة ، والطَّعن على خلفاء بني أميَّة ، وتنقُّصهم ، وتجريدهم من أيَّة خصلةٍ حميدةٍ ، أو عملٍ صالحٍ، ويبدو : أنَّ أمثال هؤلاء العلماء لم يحقِّقوا في الرِّوايات التَّاريخيَّة ، فتورَّطوا في الرِّوايات الإماميَّة الشِّيعيَّة وبنوا عليها تحليلاتهم ، واستنتاجاتهم ، غفر الله لنا ، ولهم .
ج ـ مصنَّفاتٌ حاول أصحابها أن يسلكوا فيها منهج علماء الجرح والتَّعديل في نقد الرِّوايات التاريخيَّة ، وعرضها على أصول منهج المحدِّثين من حيث السَّند ، والمتن ، من أجل تمييز صحيحها من سقيمها ، وسليمها من عليلها .
وفي هذه المؤلفات محاولةٌ جيِّدةٌ ، وجهدٌ مشكورٌ للوقوف في وجه هذا الزَّيف ، وتفسير الأحداث التَّفسير الصَّحيح الّذي لا يتعارض مع فضل الصَّحابة ، وإيمانهم ، وجهادهم، ومن هذه المؤلَّفات الجيِّدة ، ما كتبه الدُّكتور يوسف العش ، في تاريخ الدَّولة الأمويَّة ، وما كتبه محبُّ الدِّين الخطيب ، تعليقاً على كتاب : العواصم من القواصم لأبي بكر بن العربي ، وما كتبه صادق عرجون في كتابه : عثمان بن عفَّان ، وما سطَّره الدُّكتور سليمان بن حمد العودة في كتابه : عبد الله بن سبأ ، وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام ، وما كتبه محمد أمحزون في كتابه : تحقيق مواقف الصَّحابة في الفتنة ، وما كتبه الدكتور أكرم العمري في كتابه : الخلافة الرَّاشدة، وما كتبه عثمان الخميس في كتابه : حقبةٌ من التَّاريخ ، وما كتبه الدُّكتور محمد حسن شرَّاب في كتابه : المدينة النَّبويَّة فجر الإسلام ، والعصر الرَّاشدي، وما قام به محبُّ الدين من تحقيقات نافعةٍ ، وتعليقاتٍ صائبةٍ على كتاب العواصم من القواصم ، والمنتقى ، وغيرها من الكتب والبحوث والرَّسائل ؛ الّتي سارت على نفس المنهج ، فقد ظهر من هذا البيان شدَّة الحاجة إلى وجود مؤلَّفات ، ومصنَّفات تردُّ على هذه المزاعم ، والأخطاء .
ولا يتمُّ الردُّ على هؤلاء المزيِّفين للتَّاريخ الإسلاميِّ ، ومقام الصَّحابة إلا بمحاولة دراسة تفاصيل تلك الأحداث، وغربلة الأخبار والرِّوايات الواردة بميزان الجرح، والتَّعديل، والتَّصحيح، والتَّضعيف، وقد جاء عن ابن تيميَّة قوله: لكن إذا ظهر مبتدعٌ، يقدح فيهم بالباطل، فلا بدَّ من الذَّبِّ عنهم، وذكر ما يُبطِل حجَّته بعلمٍ، وعدلٍ. وقد ذهب الإمام الذَّهبي ـ رحمه الله ـ في هذا مذهباً آخر، فهو يدعو إلى إحراق هذه الكتب الّتي فيها هذا الكذب، والتَّشويه لمقام الصَّحابة، قال رحمه الله: كما تقرَّر الكفُّ عن كثيرٍ ممَّا وقع بين الصَّحابة، وقتالهم ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ وما زال يمرُّ بنا ذلك في الدَّواوين ، والكتب ، والأجزاء ، ولكنَّ أكثر ذلك منقطعٌ ، وضعيفٌ ، وبعضه كذبٌ،وهذا فيما بأيدينا ، وبين علمائنا ، فينبغي طيُّه ، وإخفاؤه ، بل إعدامه لتصفو القلوب ، وتتوفَّر على حبِّ الصَّحابة ، والترضِّي عنهم.
