حقيقة ولاة عثمان رضي الله عنه ٢
الحلقة التاسعة والثلاثون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1441ه/ديسمبر2019م
ثانياً : عبد الله بن عامر بن كريز :
هو عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصيٍّ القرشيُّ العبشميُّ.
ولد في عهد رسول الله (ﷺ) وذلك في السَّنة الرَّابعة للهجرة، وعندما اعتمر الرَّسول الكريم رضي الله عنه في السَّنة السَّابعة للهجرة عُمرة القضاء ، ودخل مكة ؛ حُمِلَ إليه عبد الله بن عامر ، قال ابن حجر :... فتلمَّظ ، وتثاءب ، فتفل رسول الله في فيه ، وقال : « هذا ابن السُّلميَّة ؟ » : قالوا : نعم ، فقال : « هذا أشبهنا » ، وجعل يتفل في فيه ، ويعوِّذه فجعل يبتلع ريق النَّبيّ (ﷺ) ، فقال : « إنَّه لمسقيٌّ » ، فكان لا يعالج أرضاً إلا ظهر له الماء.
لم يتولَّ عبد الله بن عامر منصباً إداريّاً ، أو عسكريّاً إلى أن أصبح والياً على البصرة سنة 29 هـ/649م ، وهو ابن خال الخليفة عثمان بن عفَّان رضي الله عنه ؛ لأنَّ أمَّ عثمان هي أروى بنت كريز بن ربيعة ، وكانت أم عبد الله بن عامر من بني سُليم.
ولمَّا عيِّن لولايـة البصرة ؛ كان عمره أربعاً ، أو خمساً وعشرين، وظلَّ والياً على البصرة حتَّى مقتل الخليفة عثمان رضي الله عنه عندما تجهَّز بجيش كبير، وحمل ما عنده من الأموال ، فسار إلى مكَّة حيث وافى الزُّبير ، ورجع منها إلى البصرة ، فشهد موقعة الجمل ، ولم يحضر موقعة صفِّين ، على الرَّغم من أنَّ القلقشندي ذكر : أنَّه كان في التَّحكيم مع معاوية بصفِّين، وفي خلافة معاوية تولَّى إمارة البصرة لمدَّة ثلاث سنوات ، ثمَّ عزله عنها ، فأقام بالمدينة ، ومات بها سنة سبع وخمسين للهجرة، وفي رواية ابن قتيبة : أنَّه توفى بمكَّة ، ودفن بعرفات عام تسعٍ وخمسين. وأشاد ابن سعد به قائلاً : كان عبد الله شريفاً ، سخيّاً ، كريماً، كثير المال، والولد ، محبّاً للعمران، وقال عنه ابن حجر : كان جواداً ، كريماً ، ميموناً ... جريئاً ، شجاعاً، وكان يعتبر من أجود أهل البصرة. ومن أجود أهل الإسلام.
وكان لعبـد الله بن عامرٍ أثرٌ حميدٌ في الفتوحات، فقد تمكَّن من القضاء على أمال الفرس بشكلٍ تامٍّ عندما قضى على آخر رمقٍ من الأمل الفارسيِّ القديم، وذلك بقضائه على آخر ملوكهم يزدجرد ابن شهريار بن كسرى، وخرزاد مهر أخي رستم اللَّذين تزعَّما المعارضة الفارسيَّة ضد المسلمين.
وإضافة إلى براعة عبد الله بن عامر في الشؤون الإداريَّة ، والعسكريَّة ، فإنَّه كان مهتمّاً بالمعارف الإسلاميَّة ، ويروى : أنَّه روى حديثاً عن النَّبيّ (ﷺ) ، وقال ابن قتيبة : لم يرو عن رسول الله إلا حديثاً واحداً، غير أنَّه لم يكن له روايةٌ في الكتب السِّتَّة، أمَّا الحديث النَّبويِّ ، الّذي رواه ، فقد أورد ابن قانع ، وابن منده عن طريق مصعب الزُّبيري : حدَّثني أبي عن جدِّي مصعب بن ثابت ، عن حنظلة بن قيس ، عن عبد الله بن الزُّبير ، وعبد الله بن عامرٍ : أن رسول الله (ﷺ) قال : « من قُتل دون ماله فهو شهيدٌ ».
