مؤسسة الولاة في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه
الحلقة الرابعة والأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخر 1441 ه/ فبراير 2020م
سابعاً: ولاية مصر:
استشهد عثمان رضي الله عنه وعلى مصر محمد بن أبي حذيفة مغتصباً للولاية فيها ، ولم يقره عثمان عليها ، وبعد وفاة عثمان أقره علي على مصر فترة من الوقت لم تطل ، حيث وجه معاوية جيشاً إلى نواحي مصر فظفر بمحمد بن أبي حذيفة ، فقبض عليه، ثم سجن وقتل، وقد ذكر أن علياً لم يعين محمد بن أبي حذيفة على مصر ، وإنما تركه على حاله، حتى إذا قُتل ، عيَّن عليٌّ قيس بن سعد الأنصاري على ولاية مصر ، فقال له: سر إلى مصر وليتكها ، واخرج الى رحلك واجمع إليه ثقاتك ومن أحببت أن يصحبك حتى تأتيها ومعك جند ، فإن ذلك أرعب لعدوك وأعز لوليك ، فإذا أنت قدمتها إن شاء الله فأحسن إلى المحسن واشتد على المريب ، وارفق بالعامة والخاصة فإن الرفق يمن، وقد ظهر ذكاء قيس وحسن تصرفه في العديد من المواقف ، فإنه حين توجه إلى مصر كان فيها مجموعة ممن غضبوا لمقتل عثمان ، ومجموعة ممن اشتركوا في قتله ، ولقد لقيته خيل من مصر قبل دخوله إليها فقالوا: من أنت؟ قال: من فألة عثمان فأنا أطلب من أوى إليه فأنتصر به لله ، قالوا: من أنت؟ قال: قيس بن سعد ، قالوا: امضِ ، فمضى حتى دخل مصر ، وهذا الموقف الذي لِقَيْس هو الذي مكنه من دخول مصر، ثم أعلن بعد ذلك أنه أمير ، وربما لو أنه أعلن لهؤلاء الأجناد أنه أمير لمنعوه من دخول مصر أصلاً ، كما حدث لمن وجهه علي إلى الشام فمنعته أجناد الشام من دخولها حينما علموا أنه قد بُعث أميراً على الشام.
وحينما وصل قيس بن سعد إلى الفسطاط صعد المنبر وخطب في أهل مصر ، وقرأ عليهم كتاباً من علي بن أبي طالب رضي الله عنه وطلب البيعة لعلي، وهنا انقسم أهل مصر إلى فريقين: فريق دخل في بيعة علي وبايعوا قيساً ، وفريق توقف واعتزل ، وكان قيس بن سعد حكيماً مع الذين بايعوا والذين امتنعوا ، حيث لم يجبرهم على البيعة وكف عنهم وتركهم في حالهم، ولم يكتف بذلك ، بل إنه بعث لهؤلاء أعطياتهم في مكان اعتزالهم ، ووفد عليـه قوم منهم فأكرمهم وأحسن إليهم، فساعدت تلك المعاملة الطيبة على تجنب الصدام بهم ، وبالتالي ساعدته على هدوء الأوضاع بمصر ، حتى استطاع قيس أن ينظم الأمور فيها ، فوزع الأمراء ، ونظّم أمور الخراج ، وعين رجالات على الشرطة، وبذلك استطاع أن يرتب ولاية مصر ، وأن يسترضي جميع الأطراف فيها.
وأصبح قيس بن سعد في هذا الموقع يشكل ثقلاً سياسياً وخطراً عسكرياً على معاوية بن أبي سفيان في الشام ، نظراً لقرب مصر من الشام ، ولترتيب قيس لها وتنظيمها ، وما اشتهر عن قيس من حزم ، وخوف معاوية من حركات عسكرية مناوئة له تخرج من مصر ، ولذلك فإنه أخذ يراسل قيس بن سعد في مصر مهدداً له ، وفي الوقت نفسه يحاول إغراءه بالانضمام إليه ، وكانت إجابات قيس على تلك الرسائل إجابات ذكية بحيث لم يستطع معاوية أن يفهم موقف قيس وما ينوي عمله ، وقد تعددت بينهما الرسائل، وقد انتشرت الروايات الرافضية من الرسائل بين معاوية وقيس بن سعد التي ذكرها أبو مخنف في كتب التاريخ ، وهي باطلة لا تصح ، فقد انفرد بها هذا الرافضي التالف الذي ضعفه رجال الجرح والتعديل بها ، وفي متن تلك الرواية غرائب من أبرزها ما يلي:
1- خطاب علي إلى أهل مصر مع قيس بن سعد وفيه: ثم ولي بعدهما والٍ ، فأحدث أحداثاً ، فوجدت عليه الأمة مقالاً فقالوا ، ثم نقموا عليه فغيروا ، وهذا يعني أن الذين قاموا على عثمان (رضي الله عنه) رجال الأمة ، وأن الأمة قد غيرت هذا المنكر بقتل عثمان ، وعلي رضي الله عنه بريء من هذا القول ، وهو يعلم أن الذين قتلوا عثمان هم أوباش الناس ، وأن قتله ظلم وفجور ، وأقواله تدل على ذلك؛ ومنها:
ما رواه ابن عساكر: أن محمد بن الحنفية قال: ما سمعت علياً ذاكراً عثمان بسوء قط. وأخرج الحاكم وابن عساكر: أن علياً رضي الله عنه قال: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان ، ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان وأنكرت نفسي ، وجاؤوني للبيعة فقلت: والله إني لأستحيي من الله أن أبايع قوماً قتلوا رجلاً قال له رسول الله ﷺ : «ألا أستحيي ممن تستحيي منه الملائكة» وإني لأستحيي من الله أن أبايع وعثمان قتيل على الأرض لم يدفن بعد ، فانصرفوا ، فلما دفن رجع الناس يسألونني البيعة ، فقلت: اللهم إني مشفق مما أقدم عليه ، ثم جاءت عزيمة فبايعت ، فلما قالوا: أمير المؤمنين؛ فكأن صدع قلبي ، وانسكب بعبرة ، وأقواله في هذا المعنى كثيرة، وقد جمعتها في كتابي (تيسير الكريم المنان في سيرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان).
2- قول قيس بن سعد: أيها الناس إنا قد بايعنا خير من نعلم بعد نبينا ﷺ .. وهذا مردود ، إذ إن الثابت تفضيل أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما) ، على علي رضي الله عنه كما صح عن علي نفسه: أنه صرح بذلك ، وهذا لا يشك فيه أحد في ذلك الزمان من الصحابة وغيرهم ، وعليه فلا يصح نسبة هذا الكلام لقيس بن سعد رضي الله عنه ولا لغيره من الصحابة والتابعين ، ولم يشتهر هذا إلا عند الشيعة الروافض المتأخرين. قال ابن تيمية: الشيعة المتقدمون كلهم متفقون على تفضيل أبي بكر وعمر.
والأدلة في تفضل أبي بكر وعمر كثيرة؛ منها: ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نخير بين الناس في زمن النبي ﷺ ؛ فنخير أبا بكر ، ثم عمر بن الخطاب ، ثم عثمان بن عفان. والأحاديث في ذلك كثيرة ومشهورة ، وحقيقة الأمر كما مر معنا في الروايات الصحيحة السابقة أن معاوية طلب من أمير المؤمنين تسليمه قتلة عثمان ، ولم يتهم أمير المؤمنين علي به.
3- رسالة معاوية إلى قيس بن سعد: وإشارته فيها إلى كون علي طرفاً في قتل عثمان... وهذا لا يصح صدوره من معاوية ، ذلك أن الأمر واضح فيه براءة علي (رضي الله عنه) كما مر في الفقرة السابقة ، وهذا لا يجهله معاوية (رضي الله عنه) فضلاً أن يُقِرَّه لقيس بن سعد (رضي الله عنهما).
وهذا محمد بن سيرين من كبار التابعين ، ومن الذين عاصروا ذلك المجتمع يقول: لقد قتل عثمان وما أعلم أحداً يتهم علياً في قتله. ويقول أيضاً: لقد قتل عثمان يوم قتل وإن الدار يومئذ لغاصة ، فيهم عبد الله بن عمر ، وفيهم الحسن بن علي في عنقه السيف ، ولكن عثمان عزم عليهم أن لا يقاتلوا، وأخرج ابن أبي شيبة بسند رجاله ثقات عن محمد بن الحنفية أن علياً قال: لعن الله قتلة عثمان في السهل والجبل ، والبر والبحر. والنصوص في هذا المعنى كثيرة جداً، مما يؤكد اشتهار كراهية علي رضي الله عنه لقتل عثمان.
4- وأما ما أورده من اتهام معاوية للأنصار في دم عثمان فهذا لا يصح من معاوية ، وهو يعلم أن الذي قام بالدفاع جميعاً هم الأنصار ، فقد أخرج ابن سعد بسند صحيح أن زيد بن ثابت رضي الله عنه جاء إلى عثمان رضي الله عنه وهو محصور ، فقال: هذه الأنصار بالباب يقولون: إن شئت كنا أنصار الله مرتين ، قال: فقال عثمان: أما القتال فلا(.
5- ما ذكره من اختلاق معاويـة كتاباً على لسان قيس بـن سعد ؛ فهـذا من الكذب الذي لا يعقل صدوره من معاوية، ذلك أن العرب كانوا يعدون الكذب من أقبح الصفات التي يتنزه عنهـا الرجال الكرام ، وهـذه قصـة أبي سفيان وهو يومئذ على الشرك فيما أخرجه البخاري في قصـة سؤال هرقل عن رسول الله ﷺ، يقول أبو سـفيان: فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت عنه، فهذه منزلـة الكذب عنـد العرب ، وعند المسلمين أشـد وأخزى ، ولا يقول قائل: هذه خدعة ، والحرب خدعة ، فإن الخدعة ليس معناها الكذب كما هو معلوم من كلام العرب ، ومعاويـة رضي الله عنه أحذق من أن يفعل هذا.
6- رواية هذه الكتب الكثيرة بين قيس ومعاوية وعلي رضي الله عنهم بهذا التسلسل وبهذه الدقة تدخل الشك والريبة على القارئ لجهالة المطلع والناقل لها.
يقول الدكتور يحيى اليحيى: إن ولاية قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما على مصر من قبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمر مجمع عليه، وكل من ترجم لقيس لم يذكر هذه التفاصيل، أي: التي ذكرها أبو مخنف في روايته - وحتى مؤرخو مصر المعتبرون لم يذكروا ذلك، هذا وقد نقل رواية أبي مخنف من الطبري بعد حذف واختصار كل من: ابن الأثير ، وابن كثير ، وابن خلدون ، وابن تغري بردي، وقد أخرج الكندي أيضاً عن عبد الكريم بن الحارث قال: لما ثقل مكان قيس على معاوية كتب إلى بعض بني أمية بالمدينة: أن جزى الله قيس بن سعد خيراً واكتموا ذلك ، فإني أخاف أن يعزله علي إن بلغه ما بينه وبين شيعتنا ، حتى بلغ علياً فقال من معه من رؤساء أهل العراق وأهل المدينة: بدَّل قيس وتحوَّل ، فقال علي: ويحكم ، إنه لم يفعل ، فدعوني ، قالوا: لتعزلنه فإنه قد بدَّل ، فلم يزالوا به حتى كتب إليه: إني قد احتجت إلى قربك ، فاستخلف على عملك وأقدم، وقد رجّح هذه الرواية الدكتور اليحيى في كتابه القيم (مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري) قال:
1- إنها من رواية مصري ثقة ، وهو أعلم بقطره من غيره.
2- أخرجها مؤرخ مصري.
3- خلوها من الغرائب.
4- متنها مما يتفق مع سيرة أولئك الرجال.
5- بينت تردد علي في عزل قيس ، حتى ألح عليه الناس فاستبقاه عنده ، وهكذا القائد لا يفرط بالقيادات الحاذقة وقت المحن.
- تعيين محمد بن أبي بكر على ولاية مصر:
تدخل بعض الناس للإفساد بين علي وقيس بن سعد لكي يعزله ، وفي نهاية المطاف طلب بعض مستشاري علي منه أن يعزل قيساً ، وصدقوا تلك الإشاعات التي قيلت فيه ، وألحُّوا في عزله ، فكتب إليه علي: إني قد احتجت إلى قربك فاستخلف على عملك واقدم. وكان هذا الكتاب بمثابة عزل لقيس عن ولاية مصر ، وقد عين علي مكانه الأشتر النخعي، على أكثر الأقوال، وقد التقى علي بالأشتر قبل سفره إلى مصر ، فحدثه حديث أهل مصر وخبَّره خبر أهلها، وقال: ليس لها غيرك ، أخرج رحمك الله فإني إن لم أوصك اكتفيت برأيك ، واستعن بالله على ما أهمك ، فاخلط الشدة باللين ، وارفق ما كان الرفق أبلغ ، واعزم بالشـدة حين لا يغني عنـك إلا الشدة، وقد توجـه الأشتر إلى مصر ومعه رهط من أصحابه إلا أنه حينما وصل إلى أطراف (بحر القلزم) - البحر الأحمر - مات قبل أن يدخل مصر ، وقد قيل: إنه سقي شربة مسمومة من عسل فمات منها ، وقد اتهم أناس من أهل الخراج أنهم سموه بتحريض من معاوية، والتهمة الموجهة إلى معاوية في قتل الأشتر بالسم لا تثبت من طريق صحيح ، واستبعد ذلك ابن كثير، وابن خلدون. وسار على نهجهم الدكتور يحيى اليحيى، وملتُ إلى هذا القول.
هذا وقد مات الأشتر قبل أن يباشر عمله في مصر ، ومع ذلك فإن المصادر تتحدث عنه كأحد ولاة مصر لعلي بن أبي طالب ، وقد ولي بعده على مصر محمد بن أبي بكر.
وقد سبق لمحمد بن أبي بكر أن عاش في مصر في عهد عثمان ، وتدل الروايات على أن محمد بن أبي بكر قد وصل إلى مصر قبل أن يغادرها الوالي الأول قيس بن سعد ، وقد دارت محاورة بين قيس بن سعد ومحمد بن أبي بكر قدَّم فيها قيس عدة نصائح لمحمد ، خصوصاً فيما يتعلق بالناس الغاضبين لمقتل عثمان ، والذين لم يبايعوا علياً بعده ، وقد قال قيس: يا أبا القاسم إنك قد جئت من عند أمير المؤمنين ، وليس عزله إياي بمانعي أن أنصح لك وله ، وأنا من أمركم هذا على بصيرة ، ودع هؤلاء القوم ومن انضم إليهم - يقصد الذين لم يبايعوا علياً ولا غيره - على ما هم عليه ، فإن أتوك فاقبلهم ، وإن تخلفوا عنك فلا تطلبهم ، وأنزل الناس على قدر منازلهم وإن استطعت أن تعود المرضى وتشهد الجنائز فافعل؛ فإن هذا لا ينقصك.
وقد حمل محمد معه عهداً من علي رضي الله عنه فقرأه على أهل مصر وخطبهم، وقد كتب أمير المؤمنين علي لمحمد بن أبي بكر كتاباً جاء عندما ولاه على مصر ، ولم يكن هذا الكتاب مقتصراً على سياسة الولاية ، بل يحوي دعوة محمد بن أبي بكر الصديق إلى الله ، ومما جاء في هذا الكتاب: واعلم يا محمد! أنك وإن كنت محتاجاً إلى نصيبك من الدنيا ، إلا أنك إلى نصيبك من الاخرة أحوج ، فإن عرض لك أمران: أحدهما للآخرة والآخر للدنيا ، فابدأ بأمر الآخرة ، ولتعظم رغبتك في الخير ، ولتحسن فيه نيتك ، فإن الله عز وجل يعطي العبد على قدر نيته ، وإذا أحب الخير وأهله ولم يعمله كان - إن شاء الله - كمن عمله ، فإن رسول الله ﷺ قال حين رجع من تبوك: «إن بالمدينة لأقواماً ما سرتم من مسير ، ولا هبطتم من وادٍ إلا كانوا معكم ، ما حبسهم إلا المرض» يقول: «كانت لهم نية» ، ثم اعلم يا محمد أني قد وليتك أعظم أجنادي: أهل مصر ، ووليتك ما وليتك من أمر الناس ، فأنت محقوق أن تخاف فيه على نفسك ، وتحذر فيه على دينك، ولو كان ساعة من نهار ، فإن استطعت أن لا تسخط ربك لرضا أحد من خلقه منه ، فاشتد على الظالم ، وَلِنْ لأهل الخير وقربهم إليك واجعلهم بطانتك ، وإخوانك والسلام.
وبدأ محمد بن أبي بكر يمارس ولايته ، وقد مضى الشهر الأول من ولايته بسلام ، إلا أن الأمور بدأت تتغير بعد ذلك، فلم يعمل محمد بنصيحة قيس بن سعد ، وبدأ يتحرَّش بأولئك الأقوام الذين لم يبايعوا علياً ، فكتب إليهم يدعوهم إلى المبايعة ، فلم يجيبوه ، فبعث رجالاً إلى بعض دورهم فهدموها ونهب أموالهم وسجن بعض ذراريهم فعملوا على محاربته.
ثم أن معاوية أعدَّ جيشاً بقيادة عمرو بن العاص فغزا به مصر ، وتحالف مع من قاتلهم محمد بن أبي بكر ، وكانت قوتهم كبيرة تصل إلى عشرة الاف مقاتل وفيهم مسلمة بن مخلد ومعاوية بن حديج، ووقعت بينهم وبين محمد بن أبي بكر معارك قوية انتهت بمقتل محمد بن أبي بكر واستيلاء أجناد معاوية على مصر ، وبذلك خرجت مصر من حكم علي بن أبي طالب رضي الله عنه سنة ثمان وثلاثين للهجرة.
وقد انفرد أبو مخنف الشيعي الرافضي برواية مفصلة ذكرها الطبري؛ شوهت كثيراً من حقائق التاريخ والتي لم يخرجها غيره ، ثم ذكرها بعض المؤرخين على النحو التالي:
اليعقوبي: ذكر قتال عمرو بن العاص لمحمد بن أبي بكر ، وأن معاوية بن حديج أخذه وقتله ثم وضعه في جيفة حمار فأحرقه.
وأما المسعودي ، وابن حبان، فقد أشارا إلى قتل محمد بن أبي بكر ، ولم يذكرا التفاصيل.
ونقل ابن الأثير، رواية أبي مخنف في الطبري باختصار بعدما حذف منها كتاب معاوية إلى محمد بن أبي بكر ، ونص المكاتبات بين علي وابن أبي بكر ، وحذف رد ابن أبي بكر على معاوية وعمرو بن العاص ، من رواية أبي مخنف في الطبري.
وقد ذكر النويري نحواً مما ذكره ابن الأثير، وذكر ابن كثير ، قريباً مما ذكره ابن الأثير والنويري ، وأما ابن خلدون فأشار إلى معنى روايات أبي مخنف، واختصر ابن تغري بردي روايات أبي مخنف، وكل هذه الروايات جاءت من طريق أبي مخنف وساهمت في تشويه التاريخ الإسلامي لتلك الحقبة ، وتناقلها الكتَّاب المعاصرون دون تمحيص ، وساهموا في نشرها واستقرت كثيراً من تلك الأكاذيب في أذهان بعض المثقفين ، فأصبحت جزءاً لا يتجزأ من ضمن سلسلة المفاهيم المغلوطة التي نشروها بين الناس.
هذا وإن قتل معاوية بن حديج لمحمد بن أبي بكر قد ثبت من طريق صحيح فيما أخرجه أبو عوانة عن عبد الرحمن بن شماسة قال: دخلت على عائشة أم المؤمنين ، فقالت لي: ممن أنت؟ قلت: من أهل مصر ، قالت: كيف وجدتم ابن حديج في غزاتكم هذه؟ فقلت: وجدناه خير أمير ، ما مات لرجل منا عبد إلا أعطاه عبداً ، ولا بعيراً إلا أعطاه بعيراً ، ولا فرس إلا أعطاه فرساً ، قالت: أما إنه لا يمنعني قتله أخي أن أحدث ما سمعت من رسول الله ﷺ يقول: «من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم ، فارفق به ، ومن شق عليهم ، فشق عليه».
وقد اشتملت روايات أبي مخنف في تاريخ الطبري حول ولاية محمد بن أبي بكر لمصر ومقتله على جملة من الغرائب أبرزها ما يأتي:
1- ما ذكره من مبايعة أهل الشام لمعاوية بالخلافة بعد التحكيم ؛ فهذا غير صحيح ، فقد نقل ابن عساكر بسند رجاله ثقات عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي أعلم الناس بأمر الشام ، أنه قال: كان علي بالعراق يدعى أمير المؤمنين ، وكان معاوية بالشام يدعى الأمير ، فلما مات علي دعي معاوية بالشام أمير المؤمنين. فهذا النص يبين أن معاوية لم يبايع بالخلافة إلا بعد وفاة علي، وإلى هذا ذهب الطبري ، فقد قال في اخر حوادث سنة أربعين: وفي هذه السنة بويع لمعاوية بالخلافة بإيليا، وعلق على هذا ابن كثير بقوله: يعني لما مات علي قام أهل الشام فبايعوا معاوية على إمرة المؤمنين؛ لأنه لم يبق له عندهم منازع، وكان أهل الشام يعلمون بأن معاوية ليس كفئاً لعلي بالخلافة ، ولا يجوز أن يكون خليفة مع إمكان استخلاف علي رضي الله عنه ، فإن فضل علي وسابقته وعلمه ، ودينه ، وشجاعته ، وسائر فضائله: كانت عندهم ظاهرة معروفة ، كفضل إخوانه أبي بكر وعمر وعثمان ، وغيرهم رضي الله عنهم، وإضافة إلى ذلك فإن النصوص تمنع من مبايعة خليفة مع وجود الأول ، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ : «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الاخر منهما» ، والنصوص في هذا المعنى كثيرة ، ومن المحال أن يقدم الصحابة على مخالفة ذلك.
2- قوله: إن عمرو بن العاص صالح معاوية على أن له مصر طعمة ما بقي ، فهذه القصة أخرجها ابن عساكر بسند فيه مجهول، وذكرها الذهبي بصيغة التمريض ، وبالتالي تصبح ساقطة لا اعتبار لها.
3- اتهام محمد بن أبي بكر بقتل عثمان رضي الله عنه بمشاقصه ، فهذا باطل ، وقد جاءت روايات ضعيفة في ذلك ، كما أن متونها شاذة لمخالفتها للرواية الصحيحة التي تبين أن القاتل هو رجل مصري، وقد ذكر الدكتور يحيى اليحيى عدة أسباب ترجِّح براءة محمد بن أبي بكر من دم عثمان؛ منها:
أ- أن عائشة رضي الله عنها خرجت إلى البصرة للمطالبة بقتلة عثمان ، ولو كان أخوها منهم ما حزنت عليه لما قتل.
ب- لعن علي رضي الله عنه لقتلة عثمان رضي الله عنه وتبرؤه منهم ، يقتضي عدم تقريبهم وتوليهم ، وقد ولى محمد بن أبي بكر مصر ، فلو كان منهم ما فعل ذلك.
ج- ما أخرجه ابن عساكر بسنده عن محمد بن طلحة بن مصرف قال: سمعت كنانة مولى صفية بنت حيي قال: شهدت مقتل عثمان وأنا ابن أربع عشرة سنة، قالت: هل أندى محمد بن أبي بكر شيء من دمه؟ فقال: معاذ الله ، دخل عليه ، فقال عثمان: يا بن أخي لست بصاحبي ، فخرج ، ولم يند من دمه بشيء، ويشهد لهذا ما أخرجه خليفة بن خياط والطبري بإسناد رجاله ثقات عن الحسن البصري ، وكان ممن حضر يوم الدار، أن ابن أبي بكر أخذ بلحيته ، فقال عثمان: لقد أخذت مني مأخذاً ، أو قعدت مني مقعداً ما كان أبوك ليقعده ، فخرج وتركه. وبهذا يتبين لنا براءة محمد بن أبي بكر الصديق من دم عثمان ، براءة الذئب من دم يوسف ، كما تبين أن سبب تهمته هو دخوله قبل القتل، وقد ذكر ابن كثير - رحمه الله - أنه لما كلمه عثمان رضي الله استحيى ، ورجع ، وتندم ، وغطى وجهه وحاجز دونه فلم تفد محاجزته.
د- ما ورد من تخويف معاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه) لمحمد بن أبي بكر بالمثلة ، وما ذكر من جعل محمد بن أبي بكر في جيفة حمار وإحراقه ، كل هذا لا يستقيم مع أحكام الشرع في القتلى ، فقد ورد الزجر عن التمثيل بالكفار؛ فكيف بالمسلمين؟! أخرج مسلم في صحيحه: أن رسول الله ﷺ : كان إذا أمر أميراً على جيش أو سرية ، أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ، ثم قال: اغزوا بسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلّوا، ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليداً.
وقال الشافعي: وإذا أسر المسلمون المشركين فأرادوا قتلهم ، قتلوهم بضرب الأعناق ولم يجاوزوا ذلك إلى أن يمثلوا بقطع يد ولا رجل ولا عضو ولا مفصل، ولا بقر بطن ، ولا تحريق ، ولا تغريق ، ولا شيء يعدو ما وصفت ، لأن رسول الله ﷺ نهى عن المثلة، وهل يظن بالصحابة الكرام مخالفة هذا؟! وهم كما وصفهم ابن مسعود: خير هذه الأمة ، أبرها قلوباً ، وأعمقها علماً ، وأقلها تكلفاً ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ﷺ ، ونقل دينه ، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم ، فهم أصحاب محمد ﷺ ، كانوا على الهدى المستقيم ورب الكعبة. وقال عنهم ابن أبي حاتم: ندب الله عز وجل إلى التمسك بهديهم، والجري على مناهجهم ، والسلوك لسبيلهم ، والاقتداء بهم قال: ﴿ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115].
وأصح رواية جاءت في إحراقه ما أخرجه الطبراني عن الحسن البصري قال: أخذ هذا الفاسق محمد بن أبي بكر في شعب من شعاب مصر فأدخل في جوف حمار فأحرق، وهذا الرواية مرسلة؛ إذ إن الحسن لم يشهد الحادثة ولم يسمِّ لنا من نقل عنه ، إضافة إلى أن النص لم يذكر من قام بإحراقه ، وأيضاً ما كان الحسن أن يرميه بالفسق وهو يعلم ثناء علي رضي الله عنه عليه وتفضيله له.
ه- ما ذكره من قول علي - رضي الله عنه - : الفاجر بن الفاجر؛ يقصد معاوية ، فهذا يستبعد صدوره من علي - رضي الله عنه -؛ إذ إن الخلاف مع معاوية دون أبيه ، وأبو سفيان رضي الله عنه قد أسلم وحسن إسلامه ، ومات قبل مقتل عثمان رضي الله عنه فلم يدرك الفتنة، والله تعالى يقول: ﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [فاطر: 18] ، والصحابة أعلم الناس بكتاب الله ، وأشدهم وقوفاً عند حدوده ، فكيف ينسب لهم مثل هذا الفعل.
و- ما ذكره من قول معاوية بن حديج - رضي الله عنه - لعمرو بن العاص لما طلب ابن أبي بكر ، وتلاوته لهذه الآية: ﴿ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ﴾ فهذا يعني تكفير محمد بن أبي بكر وغيره ، وهذا لم يعرف من الصحابة وما كان بينهم لم يصل إلى درجة التكفير ، وقد وضح سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه هذا بقوله: «إن ما بيننا لم يبلغ ديننا». وأيضاً فإن معاوية بن حديج من جند عمرو بن العاص رضي الله عنه ، وما كان له أن يرفض طلب قائده.
ز- ما أورده من قول محمد بن أبي بكر: إن عثمان عمل بالجور ونبذ حكم الكتاب؛ لم أقف له على أصل يثبت صحة نسبته إلى ابن أبي بكر ، أما إظهار براءة عثمان رضي الله عنه من ذلك فأشهر من أن تذكر، وقد توسعت فيها في كتابي (تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان).
يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf