الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

حقيقة ولاة عثمان رضي الله عنه ٤

الحلقة الواحدة والأربعون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ربيع الآخر 1441ه/ديسمبر2019م

سادساً : مروان بن الحكم ، ووالده :
كان مروان بن الحكم من أخصِّ أقرباء عثمان به ، وأوثقهم صلةً بمركز الخلافة ، وألصقهم بالأحداث الّتي عصفت بالوحدة الإسلاميَّة في عهد عثمان ، رضي الله عنه ، فكان منه بمنزلة كاتم سرِّ الدَّولة ، أو حامل ختم الملك، ولم يكن مروان بالتأكيد المستشار الأوحد للخليفة الّذي كان يستشير كبار الصَّحابة ، وصغارهم ، ولم يكن بمعزلٍ عن قادة الرَّأي في مجتمع الإسلام ، وكذلك لم يكن مروان الوزير الّذي تجمَّعت تحت يده سلطات الدَّولة ، إنَّما كان كاتباً للخليفة ، وهي وظيفةٌ تستمدُّ أهمِّيتها من قرب صاحبها من أذن الخليفة ، وخاتمه ، أمَّا ادِّعاء توريطه عثمان ، وإثارة النَّاس عليه لتنقل الخلافة بعد ذلك إلى بني أميَّة ، فافتراضٌ لا دليل عليه ، ولم تنتقل الخلافة إلى بني أميَّة إلا بعد أهوالٍ جسام لم يكن لمروان فيها دورٌ خطيرٌ ، ثمَّ إنَّ عثمان لم يكن ضعيف الشَّخصيَّة حتى يتمكَّن منه كاتبه إلى الحدِّ الّذي يتصوَّره الرُّواة، ولا ذنب لمروان بن الحكم إن كان في حياة الرسول (ﷺ) لم يبلغ الحلم باتِّفاق أهل العلم ، بل غايته أن يكون له عشر سنين ، أو قريبٌ منها ، وكان مسلماً ، يقرأ القرآن ويتفقَّه في الدِّين ، ولم يكن قبل الفتنة معروفاً بشيءٍ يعاب فيه ، فلا ذنب لعثمان في استكتابه ، وأمَّا الفتنة ، فأصابت من هو أفضل من مروان، بل إنَّ خبر طرد النَّبيّ (ﷺ) لأبيه ضعيفٌ سنداً ومتناً ، وتعقَّبه شيخ الإسلام ابن تيميَّة ، فأوضح تهافته ، وضعفه، وعرف عن مروان بن الحكم العلم ، والفقه ، والعدل ، فقد كان سيِّداً من سادات شباب قريش لمَّا علا نجمه أيَّام عثمان بن عفَّان ، وقد شهد له الإمام مالك بالفقه ، واحتجَّ بقضائه ، وفتاواه في مواطن عديدةٍ من كتاب الموطَّأ ، كما وردت في غيره من كتب السُّنَّة المتداولة في أيدي الأئمَّة المسلمين يعملون بها، وكان الإمام أحمد يقول : يقال: كان عند مروان قضاء ، وكان يتتبَّع قضايا عمر بن الخطَّاب، وكان مروان من أقرأ النَّاس للقرآن ، كما كان له روايةٌ للحديث الشَّريف ، حيث روى عن بعض مشاهير الصَّحابة ، وروى عنه بعضهم ، كما روى عنه بعض التَّابعين، وكان حريصاً على تحرِّي السُّنَّة ، والعمل بها .
روى اللَّيث بن سعد ـ فقيه مصر ـ بسنده ، قال : شهد مروان جنازةً ، فلمَّا صلَّى عليها ؛ انصرف ، فقال أبو هريرة رضي الله عنه : أصاب قيراطاً ، وحُرِم قيراطاً ( أي : الأجر ، والثَّواب ، كما ورد في حديثٍ شريفٍ ) فأخبر بذلك مروان ، فأقبل يجري ؛ حتَّى بدت ركبتاه ، فقعد حتَّى أُذن له.
وجاء في مقدِّمة ( فتح الباري ) : مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أميَّة ابن عمِّ عثمان بن عفَّان ، يقال : له رؤية ـ يعني رؤية الرَّسول (ﷺ) ـ فإن ثبتت ، فلا يعرج على من تكلَّم فيه.
وكان يقول ابن كثيرٍ : وهو صحابيٌّ عند طائفةٍ كثيرةٍ ؛ لأنَّه ولد في حياة النَّبيّ (ﷺ) ، وقد ولي مروان المدينة لمعاوية بن أبي سفيان ، فكان شديداً على أهل الفسوق بها ، حرباً على مظاهر التَّرف ، والتَّخنُّث، عادلاً مع رعيته ، حذراً من مجاملة ذوي قرباه ، أو من يحاول منهم استغلال نفوذه ، فقد لطم أخوه عبد الرَّحمن بن الحكم مولىً لأهل المدينة يعمل حنّاطاً ـ أثناء فترة ولاية مروان على المدينة ـ فشكا الحنَّاط إلى مروان ، فأتى بأخيه عبد الرَّحمن ، وأجلسه بين يدي الحنَّاط ، وقال له : الطمه ، فقال الحناط : والله ما أردت هذا ! وإنَّما أردت أن أعلمه ؛ أنَّ فوقه سلطاناً ينصرني عليه ، وقد وهبتها لك . فقال : لست أقبلها منك ، فخذ حقَّك ، فقال : والله لا ألطمه ، ولكن أهبها لك ! ولست والله لاطمه ! فقال مروان : لست والله قابلها ! فإن وهبتها ؛ فهبها لمن لطمك ، أو لله عزَّ وعلا ، قال : قد وهبتها لله تعالى . فقال عبد الرَّحمن شعراً يهجو أخاه مروان لذلك.
إنَّ هذه الصُّورة المشرقة عن علم مروان ، وعدله ، وفقهه ، وتديُّنه تكاد تختلف تماماً عن تلك الصُّورة الكريهة الّتي يقدِّمها عنه معظم المؤرِّخين والرُّواة ، الّذين اجتهدوا لتشويه حياة الرَّجل ، فلمَّا حانت وفاته ، اجتهدوا أيضاً لتشويهها ، فزعموا أنَّ امرأته ـ أمَّ خالد بن يزيد بن معاوية ـ خنقته بوسادتها ، أو دسَّت له السمَّ ، لمَّا سبَّ ابنها ـ بزعمهم ـ أمامَ جماعةٍ من النَّاس ، وهذه القصَّة مع ما تحتويه من عناصر متناقضةٍ تبدو لأوَّل وهلة وكأنَّها أسطورةٌ اخترعتها مخيِّلات عجائز القوم، ثمَّ ردَّدتها الألسن ، إمَّا حبّاً في الثَّرثرة ، أو لتنال من سمعة هذه الأسرة الرَّفيعة المكانة ؛ حسداً لما وصلت إليه من مجدٍ، فهل كان موته طبيعيّاً ، أم مات بإصابة الطَّاعون ، أم خنقته زوجته ؟ إنَّ تناقض الرِّوايات دليلٌ على أنَّ الحقيقة غير معروفةٍ ، والرِّوايات الّتي تزعم : أنَّ زوجته هي الّتي اغتالته مباشرةً ، أو بالواسطة ( عن طريق بعض جواريها ) غير مقبولةٍ ، أو معقولة ، فهذه الزَّوجة سيِّدةٌ شريفةٌ من بيت عبد شمس ، وزوجها قريبها ، وهو خليفةٌ ، وهي كانت زوجة خليفةٍ ، وأمُّ خليفةٍ ( وهو معاوية بن يزيد بن معاوية ) وهو عملٌ لا تُقْدِم النِّساء الشَّريفات عليه، ثمَّ إنَّنا لم نَرَ أيَّ أثرٍ لهذا الاغتيال ، فلم يحدث في الأسرة أيُّ خلاف ، ولا مطالبة بالثَّأر ، وظلَّ خالدٌ على مكانته عند عبد الملك ، كما أنَّ الدَّافع لا يكفي بحالٍ لارتكاب جريمة القتل، وذكر عن بعض أهل العلم : أنَّه قال : كان آخر كلامٍ تكلَّم به مروان : وجبت الجنة لمن خاف النَّار ، وكان نقش خاتمه : العزَّة لله ، وقيل : آمنت بالعزيز الرَّحيم، وقال ابن القيِّم : أحاديث ذمِّ الوليد ، وذمِّ مروان بن الحكم كذبٌ.

سابعاً : هل جامل عثمان أحداً من أقاربه على حساب المسلمين ؟
لو كان عثمان رضي الله عنه أراد أن يجامل أحداً من أقاربه على حساب المسلمين، لكان ربيبه محمَّد بن أبي حذيفة أولى النَّاس بهذه المجاملة ، ولكنَّ الخليفة أبى أن يولِّيه شيئاً ليس كفؤاً له بقوله: يا بنيَّ ! لو كنت رضاً ثمَّ سألتني العمل؛ لاستعملتك ، ولكن لست هناك. ولم يكن ذلك كراهيةً له ، ولا نفوراً منه ، وإلا لما جهَّزه من عنده ، وحمله ، وأعطاه حين استأذن في الخروج إلى مصر.
وأمَّا استعمال الأحداث فكان لعثمان رضي الله عنه في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ ، فقد جهَّز جيشاً لغزو الرُّوم في آخر حياته واستعمل عليه أسامة بن زيد ، رضي الله عنهما .
وعندما توفِّي الرَّسول (ﷺ) تمسَّك الصِّدِّيق رضي الله عنه بإنفاذ هذا الجيش ، لكنَّ بعض الصحابة رغبوا في تغيير أسامة بقائدٍ أحسن منه ، فكلَّموا عمر في ذلك ليكلِّم أبا بكر ، فغضب أبو بكر لمَّا سمع هذه المقالة ، وقال لعمر : يا عمر ! استعمله رسول الله (ﷺ) ، وتأمرني أن أعزله. ويجيب عثمان بنفسه على هذه المآخذ أمام الملأ من الصَّحابة بقوله : ولم أستعمل إلا مجتمعاً ، محتلماً ، مرضيّاً ، وهؤلاء أهل عملهم ، فسلوهم عنهم ، وهؤلاء أهل بلدهم وقد ولَّى من قبلي أحدث منهم ، وقيل لرسول الله (ﷺ) ممَّا قيل لي في استعماله لأسامة ، أكذلك ؟ قالوا : نعم يعيبون للنَّاس ما لا يفسرون. ويقول عليُّ رضي الله عنه : ولم يولِّ ـ أي : عثمان ـ إلا رجلاً سويّاً، عدلاً ، وقد ولَّى رسول الله (ﷺ) عتَّاب بن أسيد على مكَّة وهو ابن عشرين سنة.
لم يكن ولاة الأمصار في عهد عثمان رضي الله عنه جاهلين بأمور الشَّرع ، ولم يكونوا من المفرِّطين في الدِّين ، وإذا كانت لهم ذنوبٌ ، فلهم حسناتٌ كثيرةٌ ، ومع ذلك فإن سيئات وذنوب هؤلاء تعود عليهم ، ولم يكن لها تأثيرٌ في المجتمع المسلم ، وقد تتبعنا آثار هؤلاء الولاة أيَّام ولايتهم ، ووجدناها عظيمة الفائدة للإسلام والمسلمين ، وقد اهتدى على يدي ولاة عثمان مئات الألوف إلى الإسلام ، وبسبب فتوحاتهم انضمَّ إلى ديار الإسلام أقاليمُ واسعةٌ ، ولو لم يكن عند هؤلاء من الشَّجاعة، والدِّين ما يحثُّهم على الجهاد ، ما قادوا الجيوش إلى الجهاد ، وفيه مظنَّة الهلاك ، وفيه ترك الرَّاحة ، ومتاع الدُّنيا ، وقد تتبَّعنا سيرة هؤلاء الولاة ، فوجدنا لكلِّ واحدٍ منهم فتحاً ، أو فتوحاً في الجهات الّتي تجاور ولايته ، مع مناقب ، وصفاتٍ حسنةٍ تؤهِّله للقيادة.
إن الّذي يرجع إلى الصَّحيح الممحَّص من وقائع التَّاريخ ، ويتتبَّع سيرة الرِّجال الّذين استعان بهم أمير المؤمنين ذو النُّورين ـ رضوان الله عليهم ـ وما كان لجهادهم من جميل الأثر في تاريخ الدَّعوة الإسلاميَّة ، بل ما كان لحسن إدارتهم من عظيم النتائج في هناء الأمَّة ، وسعادتها ، فإنَّه لا يستطيع أن يمنع نفسه من الجهر بالإعجاب، والفخر كلَّما أمعن في دراسة ذلك الدَّور من أدوار التَّاريخ الإسلاميِّ.
إنَّ عثمان وولاته انشغلوا بمدافعة الأعداء ، وجهادهم ، وردِّهم ، ولم يمنعهم ذلك من توسيع رقعة الدَّولة الإسلاميَّة ، ومدِّ نفوذها في مناطق جديدةٍ ، وقد كان للولاة تأثيرٌ مباشرٌ في أحداث الفتنة حيث كانت التُّهمة موجَّهةً إليهم ، وأنَّهم اعتدوا على النَّاس، ولكنَّنا لم نلمس حوادث معيَّنةً يتَّضح فيها هذا الاعتداء المزعوم، والمشاع، كما اتُّهم عثمان بتولية أقاربه ، وقد دحضنا تلك الفرية ، وهكذا نرى : أنَّ عثمان لم يألُ جهداً في نصح الأمَّة ، وفي تولية من يراه أهلاً للولاية ، ومع هذا فلم يسلم عثمان ، وولاته من اتِّهامات وجِّهت إليهم من قبل أصحاب الفتنة في حينها .
كما أنَّ عثمان رضي الله عنه لم يسلم من كثيرٍ من الباحثين في كتاباتهم غير المنصفة ، وغير المحقَّقة عن عهد عثمان وخصوصاً الباحثين المُحدَثين الّذين يطلقون أحكاماً لا تعتمد على التَّحقيق ، أو على وقائع محدَّدةٍ ، يعتمدون فيها على مصادر موثوقةٍ ، فقد تورَّط الكثير منهم في الرِّوايات الضَّعيفة ، والإماميَّة ، وبنوا أحكاماً باطلةً وجائرةً في حقِّ الخليفة الرَّاشد عثمان بن عفَّان ، مثل طه حسين في كتابه : الفتنة الكبرى ، وراضي عبد الرَّحيم في كتابه : النِّظام الإداريِّ ، والحربيِّ ، وصبحي الصَّالح في كتابه : النُّظم الإسلاميَّة ، ومولوي حسين في كتابه : الإدارة العربيَّة ، وصبحي محمصاني في كتابه : تراث الخلفاء الرَّاشدين في الفقه ، والقضاء ، وتوفيق اليوزبكي في كتابه : دراسات في النُّظم العربيَّة والإسلاميَّة ، ومحمد الملحم في كتابه : تاريخ البحرين في القرن الأول الهجري ، وبدوي عبد اللطيف في كتابه : الأحزاب السِّياسية في فجر الإسلام ، وأنور الرِّفاعي في كتابه : النظم الإسلاميَّة ، ومحمد الرَّيِّس في كتابه : النَّظريات السياسيَّة ، وعلي حسني الخربوطلي في كتابه : الإسلام والخلافة ، وأبي الأعلى المودودي في كتابه : الملك والخلافة ، وسيد قطب في كتابه : العدالة الاجتماعية ، وغيرهم .
لقد كان عثمان رضي الله عنه بحقٍّ الخليفة المظلوم الّذي افترى عليه خصومه الأوَّلون ، ولم ينصفه المتأخِّرون.

يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022