إصلاحاته الاقتصاديَّة في البصرة :
يقترن باسم عبد الله بن عامر عددٌ من الإصلاحات في البصرة ، لا تقلُّ أهمِّيَّةً عن إنجازاته العسكريَّة الفذَّة المتمثِّلة في انتصاراته العديدة على المجوس ، وتتبُّعه لفلولهم المنهزمة ، وقضائه على أمال يزدجرد ، فقد كانت إصلاحاته الاقتصاديَّة ممثَّلةً في عنايته بسوق البصرة ، فقد اشترى هذا السُّوق من ماله، ووهبه لأهلها، وكان السُّوق يتوسَّط البصرة ، بدليل ما ذكره خليفة بن خيَّاط من أنَّ السُّوق قائمٌ على ضفاف النَّهر الّذي يتوسط البصرة، وهذا اختيارٌ جيِّدٌ؛ لأنَّه يجعل السُّوق مركزاً مهمّاً في وسط المدينة ، ولعلَّ من أبرز أعماله الإصلاحيَّة في البصرة في ميدان الرَّي ، وقد اهتمَّ ابن عامرٍ بهذه المسألة اهتماماً كبيراً ، وذكر ابن قتيبة : أنَّ ابن عامرٍ احتفر بالبصرة نهرين أحدهما في الشَّرق ، والأخر يعرف بأمِّ عبد الله ، وهو منسوب إلى أمِّ عبد الله بن عامرٍ، وأمر عبد الله بن عامرٍ زياد بن أبي سفيان بحفر الأبلَّة ، وكان زياد والياً على الدِّيوان ، وبيت المال من قِبَل عبد الله بن عامر ، وكان يستخلفه في مكانه عند توجُّهه للفتوح، وذكر خليفة بن خيَّاط : أنَّ زياداً احتفر نهر الأبلَّة حتَّى انتهى إلى موضع الجبل ، والّذي تولَّى حفره لزياد عبد الرَّحمن بن أبي بكرة، فلمَّا فتح عبد الرَّحمن الماء جعل يركض فرسه ، والماء يكاد يسبقه .
وحفر عبد الله بن عامر حوضاً نسب إلى أمِّه ، وهو حوض أمِّ عبد الله بن عامر بالبصرة منسوبٌ إليها، وذكر البلاذريُّ : أنَّ عبد الله بن عامرٍ حفر نهراً ، تولَّى أمر حفره له نافذ مولاه ، فغلب عليه ، فقيل نهر نافذ، وهناك نهر مُرَّة لابن عامر تولَّى حفره له مرَّة مولى أبي بكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه ، فغلب على ذكره، وهناك نهر الأساورة الّذي حفره لهم عبد الله بن عامرٍ.
ويذكر البلاذري قنطرة قرَّة بالبصرة ، فيقول : قنطرة قرَّة نسبة إلى قرَّة بن حيان الباهليِّ ، وكان عندها نهرٌ قديمٌ ثمَّ اشترته أمُّ عبد الله بن عامرٍ ، فتصدَّقت به مغيثاً لأهل البصرة.
ممَّا تقدَّم ، يتبيَّن لنا : أن عبد الله بن عامرٍ كان مهتمّاً بحفر الأنهار من أجل ازدهار الزِّراعة ؛ الّتي هي عماد الحياة الاقتصاديَّة ، إضافةً إلى موقع البصرة الاستراتيجي بالنِّسبة إلى طرق التِّجارة ، وأهمِّيتها العسكرية كقاعدةٍ للفتوحات الإسلاميَّة في المشرق ، ويمكن أن نلاحظ مدى رغبة عبد الله بن عمر في الإصلاح من خلال قوله : لو تُركت ؛ لخرجت المرأة في حاجتها على دابَّتها ، ترد كلَّ يوم على ماءٍ ، وسوقٍ ، حتَّى توافي مكَّة.
وفي الحقيقة : أنَّ إصلاحاته هذه لا تقلُّ أهمِّيَّة عن الفتوحات في المشرق الّتي قام بها ، فقد كانت البصرة هي القاعدة العسكريَّة للخلافة في فتوحاتها ببلاد المشرق، وأشار الدكتور صالح العلي إلى : أنَّ الفتوح الواسعة أدَّت إلى ازدياد دخل البصرة وانتشار الرَّخاء الاقتصاديِّ فيها ، ممَّا شجع التُّجار ، ورجال الأعمال على التَّقاطر إليها ، وبذلك بدأت الحياة المدنيَّة تنمو سريعاً في البصرة، لقد كانت الحالة الماليَّة لإمارة البصرة جيدةً جدّاً ، نتيجةً للفتوح الواسعة في المشرق ، والنَّشاط الاقتصاديِّ التِّجاريِّ للبصرة ، واستقرار الأمن فيها ، وكان عبد الله بن عامرٍ رجلاً متواضعاً ، فاتحاً بابه لجميع النَّاس حتَّى إنَّه عاقب الحاجب ، وأمره ألا يغلق بابه ليلاً ، ولا نهاراً، وفي الحقيقة أصبح ابن عامر ذا شهرةٍ واسعةٍ بالبصرة ، قال ابن سعد : كان النَّاس يقولون : قال ابن عامر ، وفعل ابن عامر، ونتيجة لأعماله الإصلاحيَّة ، وسيرته الحميدة ، فقد ازداد حب الأمَّة له.
وظلَّ ابن عامرٍ عليها إلى أن قتل الخليفة عثمان رضي الله عنه.
فهذا عبد الله بن عامرٍ أحد ولاة عثمان ، فهو الّذي شقَّ نهر البصرة ، وأوَّل من اتَّخذ الحياض بعرفات، وأجرى إليها العين، وهو الرَّجل الّذي له من الحسنات، والمحبَّة في قلوب النَّاس ما لا يُنكر ، كما يقول ابن تيميَّة. وقال فيه الذهبيُّ: وكان من كبار أمراء العرب ، وشجعانهم ، وأجوادهم ، وكان فيه رفقٌ ، وحلمٌ.
ثالثاً : الوليد بن عقبة :
هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أميَّة بن عبد شمس بن عبد مناف ، الأمير أبو وهب الأمويُّ ، له صحبةٌ قليلةٌ، وهو أخو عثمان لأمِّه .
كان الوليد بن عقبة من رجال الدَّولة الإسلاميَّة على عهد أبي بكرٍ ، وعمر اللَّذين كانا يتخيَّران للأعمال ذوي الكفاءة ، والأمانة من الرِّجال ، وكان ذلك من أعظم أسباب ذلك الانتشار السَّريع على أوسع نطاقٍ للإسلام على عهدهما ؛ وأنَّه كان محلَّ ثقة ، واعتماد الخليفتين ، وممَّن وسد إليه الأمور المهمَّة ؛ لما كانا يريان فيه من الكفاءة ، وصدق الإيمان، وأوَّل عملٍ له في خلافة الصِّدِّيق : أنَّه كان موضع السِّرِّ في الرَّسائل الحربيَّة الّتي دارت بين الخليفة ، وقائده خالد بن الوليد في وقعة المذار مع الفرس 12 هـ، ثمَّ وجَّهه مدداً إلى قائده عياض بن غنم الفهري، وفي سنة 13 هـ كان الوليد يلي لأبي بكرٍ صدقات قضاعة ، ثمَّ لمَّا عزم الصِّدِّيق على فتح الشَّام كان الوليد عنده بمنزلة عمرو بن العاص في الحرمة ، والثِّقة ، والكرامة ، فكتب إلى عمرو بن العاص ، وإلى الوليد بن عقبة يدعوهما لقيادة فيالق الجهاد ، فسار ابن العاص بلواء الإسلام نحو فلسطين ، وسار الوليد بن عقبة قائداً إلى شرق الأردن، ثمَّ رأينا الوليد في سنة 15 هـ على عهد عمر أميراً على بلاد بني تغلب ، وعرب الجزيرة .
وكان في ولايته هذه يحمي ظهور المجاهدين في بلاد الشَّام ؛ لئلا يؤتوا من خلفهم، وانتهز الوليد فرصة ولايته على هذه الجهة الّتي كانت لا تزال مليئةً بالنَّصارى، فكان من جهاده الحربيِّ، وعمله الإداريِّ داعياً إلى الله، يستعمل أساليب الحكمة، والموعظة الحسنة لحمل نصارى إياد، وتغلب على الدُّخول في الإسلام.
وبهذا الماضي المجيد جاء الوليد في خلافة عثمان ، فتولَّى الكوفة له ، وكان من خير ولاتها عدلاً ، ورفقاً ، وإحساناً ، وكانت جيوشه مدَّة ولايته على الكوفة تسير في آفاق الشرق فاتحةً ظافرةً موفَّقةً ، كما شهد له بذلك بظهر الغيب قاضٍ من أعظم قضاة الإسلام في التَّاريخ علماً ، وفضلاً ، وإنصافاً وهو التَّابعي الجليل الإمام الشَّعبيُّ، فقد أثنى على غزوه وإمارته بقوله حين ذُكر له غزو مسلمة بن عبد الملك : كيف لو أدركتم الوليد ، وغزوه ، وإمارته ، إنَّه كان ليغزو ، فينتهي إلى كذا، وكذا ، ما نقض، ولا انتقض عليه أحدٌ حتَّى عُزل عن عمله .
وقد كان الوليد رضي الله عنه أحبَّ النَّاس إلى النَّاس وأرفقهم بهم ، وقد أمضى خمس سنين ، وليس في داره باب ، وقد قال عثمان رضي الله عنه : ما وليت الوليد لأنَّه أخي ، وإنَّما ولَّيته لأنَّه ابن أم حكيم البيضاء عمَّة رسول الله (ﷺ) ، وتوءمة أبيه. والولاية اجتهادٌ وقد عزل عمر سعد بن أبي وقَّاص وقدَّم أقلَّ منه درجةً.
والمستعرض لسيرة هذا الصَّحابي الجليل ، والبطل الإسلاميِّ العظيم ؛ الّذي كان محلَّ ثقة الخلفاء الرَّاشدين الثَّلاثة لا يرتاب ، فإنَّه أهلٌ للولاية ، وإنَّما تساوره الشُّكوك في ثبوت ما قيل فيه من نزول الاية فيه ، وتسميته فاسقاً ، وشربه للخمر ، والأمر يحتاج إلى تحقيقٍ ، وإليك بحث هذين الأمرين.
هل ثبت بأن الوليد نزلت فيه الآية {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات : 6 ] ؟ .
قال تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ *} [الحجرات : 6 ] .
يتناقل الرُّواة في ذلك قصَّةً تقول : إنَّ رسول الله (ﷺ) بعث الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق مصدِّقاً ، فأخبر عنهم أنَّهم ارتدُّوا ، وأبوا في أداء الصَّدقة ، وذلك أنَّهم خرجوا إليه ، فهابهم ، ولم يعرف ما عندهم ، فانصرف عنهم ، وأخبر بارتدادهم ، فبعث إليهم رسول الله (ﷺ) خالد بن الوليد ، وأمره أن يتثبَّت فيهم ، فأخبروه : أنَّهم متمسِّكون بالإسلام ، ونزلت الآية. وقد جاءت رواياتٌ عديدةٌ ، وليس للقصَّة سندٌ موصولٌ صحيحٌ ، وأقلُّ ما يوصف به سند القصَّة : أنَّه ضعيف، وإذا قبلوا الأسانيد الضَّعيفة في فضائل الأعمال الّتي لا تحلُّ حراماً ، ولا تحرِّم حلالاً ، فإنَّنا لا نقبل السَّند الضَّعيف في قصَّة الوليد ؛ لأنَّه يحلُّ حراماً ، وهو وصف رجلٍ صحب الرَّسول (ﷺ) ـ ولو يوماً ـ بأنَّه فاسق .. وكيف نقبل السَّند الضَّعيف والآية نفسها تحث على التثبُّت في قول الأخبار ، فهذه الاية وضعت أصل علم الرِّواية .
إنَّ قصَّة الوليد بن عقبة ، فيما نسبوه إليه ، لا تُقْبلُ فيها إلا الأخبار الصَّحيحة السَّند، والمتن ؛ لأنَّها تصفه بالفسق ، وهذا مطعنٌ لا يتساهل في قبوله إذا وُصف به رجلٌ مِنْ عرض النَّاس في العصر الحديث بعد خمسة عشر قرناً من عصر الدَّعوة، فكيف نتساهل في نسبتها إلى رجلٍ عاش في العهد النَّبويِّ ، وفي عهد الخلفاء الرَّاشدين، وأوكلوا إليه أعمالاً ذات خطر ؟ والقصَّة تمثل جزءاً من تاريخ صدر الإسلام ، وتتَّصل أجزاء القصَّة ، وحوادثها بالعقيدة الإسلاميَّة ، وأخبار هذا الجانب من التَّاريخ الإسلاميِّ ، لا يتساهل في قبولها ، كما يُتساهل في قبول الأخبار الّتي تتَّصل بالعمران المدنيِّ ، ثمَّ إن الوليد بن عقبة من مسلمة الفتح ... وكثيراً ما تُوجَّه المطاعن إلى إسلام هذه الفئة من النَّاس ، ويزعم بعض المؤرِّخين : أنَّهم أسلموا مكرهين ، ولم يدخل الإيمان إلى قلوبهم ، وهو زعمٌ باطلٌ بلا ريب، وأخبار الوليد بن عقبة ، تزيد الرُّواة فيها ، ولعبت بها الأهواء المذهبيَّة ، والسياسيَّة ، ودخلها الوضع، وكانت ميداناً لتسابق أهل القصَّة في اختبار القدرة على الوضع ، وإثبات عبقريَّتهم الأدبيَّة المُجَنَّحة.
ومَّما يعكِّر على رواية إرسال الوليد بن عقبة لجمع صدقات بني المصطلق ، ويعارضها حديثٌ موصولُ السَّند إلى رجالٍ ثقاتٍ : أنَّ الوليد بن عقبة كان يوم الفتح صغيراً ، ومن كان في سنِّه لا يرسله النَّبيّ (ﷺ) عاملاً ، فعن فيَّاض بن محمَّد الرقِّي، عن جعفر بن برقان ، عن ثابت بن الحجَّاج الكلابيِّ ، عن عبد الله الهمدانيِّ ( أبي موسى ) عن الوليد بن عقبة ، قال : لمَّا فتح رسول الله (ﷺ) مكَّة ، جعل أهل مكَّة يأتونه بصبيانهم ، فيمسح على رؤوسهم ، ويدعو لهم ، فجيء بي إليه ، وإنِّي مطيَّب بالخلوق ، ولم يمسح على رأسي ، ولم يمنعه من ذلك إلا أنَّ أمي خلقتني بالخلوق ، فلم يمسَّني من أجل الخلوق.
إن القصَّة لعبت بها الأهواء المذهبيَّة ، فالوليد أمويٌّ عثمانيٌّ ، والّذي أقحم اسم الوليد في قصَّة سبب نزول الآية : شيعيٌّ رافضيٌّ ( محمد بن السَّائب الكلبي ) قال عنه ابن حجر : كان يُعَدُّ من شيعة أهل الكوفة . وقال ابن حجر : كان بالكوفة كذَّابان ، أحدهما : الكلبيُّ ، والآخر : السُّدِّيُّ. واختاره لهذه القصَّة ؛ لأنها تتَّصل بجمع الصَّدقات ، والوليد عمل على صدقات قضاعة في عهد أبي بكر ، وعمل على صدقات تغلب في الجزيرة في زمن عمر ، وكُتب الشِّيعة تعيب عثمان بن عفَّان بسبب قصَّة الوليد، ونحن لا ننكر أن تكون الآية نزلت في سياق قصَّة بني المصطلق ، ولكن الّذي ننكره أن يكون الوليد هو الموصوف بالفاسق في الآية ، ذلك أنَّ منطوق الاية : {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} [الحجرات : 6 ] بصيغة التَّنكير ، يدلُّ على الشُّمول ، لأنَّ النَّكرة إذا وقعت في سياق الشَّرط ، عمَّت ، كما تعمُّ إذا وقعت في سياق النَّفي.
حدُّ الوليد بن عقبة في الخمر :
وأمَّا حد الوليد في الخمر ، فقد ثبت في الصَّحيحين : أنَّ عثمان حدَّه بعدما شهدت عليه الشُّهود ، فهو ليس مأخذاً على عثمان ، بل كان من مناقب عثمان رضي الله عنه أن أقام عليه الحدَّ ، وعزله عن الكوفة ، حيث ذكر البخاريُّ هذه الحادثة في ( باب مناقب عثمان )، وكان عليٌّ رضي الله عنه يقول : إنَّكم وما تعيِّرون به عثمان كالطاعن نفسه ؛ ليقتل رِدَاءه، ما ذنب عثمان في رجلٍ قد ضربه بفعله ، وعزله عن عمله ، وما ذنب عثمان فيما صنع عن أمرنا. ثمَّ إنَّ تلك الحادثة لم تطرد في عهد عثمان فحسب ، بل لها سابقة في عهد عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه حيث ذكر ، أنَّ قدامة بن مظعون ـ له صحبةٌ ـ شرب الخمر، وهو أميرٌ على البحرين من قبل عمر فحدَّه ، وعزله.
وقد ذكر بعض المؤرِّخين : أنَّه لم يثبت على الوليد شربه للخمر ، قال الحافظ في الإصابة : ويقال : إنَّ بعض أهل الكوفة تعصَّبوا عليه ، فشهدوا عليه بغير الحقِّ، وقد أشار إلى هذا ابن خلدون ، فقال : وما زالت الشَّائعات ـ أي على عمَّال عثمان من قبل المشاغبين ـ تنمو ، ورمي الوليد بن عقبة وهو على الكوفة بشرب الخمر ، وشهد عليه جماعةٌ منهم ، وحدَّه عثمان ، وعزله.
وما حكاه الطَّبريُّ ببعض تفصيل : إنَّ أبناءً لأبي زينب ، وأبي مورع ، وجندب بن زهير نقبوا على ابن الحيسمان داره ، وقتلوه ، فشهد عليهم بذلك أبو شريح الخزاعيُّ الصَّحابيُّ، وابنه ـ وكان جاراً لابن الحيسمان ـ فاقتصَّ منهم الوليد ، فأخذ الأباء على أنفسهم أن يكيدوا للوليد ، وأخذوا يترقَّبون حركاته، فنزل به أبو زبيد الشَّاعر، وكان نصرانيّاً من أخواله بني تغلب، وأسلم على يد الوليد ، وكان الضيف متَّهماً بشرب الخمر ، فأخذ بعض السُّفهاء يتحدَّثون بذلك في الوليد لملازمته أبا زبيد ، ووجد أبو زينب ، وأبو مورِّع خير فرصة يغتنمونها ، فسافرا إلى المدينة ، وتقدَّما إلى عثمان شاهدين على الوليد بشرب الخمر ، وأنَّهما وجداه يقيء الخمر . فقال عثمان : ما يقيء الخمر إلا شاربها . فجيء بالوليد من الكوفة ، فحلف لعثمان، وأخبره خبرهم، فقال عثمان : نقيم حدود الله ، ويبوء شاهد الزُّور بالنَّار ، فاصبر يا أخي!
قال محبُّ الدِّين الخطيب : وأمَّا الزيادة الّتي وردت في رواية مسلم من : أنَّه أتى بالوليد وقد صلَّى الصبح ركعتين ، ثمَّ قال : أزيدكم ، وفي بعض طرق أحمد : أنَّه صلَّى أربعاً ، فلم تثبت في شيءٍ من شهادة الشُّهود ، فهي من كلام حضين الرَّاوي للقصَّة ، ولم يكن حضين من الشُّهود ، ولم يرْوِها عن شاهدٍ ، ولا عن إنسانٍ معروف، ولا كان في الكوفة في وقت الحادث المزعوم ، فلا اعتداد بهذا الجزء من كلامه.
هذا هو والي عثمان على الكوفة الوليد بن عقبة ، المجاهد الفاتح ، العادل المظلوم الّذي كان منه لأمَّته كلُّ ما استطاعه من عملٍ طيِّبٍ ، ثمَّ رأى بعينه كيف يبغي المبطلون على الصَّالحين ، وينفذ باطلهم فيهم ، فاعتزل النَّاس بعد مقتل عثمان في ضيعةٍ له منقطعةٍ عن صخب المجتمع ، وهي تبعد خمسة عشر ميلاً عن بلدة الرَّقَّة من أرض الجزيرة الّتي كان يجاهد فيها ، ويدعو النَّاس للإسلام في خلافة عمر، واعتزل جميع الحروب الّتي كانت أيَّام عليٍّ ، ومعاوية رضي الله عنهما إلى أن توفي بضيعته، ودفن بها في عام 61 هـ ، وقيل : إنَّه توفي في أيَّام معاوية.
يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf