الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

حقيقة ولاة عثمان رضي الله عنه ٣

الحلقة الأربعون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ربيع الآخر 1441ه/ديسمبر2019م

رابعاً : سعيد بن العاص :
هو سعيد بن العاص بن أميَّة بن عبد شمس بن عبد مناف ، القرشيُّ ، الأمويُّ. وقال أبو حاتم : له صحبةٌ . ولي الكوفة بعد الوليد بن عقبة ، كان من فصحاء قريش ؛ ولهذا ندبه عثمان فيمن ندب لكتابة القرآن ، فعن أنس بن مالك قال :... فأمر عثمان زيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزُّبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرَّحمن بن الحارث بن هشام ، فنسخوها ( أي : الصحف ) في المصاحف ، وقال عثمان للرَّهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابتٍ في شيءٍ من القرآن ، فاكتبوه بلسان قريش، وقد أقيمت عربيَّة القرآن على لسان سعيد بن العاص ؛ لأنَّه كان أشبههم لهجة برسول الله (ﷺ) ، أدرك من الحياة النَّبويَّة تسع سنين ، وقتل أبوه يوم بدرٍ مشركاً ، قتله عليُّ بن أبي طالب ، واقرأ معي هذا الخبر الّذي يدلُّ على قوَّة إيمانه : حيث روي أنَّ عمر بن الخطَّاب قال لسعيد بن العاص : لم أقتل أباك ، وإنما قتلتُ خالي العاص بن هشام . فقال سعيد : لو قتلته لكنت على الحقِّ ، وكان على الباطل ، فأعجب عمر بجوابه .
وفي أيَّام ولايته الكوفة غزا طبرستان ، ففتحها ، وغزا جرجان ، وكان في عسكره حذيفة وغيره من الصَّحابة، وكان مشهوراً بالكر ، والبرِّ ، حتَّى إذا سأله السائل ، وليس عنده ما يعطيه ؛ كتب له بما يريد أن يعطيه مسطوراً ، وكان رحمه الله يحبُّ جمع شمل المسلمين ، ويكره الفتنة ، ويفرُّ منها ، ولاه عثمان الكوفة بعد الوليد بن عقبة ، ووفد إلى المدينة مرَّةً ، وعندما عاد إلى الكوفة جنَّد أهل الشَّغب جنودهم ، ومنعوه من دخولها ، فعاد ، ولزم المدينة .. وهؤلاء الّذين منعوه من العودة إلى الإمارة كان منهم قتلة عثمان ، ومع ذلك اعتزل الجمل ، وصفِّين ، وحثَّ أهل الجمل على القعود عن الخروج، هذه هي سيرته : كرمٌ ، وشجاعةٌ ، وبرٌّ ، وجهادٌ ، وفصاحةٌ أشبه ما تكون بفصاحة النَّبيّ (ﷺ) ، وكان قد أملى على زيد ابن ثابت هذا المصحف الّذي نقرؤه اليوم .
فتأمَّل هذه المناقب الثَّابتة له بالرِّواية الصَّحيحة ، وقارنها بما يذكرون من مثالبه الّتي لا سند لها ، وتأمَّل فيمن أشاعها ، فتظنُّ أنَّها ملفقةٌ ؛ لأنَّها تجمع في الرَّجل النقيضين : الكرم والبخل ، والبرَّ والتَّوحُّش ، والفهم والجهل ، والجهاد والنكوص ، وهذا لا يعقلُ اجتماعه في رجلٍ سويٍّ. يزعم الرُّواة ـ بلا إسنادٍ ـ أنَّه عندما ولي سعيد الكوفة بعد الوليد كان بعض الموالي يقول رجزاً :
يَا وَيْلَنَا قَدْ عُزِلَ الْوَليْدُ وَجَاءَنا مُجَوِّعَاً سَعِيْدُ يُنْقِصُ في الصَّاعِ وَلا يَزِيْدُ وهذا رجزٌ مصنوعٌ ، وقصَّةٌ موضوعةٌ بلا شكٍّ؛ لأنَّ الموالي في سنة 30 هـ أي : العبيد، من أسرى الحروب ـ لم يكونوا يحسنون العربيَّة ، فكيف بقول الشِّعر ، ولأنَّ سعيد بن العاص المشهور بالكرم ، والبرِّ لا يمكن أن يوصف بأنَّه ( مجوِّع ) وإذا مدح النَّاس ، والشُّعراء الوليد لكرمه ، فإنَّ سعيداً ضرب المثل بكرمه، فكان يقال له : عُكَّةُ العسل، وقال فيه الفرزدق يذكر كرمه :
تَرَى الغُرَّ الجَحَاجِحَ مِنْ قُرَيْشٍ إِذَا ما الأَمْرُ فِي الْحِدثَانِ عَالا
قِيَامَاً يَنْظُرُوْنَ إِلَى سَعِيْدٍ كَأَنَّهُمُ يَرَوْنَ بِهِ هِلالا
وإذا قال الموالي هذا الرَّجز في أول مجيء سعيدٍ إلى الكوفة ، فكيف عرف الموالي سياسة سعيد ، وهل جاء مجوِّعاً ، أم جاء مشبعاً ؟ ! والغريب أنَّ الرُّواة يسوقون هذا الخبر في سياق ينقض بعضه بعضاً ، حيث يقولون : فولَّى عثمان سعيد ابن العاص الكوفة ، فسار فيهم سيرةً عادلةً ، فكان بعض الموالي ، يقول الرَّجز، فكيف تكون السِّيرة عادلةً ، ويوصف بأنَّه جوَّع الموالي ؟ ! فقد كان الخير كثيراً يسع الجميع ، ويفيض ، والسِّيرة العادلة تجعل الخير يعمُّ، ورحم الله المؤرِّخين القدماء ، فقد كانوا حسني الظَّنِّ بالقرَّاء ، فجمعوا في كتبهم الرِّوايات المتناقضة ، وحسبوا : أنَّ القرَّاء في جميع العصور يستطيعون تمييز الغثِّ من السَّمين ، وعذرُهم بأنَّهم كانوا يؤلِّفون لأهل عصرهم ، وما عرفوا : أنَّ القرون التَّالية ستحل بمن يحتطب بليلٍ، فقد روى ابن سعد في ترجمة سعيد ـ بلا إسنادٍ ـ يقول : قالوا : فلمَّا قدم سعيدٌ الكوفة ـ والياً ـ قدمها شابّاً ، مُترفاً ، ليست له سابقةٌ ، فقال : لا أصعد المنبر حتَّى يطَّهَّر ، فأُمر به فغسل .. وقال على المنبر : إنَّما هذا السَّواد بستانٌ لأُغَيْلمةٍ من قريش . شكوه إلى عثمان! وهذا كلامٌ لا يصحُّ ؛ لأنَّه غير مسندٍ ، ولأنَّ سعيد بن العاص الّذي قاد جيوش الجهاد ، وفتح الفتوح لا يكون كما وصف القائلون .
ثمَّ إنَّ ابن سعدٍ يروي قولة سعيد هذه على لسان الأشتر مالك بن الحارث عندما منع سعيد بن العاص من دخول الكوفة ، بعد سنوات من ولايته حيث قال الأشتر : هذا سعيد بن العاص قد أتاكم يزعم : أنَّ هذا السواد بستانٌ لأغيلمة من قريش ، والسَّواد مساقط رؤوسكم ، ومراكز رماحكم ، وفيئُكم وفيء أبائكم.
ومالك بن الحارث الملقَّب بـ( الأشتر ) صاحب فتنةٍ ، كان من رؤساء الخوارج الّذين حاصروا عثمان ، وقتلوه ، ولا يستغرب من هؤلاء أن يختلقوا الأقوال لإثارة كره النَّاس ... وإذا كانت هذه الجملة قد قيلت ؛ فإنَّ الّذين قالوها هم الخارجون على الخلافة ؛ لأنَّهم فهموا هذا الفهم السَّقيم بسبب تتابع الأمراء على العراق ـ وبخاصَّةٍ الكوفة ـ من قريش ، ولأن العصبية القبلية واضحةٌ في هذه المقولة ، وقد قال الإمام الذَّهبيُّ فيه : وكان أميراً شريفاً ، جواداً ، ممدَّحاً ، حليماً ، وقوراً ، ذا حزمٍ ، وعقلٍ ، يصلح للخلافة ـ الولاية ـ.
وأمَّا قول المخالفين ، والّذين طعنوا في عثمان رضي الله عنه بأنَّه استعمل سعيد ابن العاص على الكوفة ، وظهر منه ما أدَّى إلى أن أخرجه أهل الكوفة، فمجرَّد إخراج أهل الكوفة له لا يدلُّ على ذنبٍ يوجب ذلك ، فمن عرف الكوفة ، وسبر أحوالها، عرف كثرة تشكِّي أهلها من ولاتهم بلا مبررٍ شرعيٍّ ، ولأتفه الأسباب ، حتَّى قال فيهم عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه : أعياني ، وأعضل بي أهل الكوفة ، ما يرضون أحداً ، ولا يرضى بهم ، ولا يصلحون ، ولا يصلح عليهم.
وفي رواية : أعياني أهل الكوفة ، فإن استعملت عليهم ليِّناً ؛ استضعفوه ، وإن استعملت عليهم شديداً ؛ شكوه، بل إنَّه دعا عليهم ، فقال : الّلهُمَّ إنَّهم قد لبَّسوا عليَّ ، فلبِّس عليهم.
وقد كان سعيد بن العاص رجلاً حكيماً ، فقد قال : لجليسي عليَّ ثلاثٌ : إذا دنا ؛ رحَّبت به، وإذا جلس؛ أوسعت له ، وإذا حدَّث ؛ أقبلت عليه . وقال لابنه : يا بنيَّ ! أجر لله المعروف إذا لم يكن ابتداءً من غير مسألةٍ ، فأمَّا إذا أتاك الرَّجل تكاد ترى دمه في وجهه ، أو جاءك مخاطراً لا يدري أتعطيه ، أم تمنعه ، فوالله لوخرجت له من جميع مالك ما كافأته ! وقال أيضاً : يا بنيَّ ! لا تمازح الشَّريف ، فيحقد عليك ، ولا الدَّنيء فتهون عليه . ودخلتْ عليه ذات يوم امرأةٌ من العابدات ، وهو أمير الكوفة ، فأكرمها ، وأحسن إليها ، فقالت : لا جعل الله لك إلى لئيم حاجةً ! ولا زالت المنَّة في أعناق الكرام ، وإذا أزال عن كريم نعمة جعلك سبباً لردِّها عليه .
ولما حضرت سعيداً الوفاة جمع بنيه ، وقال لهم : لا يفقدنَّ أصحابي غير وجهي ، وصلوهم بما كنت أصلهم به ، وأجْرُوا عليهم ما كنت أجري عليهم ، واكفوهم مؤنة الطَّلب ، فإنَّ الرَّجل إذا طلب الحاجة ؛ اضطربت أركانه ، وارتعدت فرائصه مخافة أن يردَّ ، فوالله لرجلٌ يتململ على فراشه يراكم موضعاً لحاجته أعظم منَّةً عليكم ممَّا تعطونه ! ثم أوصاهم بوصايا كثيرةٍ ، وكانت وفاته 58 هـ ، وقيل : 57 هـ ، وقيل : 59 هـ.

خامساً : عبد الله بن سعد بن أبي السَّرح :
درج المؤرِّخون ـ في الغالب ـ إذا ذكروا اسم عبد الله بن أبي السَّرح ، وتولية عثمان له على ولاية مصر على أن يقولوا : لقد ولَّى عثمان على مصر عبد الله بن أبي السَّرح أخاه من الرَّضاعة، وإيراد عبارة ( أخاه من الرَّضاعة ) مقرونةً بالتَّولية تعتبر إيحاءً من بعض المؤرِّخين باتِّهام عثمان رضي الله عنه ، وأنَّه لهذه الأخوَّة من الرَّضاعة ولاه على مصر . وهذا الّذي يراه المؤرِّخ غير صحيحٍ ، ولكي نردَّ على هؤلاء ، وعلى ما يغمزون به أمير المؤمنين عثمان بن عفَّان رضي الله عنه نستعرض جهود فارس بني عامر بن لؤيٍّ ـ عبد الله بن سعدٍ ـ فقد كان على خبرةٍ ، ودرايةٍ تامَّةٍ بأحوال مصر ، ونواحيها نتيجة اشتراكه مع جيش عمرو في فتحها ، ونتيجة ولايته على بعض النَّواحي أثناء خلافة عمر ، فقد كان على صعيد مصر ، وكذلك أوَّل خلافة عثمان ، ممَّا أهَّلَه لأن يصبح والياً عامّاً على مصر ، فكان أقوى المرشَّحين لتلك الولاية بعد عمرو بن العاص نتيجة لتلك الخبرات ، ويبدو : أنَّ عبد الله بن سعدٍ تمكَّن من ضبط خراج مصر ؛ حتَّى زاد ما كان يجمعه من الخراج على ما كان يجمعه عمرو بن العاص قبله ، ولعلَّ مردَّ ذلك إلى اتِّباع عبد الله بن سعدٍ لسياسةٍ جديدةٍ في المصروفات ، اختلفت عن سياسة عمرو ، وبالتَّالي زادت أموال الخراج المتوفِّرة في مصر.
وقد قام عبد الله بن سعدٍ أثناء ولايته بالجهاد في عدَّة مواقع ، فكانت له فتوحٌ مختلفةٌ لها شأنٌ عظيمٌ ، فكان من غزواته غزو إفريقية سنة 27 هـ وفتوحه فيها ، وقتله ملكها جرجير ، وكان يصاحبه في تلك الغزوات مجموعةٌ من الصَّحابة ، منهم عبد الله بن الزُّبير ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وغيرهم ، وانتهت الغزوة بصلحٍ مع بطريق إفريقية على تأدية الجزية للمسلمين، وقد عاد ابن أبي السَّرح إلى إفريقية مرَّةً أخرى ، ووطَّد فيها الإسلام ،
وذلك في سنة 33 هـ، كما كان من أهمِّ أعمال عبد الله بن سعد بن أبي السَّرح غزوه لبلاد النُّوبة ، وتسمى غزوة الأساودة ، أو غزوة الحبشة عند بعض المؤرِّخين ، وقد وقعت هذه الغزوة سنة إحدى وثلاثين للهجرة ، وقد دار قتالٌ شديدٌ بين أجناد المسلمين وجنود النُّوبة ، وأصيب مجموعةٌ من المسلمين نظراً لإجادة أهالي النُّوبة للرَّمي ، وقد انتهت تلك الغزوة بصلح وقَّعه عبد الله بن سعدٍ مع أهالي النُّوبة بوضع جزية محدَّدة عليهم.
ويعتبر عبد الله بن سعدٍ بحقٍّ أوَّل قائدٍ مسلمٍ تمكَّن من اقتحام النُّوبة ، وقاتل أهلها، وفرض عليهم الجزية ، واستقرَّت الحال على ذلك في أيَّامه بين أهل النُّوبة ، والمسلمين ، كذلك من أهمِّ أعمال عبد الله بن سعدٍ العسكريَّة غزوة ذات الصَّواري وقد انتصر فيها المسلمون على الرُّوم، وقد كانت ولاية عبد الله بن سعدٍ على مصر محمودةً على العموم لدى المصريين ، ولم يروا منه ما يكرهون ، يقول عنه المقريزي: ومكث أميراً مدَّة ولاية عثمان رضي الله عنه كلَّها محموداً في ولايته.
وقال فيه الذَّهبي : ولم يتعدَّ ، ولا فعل ما ينقم عليه ، وكان أحد عقلاء الرِّجال ، وأجوادهم.
وقد كانت ولاية مصر في أوَّل أمرها هادئةً مستقرَّةً إلى أن تمكَّن مثيرو الفتنة من أمثال عبد الله بن سبأ من الوصول إليها ، وإثارة النَّاس فيها ، فكان لهم وللمتأثِّرين بهم دورٌ كبير في مقتل عثمان رضي الله عنه . كما أنَّ الأحوال في مصر نفسها اضطربت نتيجة طرد الوالي الشَّرعي لها ، واستيلاء أقوامٍ اخرين على الأمور بطريقة غير شرعيَّة ، وقد تمكَّنوا خلال تلك الفترة من بثَّ الكراهيَّة في قلوب النَّاس لخليفتهم عثمان نتيجة مكايد قاموا بها ، وأكاذيب لفَّقوها ، ونشروها، سيأتي الحديث عنها بإذن الله تعالى .
ولما وقعت الفتنة بمقتل عثمان رضي الله عنه اعتزلها عبد الله بن سعدٍ وسكن عسقلان ، أو الرَّملة في فلسطين . وروى البغويُّ بإسنادٍ صحيح ، عن يزيد بن أبي حبيبٍ ، قال : خرج ابن أبي السَّرح إلى الرَّملة ـ بفلسطين ـ فلمَّا كان عند الصُّبح قال : الّلهمَّ اجعل آخر عملي الصُّبح ! فتوضَّأ ، ثمَّ صلَّى ، فسلم عن يمينه ، ثمَّ ذهب يسلم عن يساره ، فقبض الله روحه.

يمكن النظر في كتاب تيسير الكريم المنَّان في سيرة أمير المؤمنين
عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه، شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC171.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022