وقد أفادنا الذَّهبيُّ في كلامه فائدةً كبيرةً ، وهو تصريحه بكون أكثر ما يُنقل من ذلك في الكتب والدَّواوين كذباً ، وزوراً ، وافتراءً على مقام الصَّحابة رضي الله عنهم إلا أن اقتراح الذَّهبيِّ بحرق تلك المؤلَّفات لم يعد ممكناً ، فقد انتشرت هذه الكتب ، وتولَّت طباعتها كثيرٌ من دور النَّشر ، وكثيرٌ من ذوي النِّيَّات السَّيِّئة ، فلم يبقَ إلا وضعها موضع الدِّراسة وبيان ما فيها من عوارٍ ، وخطأً ، وكذبٍ حفظاً لأجيال المسلمين من انحراف السُّلوك ، والعقيدة.
2 ـ تظهر أهمِّيَّـة دراسة فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه ، وما ترتَّب عليها من أحداثٍ لمعرفة أسباب الفتنة الحقيقيَّة ، سواءٌ كانت هذه الأسباب داخليةً ، أو خارجيَّةً، ومعرفة نصيب كلِّ سببٍ من هذه الأسباب فيما حدث ، وهل هناك أسبابٌ يمكن إدراجها في هذا السَّبيل ؟ إنَّ الّذي يقرأ طرفاً ممَّا كتب عن هذه الفتنة يحسُّ : أنَّ مؤامرةً كبرى ، جرى التَّخطيط لها، وتعاون ذوو الفكر المنحرف ، والمنافقون على تنفيذها ، فقضية تآمر الأعداء ترافق الأمَّة الإسلاميَّة في كلِّ مراحل تاريخها الطَّويل.
إلا أنَّ هذه المؤامرة ما كانت لتنجح لولا وجود عوامل ضعفٍ داخليَّةٍ ساهمت في التَّمكين لنجاح هذه المؤامرة ، ألا تضحي دراسة عهد الصَّحابة ـ والحالة هذه ـ واجباً من الواجبات في سبيل معرفة أسباب ضعف الأمَّة الإسلاميَّة ، وتحديد مكامن الدَّاء الّتي أوتيت منها ، والاستفادة من ذلك في إصلاح حاضر هذه الأمَّة ، وتجنيبها هذه المزالق في مستقبل حياتها ؟ أم كتب عليها أن تظلَّ ترزأ تحت ثقل أدوائها من الدَّاخل، وكيد أعدائها من الخارج؟ ! إنَّ ما وقع من أحداثٍ جسامٍ في فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه ، وما ترتَّب عليها من أحداثٍ تحتاج لدراسةٍ عميقةٍ ، ومتأنيَّةٍ، لكي نستخرج من تلك الحقبة التاريخيَّة دروساً وعبراً نستضيء بها في حاضرنا ولكي نسترشد بها في سعينا الجَّادِّ لإعادة الخلافة الرَّاشدة على منهاج النُّبوَّة حتَّى تسعد البشرية بدين الله ، وشرعه ، وتخرج من شقاوتها ، وتعاستها ، وضنكها بسبب بعدها عن شرع الله تعالى.
ثانياً : الحكمة من إخباره (ﷺ) بوقوعها :
لقد أخبر النَّبيّ (ﷺ) في كثيرٍ من أحاديثه بأنَّ هذه الأمَّة ستختلف ، وستتقاتل ، وتعدَّدت الأحاديث الّتي تشير إلى ذلك بإجمالٍ ، أو بتفصيلٍ ، وتنوَّعت أساليب الإخبار عن ذلك من ذكرٍ لأسباب الفتن ، أو لنتائجها ، أو لبعض أحداثها ، ووقائعها، أو لمن يثيرونها ، وغير ذلك ، وكان كثيرٌ من هذا البيان والتَّوضيح منه (ﷺ) جواباً لأسئلة الصَّحابة الكرام ؛ الّذين كانوا يطرحونها عليه ، وهم يشاهدون ويتذوَّقون النِّعمة العظيمة الّتي أفاءها الله عليهم ، وهي نعمة الأخوَّة ووحدة الصفِّ واجتماع الكلمة ، فراحوا يسألون فيما إذا كانت هذه النِّعمة ستدوم ، أم تزول ، ولمَّا كان رسول الله (ﷺ) يعلم بالوحي : أنَّها لن تدوم كما هي ؛ أحبَّ أن يربِّيهم على الاستعداد لهذه المحن ، والفتن ؛ حتَّى يحسنوا التصرُّف يوم يقدِّر الله لهذه الفتنة أن تقع ، فيسعوا إلى علاجها في وقتها ، ومن خلال النَّظر في جملة الأحاديث الواردة في ذكر الفتن نلمح الحكم التَّالية:
1 ـ أنَّ النَّبيّ (ﷺ) وهو يذكر هذه الفتن، والوقائع يريد أن يربِّي الأمَّة على الاستعداد لها ، حتَّى تحسن التَّصرف يوم تقع هذه الفتن ، فتَسْعَى إلى علاجها في وقتها.
2 ـ أنَّ في هذه الأحاديث إشاراتٍ إلى من يثيرونها ، وأنَّها أحياناً تكون من قومٍ ظاهري الإيمان ، والتَّشدُّد ، ولكن عقولهم منحرفةٌ ، وقلوبهم ملتويةٌ ، وهم في جملة حالهم غير مدركين ، ولا فاقهين.
3 ـ أنَّ هذه الفتنة تكشف المنافقين ، وتصقل قلوب المؤمنين ، فيزدادون إيماناً ،ويتحفَّزون للأمر بالمعروف ، والنَّهي عن المنكر ، وهو نوعٌ من الابتلاء ، تُصقل به النُّفوس ، وتتعود المجاهدة ، وتتعرَّف الخير ، فتأمر به ، والشَّرَّ ، فتنهى عنه.
4 ـ أنَّ الإخبار عن هذه الفتن يحمل في مضمونه تحذيراً شديداً من الوقوع فيها، أو ملابسة شيءٍ منها ، ذلك : أنَّ المؤمنين من هذه الأمَّة ـ من الصَّحابة وغيرهم ـ حين يسمعون خبر النَّبيّ (ﷺ) بأنَّ منهم من سيحدث منه القتل ، ومنهم من سيتعلَّق بالدُّنيا ، ومنهم من سيترك الجهاد ، ومنهم ، ومنهم . . . تتحرَّك في نفوسهم مشاعر المواجهة لهذه الفتن ، ويقول كلُّ واحدٍ منهم : لعلِّي أنجو ! ويصبح الموقف منها الخوف على الدَّوام أن يقع في تلك المهالك على غفلةٍ ، والخوف ـ في هذا الباب ـ من أعظم سبل النَّجاة.
قال ابن تيميَّة ـ رحمه الله ـ بعد أن أورد عدَّة أحاديث مرفوعةٍ في وقوع هذا الخلاف ، والاختلاف في هذه الأمَّة : وهذا المعنى محفوظٌ عن النَّبيّ (ﷺ) ، من غير وجهٍ ، يشير إلى أنَّ التَّفرقة ، والاختلاف لا بدَّ من وقوعها في الأمَّة ، وكان يحذِّر أمَّته، لينجو من شاء الله له السَّلامة.
5 ـ أنَّ الإخبار عن هذه الفتن أدقُّ في تحديد سبل النَّجاة منها، فإنَّ الإنسان مهما بالغْتَ في تحذيره من خطرٍ يهدِّده ـ دون أن تحدِّدَ له هذا الخطر ، أوتبيِّن له كيفيَّة الوقوع فيه ـ قد لا يتصوَّر الطَّريقة الّتي سيحدث بها ، ولا يستبين طبيعة المشكلة الّتي سيواجهها ، وقد يقع في المحذور دون أن يعرف أنَّه المقصود بالتَّحذير.
6 ـ أنَّ الإخبار عن تلك الفتن اقترن في بعض الأحاديث بذكر أسبابها ، أو بيان نتائجها ، أو موقف المسلم منها ، وهذا ينفع المسلم ـ أو الأمَّة كلَّها ـ في نبذ أسباب الفتن، أو الحكم على وقائع معينةٍ من خلال النَّظرِ في نتائجها ، أو اتِّخاذ الموقف السَّليم منها ابتداءً .
7 ـ ثمَّ إنَّ فيها دليلاً واضحاً على صدق رسالة محمَّد (ﷺ) ، ونبوَّته ، يزداد به إيمان الصَّحابة الّذين سمعوا الحديث ، ثمَّ رأوا تأويله في مواقفهم بعد مدَّةٍ ، ويزداد به إيمان المؤمن ـ كلُّ مؤمنٍ ـ في كلِّ عصرٍ ، ومصرٍ ، وهو يعيش وقائع الفتن ، والاختلافات الّتي أخبر النَّبيّ (ﷺ) بوقوعها.
وقد جمع الدَّكتور عبد العزيز صغير دخان أحاديث الفتنة ، وقام بدراستها ، وبيان صحيحها من ضعيفها في كتابه : أحداث ، وأحاديث فتنة الهرج ، ثمَّ استخرج من الأحاديث الصَّحيحة معاني دلَّت عليها تلك الأحاديث ، منها :
1 ـ أنَّ الفتنة سنَّة الله ـ عزَّ وجلَّ ـ في الأمم ، وفي هذه الأمَّة إلى قيام السَّاعة ، وهي فتنٌ كقطع اللَّيل المظلم ، عمياء ، صمَّاء ، بكماء ، من سعى فيها ؛ هلك في الدُّنيا، والاخرة ، ومن كفَّ يده ؛ أفلح ، لا يكاد يبصر فيها أحدٌ موقفه إلا من أحياه الله بالعلم ؛ وزوَّده بالتَّقوى ، وهداه إلى ما اختُلف فيه من الحقِّ بإذنه.
2 ـ وفي هذه الأحاديث : أنَّ فتنة القتال بين المسلمين أمرٌ واقعٌ لا محالة ، ولا سبيل لإنكاره واستغرابه بدءاً بما وقع بين الصَّحابة ، والتَّابعين ، ومروراً بالعصور الإسلاميَّة إلى اليوم ، ولكنَّ الواجب هو معرفة أسباب هذا القتال لتلافيها ، أو السَّعي في إطفاء نار الفتنة حينما تشبُّ في ديار المسلمين ، وألا ينبغي أن يقف المسلم منها موقف المتفرِّج .
3 ـ ومن رحمة الله بهذه الأمَّة أن يكفِّر عنها ذنوبها في الدُّنيا ، وليس القتل ، والفتن الّتي تنزل ساحتها ، والزَّلازل الّتي تصيبها إلا كفارةً لهذه الذُّنوب .
4 ـ وفي بعض هذه الأحاديث إشارةٌ واضحةٌ ، وصريحةٌ إلى أنَّ منبت معظم هذه الفتن من قبل المشرق ، وكذلك كان الواقع ، فإنَّ الفتنة الأولى بدأ تحريكها في الكوفة ، والبصرة ، وفتنة الجمل كانت هناك .
5 ـ وفي الفتنة يبيع قومٌ دينهم بعرضٍ من الدُّنيا يسير ، وتتحكَّم فيهم الشَّهوات ، والشُّبهات ، ويصير أهل الإسلام الصَّحيح غرباء في سلوكهم ، وتصرُّفاتهم ، ويصبح المتمسِّك بدينه أشبه ما يكون بالّذي يقبض على الجمر ، أو على الشَّوك ، صابراً محتسباً ما يصيبه من الألم ، والأذى في سبيل دينه ، وما يعتقد : أنَّه حقٌّ .
6 ـ وفي الفتنة ، يحفظ الله طائفةً من النَّاس ، فلا تلتبس بالفتنة ، ولا تتلطَّخ أيديهم من دماء المسلمين ، يسعون في إصلاح ذات البين ، والدَّعوة إلى مبادىء الإسلام الصَّحيحة من رحمةٍ ، وأخوَّةٍ ، وسيكون موقفهم غريباً بدون شكٍّ وسط الجموع الهائجة ، والأهواء المستحكمة.
7ـ وفي الفتنة يلعب اللِّسان دوراً أخطر من السَّيف ، بل إنَّ اللِّسان يكون غالباً منشأ الفتن والبلايا ، فربَّ كلمة شرٍّ مسمومةٍ انطلقت ، فأشعلت النَّار في القلوب .
8ـ وفي الفتنة ينقص العلم ، إمَّا بموت العلماء ، أو بسكوتهم ، واعتزالهم إيثاراً للسَّلامة ، أو لانصراف النَّاس عنهم لسببٍ من الأسباب ، ويسود عندها الجهل ، ويتَّخذ النَّاس رؤساء جهَّالاً ، فيفتوا بغير علمٍ ، فيُضِلُّوا ويَضِلُّوا ، ويسود الرُّويبضة، وهو التافه من النَّاس ، ويستعلي السُّفهاء منهم.
9 ـ وفي هذه الأحاديث : أنَّ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ ضمن لرسوله (ﷺ) ألا يهلك هذه الأمَّة بالسِّنين ، والمجاعات ، وألا يسلِّط عليها عدوّاً ، فيتمكَّن منها دائماً ، مهما كانت قوَّة هذا العدو ، وإمكانيَّاته ، وجبروته ، ولكن الأمر الّذي لم يضمنه الله لرسوله (ﷺ) هو ألا تختلف هذه الأمَّة ، وسيكون هذا هو الباب الّذي يدخل منه العدوُّ الخارجيُّ ؛ إذ إنَّ الأمَّة إذا اختلفت فيما بينها ، وقتل بعضها بعضاً ؛ ضعفت عوامل القوَّة فيها ، وتمكَّن منها عدوُّها ، فعبث بخيراتها ، ومقدَّراتها ، ولن يرفع عنها حتَّى تعود إلى تحقيق القوَّة في نفسها بالوحدة ، وجمع الكلمة ، والاحتكام إلى شرع الله.
10 ـ وفي الأحاديث : أنَّ وقوع الفتنة ، واستمرارها مظنَّةُ ظهور فرق المنحرفين عن هدي الإسلام ، وتمكُّن أهل الباطل ، وظهورهم .
11 ـ وفي الفتنة تتغيَّر أخلاق النَّاس ، وتتبدَّل ، ويزهد النَّاس في العمل الصَّالح، ومشاريع الخير ، ويُلقى بين النَّاس العداوة ، والبغضاء ، والحقد ، ويختلط الأمر على النَّاس .
12 ـ وفي الأحاديث : أنَّ هذه الفتن يسبقها أمنٌ ، واستقرارٌ ، وصلاح أحوال النَّاس المادِّيَّة ، والأمنيَّة ، حتَّى يسير الرَّاكب بين العراق ، ومكَّة لا يخاف إلا ضلال الطَّريق ، ويظهر هذا في عهد عثمان رضي الله عنه ، فقد كان عهد أمنٍ واستقرارٍ ، وتدفُّق الأموال ، والخيرات ، ثمَّ حدثت فتنة الهرج ، فَقُوِّض ذلك كلُّه ، حتَّى تبدَّل الحال من الأمن إلى الخوف .
13 ـ وفي الفتنة يقتل خيار النَّاس وذوو العقـول ، والرَّأي فيهم ، ويبقى رجرجةٌ من النَّاس لا تعرف معروفاً ، ولا تنكر منكراً. هذه بعض المعاني من أحاديث الفتن .

يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022