الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

حقيقة ولاة عثمان رضي الله عنه

الحلقة الثامنة والثلاثون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ربيع الآخر 1441ه/ديسمبر2019م

يكثر المؤرِّخون من الحديث عن محاباة عثمان أقاربه ، وسيطرتهم على أزمَّة الحكم في عهده ، حتَّى أثاروا عليه نقمة كثيرٍ من النَّاس ، فثاروا ناقمين عليه إطلاقه يد ذوي قرباه في شؤون الدَّولة، وأقارب عثمان الّذين ولاهم رضي الله عنه أوَّلهم معاوية ، والثَّاني عبد الله بن أبي السرح ، والثَّالث الوليد بن عقبة ، والرَّابع سعيد بن العاص ، والخامس عبد الله بن عامر ، هؤلاء خمسة ولاهم عثمان ، وهم من أقاربه ، وهذا في زعمهم مطعنٌ عليه ، فلننظر أوَّلاً من هم ولاة عثمان رضي الله عنه ، هم : أبو موسى الأشعريُّ ، والقعقاع بن عمرو ، وجابر المزنيُّ ، وحبيب بن مسلمة ، وعبد الرَّحمن بن خالد بن الوليد ، وأبو الأعور السُّلميُّ ، وحكيم بن سلامة ، والأشعث بن قيس ، وجرير بن عبد الله البجلي ، وعيينة بن النَّهاس ، ومالك بن حبيب ، والنُّسير العجلي ، والسَّائب بن الأقرع ، وسعيد بن قيس ، وسلمان بن ربيعة ، وخنيس بن حبيش ، والأحنف بن قيس ، وعبد الرَّحمن بن ربيعة ، ويعلى بن مُنْيَة ، وعبد الله بن عمرو الحضرمي ، وعليُّ بن ربيعة بن عبد العزَّى ، هؤلاء هم ولاة عثمان رضي الله عنه .
فلو أخذنا إحصائية لوجدنا : أنَّ عدد الولاة ستة وعشرون والياً ، ألا يصح أن يكون خمسة من بني أميَّة يستحقُّون الولاية وبخاصَّةٍ إذا علمنا: أنَّ النَّبيّ (ﷺ) كان يولِّي بني أميَّة أكثر من غيرهم؟ ثمَّ يقال بعد ذلك : إنَّ هؤلاء الولاة لم يكونوا كلُّهم في وقتٍ واحدٍ ، بل كان عثمان رضي الله عنه قد ولَّى الوليد بن عقبة ، ثمَّ عزله ، فولَّى مكانه سعيد بن العاص ، فلم يكونوا خمسةً في وقتٍ واحدٍ ، وأيضاً لم يُتوفَّ عثمان إلا وقد عزل أيضاً سعيد بن العاص ، فعندما تُوفي عثمان لم يكن من بني أميَّة من الولاة إلا ثلاثة وهم : معاوية ، وعبد الله بن سعد بن أبي السَّرح ، وعبد الله بن عامر بن كريز فقط ، عزل عثمان الوليد بن عقبة ، وسعيد بن العاص ، ولكنَّه عزلهما من أين ؟ من الكوفة الّتي عزل منها عمر سعد بن أبي وقاص ، الكوفة الّتي لم ترض بوالٍ أبداً ، إذاً عَزْلُ عثمان رضي الله عنه لأولئك الولاة لا يعتبر مطعناً فيهم؛ بل مطعن في المدينة الّتي وُلُّوا عليها.
إنَّ بني أميَّة كان رسول الله (ﷺ) يستعملهم في حياته ، واستعملهم بعده من لا يُتَّهم بقرابةٍ فيهم : أبو بكرٍ ، وعمر ، رضي الله عنهما ، ولا نعرف قبيلةً من قبائل قريش فيها عمَّالٌ لرسول الله (ﷺ) أكثر من بني عبد شمس ؛ لأنَّهم كانوا كثيرين ، وكان فيهم شرفٌ وسؤددٌ ، فاستعمل النَّبيّ (ﷺ) عتَّاب بن أسيد بن أبي العاص على مكَّة ، وأبا سفيان بن حرب على نجران ، وخالد بن سعيد على صدقات بني مذجح، وأبان بن سعيد على بعض السَّرايا ثمَّ على البحرين ، فعثمان رضي الله عنه لم يستعمل إلا من استعمله النَّبيّ (ﷺ) ، ومن جنسهم ، وقبيلتهم ، وكذلك أبو بكر ، وعمر بعده ، فقد ولَّى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان في فتوح الشَّام ، وأقرَّه عمر ، ثمَّ ولَّى عمر بعده أخاه معاوية.
والسُّؤال الّذي يطرح نفسه أأثبت هؤلاء كفاءتهم أم لا ؟ وستأتي شهادات أهل العلم في أولئك الولاة الّذين ولاهم عثمان رضي الله عنه بإذن الله تعالى . إنَّ عثمان خليفةٌ راشدٌ ، يُقتدى به ، وأفعاله تشكِّل سوابق دستوريَّة في هذه الأمَّة فكما أنَّ عمر سنَّ لمن بعده التحرُّج عن تقريب الأقربين ، فإنَّ عثمان سنَّ لمن بعده تقريب الأقربين إذا كانوا أهل كفاءةٍ ، ومن تتبع سيرة عثمان لا يشكُّ في كفاءتهم الإداريَّة ، وكلُّ ما أُنكر على عثمان لا يخرج عن دائرة المباح.
إنَّ الولاة الّذين ولاهم عثمان رضي الله عنه من أقاربه قد أثبتوا الكفاءة والمقدرة في إدارة شؤون ولاياتهم ، وفتح الله على أيديهم الكثير من البلدان ، وساروا في الرَّعيَّة سيرة العدل ، والإحسان ، ومنهم من تقلَّد مهامَّ الولاية قبل ذلك في عهد الصِّدِّيق والفاروق رضي الله عنهما، ولننظر إلى أقوال أهل العلم في أولئك الولاة:
أولاً : معاوية بن أبي سفيان بن حرب الأمويُّ :
ذكر المترجمون لهذا الصَّحابيِّ الكريم فضائل جمَّةً ، وإليك شيئاً منها :
1ـ من القرآن الكريم :
اشترك معاوية رضي الله عنه في غزوة حنين، قال تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ *} [التوبة: 26].
ومعاوية رضي الله عنه من الّذين شهدوا غزوة حنين ، وكان من المؤمنين الّذين أنزل الله سكينته عليهم مع النَّبيّ (ﷺ) .
2ـ من السُّنَّة :
دعاء الرَّسول (ﷺ) لمعاوية رضي الله عنه ، ومن ذلك قوله (ﷺ) : « اللَهمَّ اجعله هادياً مهديّاً، واهد به » . وقوله (ﷺ) : « اللَهمَّ علِّم معاوية الكتاب ، والحساب ، وقه العذاب ». وقال رسول الله (ﷺ) : « أوَّل جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا » . قالت أمَّ حرام : قلت : يا رسول الله ! أنا فيهم ؟ قال : « أنت فيهم » . ثمَّ قال النَّبيّ (ﷺ) : « أوَّل جيش من أمَّتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم » . فقلت ـ أي أمُّ حرام ـ: أنا فيهم يا رسول الله ؟ قال : « لا ». قال المهلب : « في هذا الحديث منقبة لمعاوية ؛ لأنَّه أوَّل من غزا البحر » .
3ـ ثناء أهل العلم على معاوية رضي الله عنه :
أ ـ ثناء عبد الله بن عباَّس رضي الله عنهما عليه :
قيل لابن عباس رضي الله عنهما : هل لك في أمير المؤمنين معاوية ، فإنَّه ما أوتر إلا بواحدةٍ ، قال : إنَّه فقيه. وممَّا يناسب المقام ذكر بعض المسائل الفقهيَّة الّتي أُثِرت عن معاوية رضي الله عنه ، ومن تلك المسائل ما يلي :
ـ أثر عنه رضي الله عنه أنه أوتر بركعةٍ .
ـ أثر عنه رضي الله عنه الاستسقاء بمن ظهر صلاحه.
ـ أنَّه يجزأى إخراج نصف صاعٍ من البرِّ في زكاة الفطر .
ـ استحباب تطييب البدن لمن أراد الإحرام .
ـ جواز بيع وشراء دور مكَّة.
ـ التفريق بين الزَّوجين بسبب العُنَّة.
ـ وقوع طلاق السَّكران .
ـ عدم قتل المسلم بالكافر قصاصاً .
ـ حبس القاتل حتَّى يبلغ ابن القتيل.
ب ـ ثناء عبد الله بن المبارك على معاوية رضي الله عنه :
قال عبد الله بن المبارك : معاوية عندنا محنةٌ ، فمن رأيناه ينظر إليه شزراً ؛ اتَّهمناه على القوم ، يعني : الصَّحابة.
جـ ثناء أحمد بن حنبل :
سئل الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : ما تقول رحمك الله فيمن قال : لا أقول : إن معاوية كاتب الوحي ، ولا أقول : إنَّه خال المؤمنين ، فإنَّه أخذها بالسَّيف غصباً ؟ قال أبو عبد الله : هذا قول سوءٍ رديءٍ ، تجانبون هؤلاء القوم ، ولا يجالسون ، ونبيِّن أمرهم للناسِّ.
د ـ ثناء القاضي ابن العربيِّ على معاوية رضي الله عنه :
تحدَّث ابن العربيِّ عن الخصال الّتي اجتمعت في معاوية رضي الله عنه ، فذكر منها :...
قيامه بحماية البيضة ، وسدِّ الثُّغور ، وإصلاح الجند ، والظُّهور على العدوِّ ، وسياسة الخلق. وقد علَّق محب الدِّين الخطيب على هذا النصِّ بقوله : وقد بلغ من همَّته ـ يعني : معاوية ـ وعظيم عنايته بذلك أن أرسل يهدِّد ملك الرُّوم وهو في معمعة القتال مع عليٍّ في صفِّين ، وقد بلغه : أنَّ ملك الرُّوم اقترب من الحدود في جنودٍ عظيمةٍ، وفي ذلك يقول ابن كثير : وطمع في معاوية ملك الرُّوم بعد أن كان قد أخشاه، وأذله ، وقهر جنده ، ودحاهم ، فلمَّا رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب عليٍّ تدانى إلى بعض البلاد في جنودٍ عظيمةٍ ، وطمع فيه ، فكتب معاوية إليه : والله لئن لم تنته ، وترجع إلى بلادك يا لعين ! لأصطلحنَّ أنا وابن عمِّي عليك، ولأخرجنَّك من جميع بلادك ، ولأضيِّقنَّ عليك الأرض بما رحبت ! فعند ذلك خاف ملك الرُّوم ، وبعث يطلب الهدنة.
هـ ثناء ابن تيميَّة على معاوية رضي الله عنه :
قال عنه ابن تيميَّة : ... فإنَّ معاوية ثبت عنه بالتَّواتر : أنَّه أمَّرَهُ النَّبيّ (ﷺ) ، كما أمَّر غيرهُ ، وجاهد معه ، وكان أميناً يكتب له الوحي ، وما اتَّهمه النَّبيّ (ﷺ) في كتابة الوحي ، وولاه عمر بن الخطَّاب ، الّذي كان من أخبر النَّاس بالرجال ، وقد ضرب الله الحقَّ على لسانه ، وقلبه ، ولم يتَّهمه في ولايته.
و ـ ثناء ابن كثير عليه :
قال عنه ابن كثير : وأجمعت الرَّعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين ... فلم يزل مستقلاًّ بالأمر في هذه المدَّة إلى هذه السَّنة الّتي كانت فيها وفاته ، والجهاد في بلاد العدو قائمٌ ، وكلمة الله عاليةٌ ، والغنائم تَرِد إليه من أطراف الأرض ، والمسلمون معه في راحةٍ ، وعدل ، وصفح ، وعفوٍ، وقال أيضاً: كان حليماً، وقوراً، رئيساً، سيِّداً في النَّاس، كريماً، عادلاً، شهماً. وقال عنه أيضاً: كان جيِّد السِّيرة، حسن التَّجاوز، جميل العفو، كثير السِّتر، رحمه الله تعالى.
4ـ روايته للحديث :
يعدُّ معاوية رضي الله عنه من الّذين نالوا شرف الرِّواية عن رسول الله (ﷺ) ، ومردُّ ذلك إلى ملازمته لرسول الله (ﷺ) بعد فتح مكَّة، لكونه صهره، وكاتبه، رضي الله عنه، هذا وقد روى معاوية رضي الله عنه مئة وثلاثة وستين حديثاً عن رسول الله (ﷺ) ، اتَّفق له البخاريُّ ، ومسلمٌ على أربعة أحاديث ، وانفرد البخاريُّ بأربعة ، ومسلمٌ بخمسةٍ. وكانت سيرة معاوية رضي الله عنه مع الرَّعية في ولايته من خير سير الولاة ممَّا جعل النَّاس يحبُّونه ، وقد ثبت في الصَّحيح عن النَّبيّ (ﷺ) قال : « خيار أئمتكم ـ حكامكم ـ الّذين تحبُّونهم ، ويحبُّونكم ، وتصلُّون عليهم ـ تدعون لهم ـ ويصلُّون عليكم، وشرار أئمَّتكم الّذين تبغضونهم، ويبغضونكم، وتلعنونهم، ويلعنونكم». وأختم حديثي عن معاوية رضي الله عنه بما قاله القاضي أبو بكر ابن العربيِّ : فعُمر ولاه ، وجمع له الشَّامات كلَّها ، وأقرَّه عثمان ، بل إنَّما ولاه أبو بكرٍ الصِّدِّيق ؛ لأنَّه ولى أخاه يزيد ، واستخلفه يزيد ، فأقرَّه عمر ، لتعلُّقه بولاية أبي بكرٍ لأجل استخلاف واليه له ، فتعلَّق عثمان بعمر وأقرَّه ، فانظر إلى هذه السِّلسلة ما أوثق عُراها ! وثبت : أنَّ رسول الله (ﷺ) استكتبه ... فيكون سند ولايته الأعمال في الدَّولة الإسلاميَّة لم يكن لأحد قبله ، ولم يكن لأحدٍ بعده ، حيث اجتمع على توليته : رسول الله (ﷺ) ، ومن بعده خلفاؤه الثَّلاثة ، ثمَّ صالحه وأقرَّ له بالخلافة الحسن بن عليٍّ سبط رسول الله (ﷺ)

يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022