اهتمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بترشيد الأسواق ومواقف متنوعة له مع الناس
الحلقة الخامسة والثلاثون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخر 1441 ه/ يناير 2020 م
حرص أمير المؤمنين علي رضي الله عنه على تفقد أحوال المتعاملين في السوق، وحملهم على التعامل بالشرع الحنيف ، وقد ثبت أن علياً رضي الله عنه كان شديد العناية بالاحتساب في مجال السوق؛ فعن الحر بن جرموز المرادي عن أبيه قال: رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يخرج من القصر وعليه قطريتان ، إزاره إلى نصف الساق ، ورداؤه مشمّر قريباً منه ، ومعه الدرة يمشي في الأسواق ويأمرهم بتقوى الله وحسن البيع ، ويقول: أوفوا الكيل والميزان ولا تنقحوا اللحم.
وعن أبي مطر قال: خرجت من المسجد ، فإذا رجل ينادي من خلفي: ارفع إزارك ، فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك ، وخذ من رأسك إن كنت مسلماً. فمشيت خلفه ، وهو مؤتزر بإزار ، مرتدٍ برداء ، ومعه الدرة ، كأنه أعرابي بدوي ، فقلت: من هذا؟ فقال لي رجل: أراك غريباً في هذا البلد ، فقلت: أجل من أهل البصرة. فقال: هذا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين. حتى انتهى إلى دار ابن أبي معيط وهو يسوق الإبل ، فقال: بيعوا ولا تحلفوا ، فإن اليمين تنفق السلعة ، وتمحق البركة ، ثم أتى أصحاب التمر ، فإذا خادمة تبكي ، فقال: ما يبكيك؟ فقالت: باعني هذا الرجل تمراً بدرهم ، فرده مواليّ فأبى أن يقبله. فقال له علي: خذ تمرك وأعطها درهماً ، فإنها ليس لها أمر ، فدفعه ، فقلت: أتدري من هذا؟ فقال: لا. فقلت: هذا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين. فوهبها تمرها ، وأعطاها درهماً. ثم قال الرجل: أحب أن ترضى عني يا أمير المؤمنين. قال: ما أرضاني عنك ، إذا وفيت الناس حقوقهم. ثم مر مجتازاً بأصحاب التمر ، فقال: يا أصحاب التمر ، أطعموا المساكين ، يَرْبُ كسبكم ، ثم مر مجتازاً - ومعه المسلمون - حتى انتهى إلى أصحاب السمك ، فقال: لا يباع في سوقنا طافي. ثم أتى دار فرات وهي سوق الكرابيس.
وعن زاذان قال: كان علي يمشي في الأسواق وحده؛ يرشد الضال ، ويعين الضعيف ، ويمر بالبياع والبقال ، فيفتح عليه القران ويقرأ: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا ﴾ [القصص: 83] ، ثم يقول: نزلت هذه الاية بأهل العدل والتواضع من الولاة ، وأهل القدرة من سائر الناس.
وأخرج الخلال بسنده عن أبي سعيد قال: كان علي أتى السوق فقال: يا أهل السوق ، اتقوا الله وإياكم والحلف ، فإن الحلف ينفق السلعة ، ويمحق البركة ، وإن التاجر فاجر إلا من أخذ الحق وأعطى الحق ، والسلام عليكم. ثم ينصرف، ثم يعود إليهم فيقول لهم مثل مقالته.
وعن أبي الصهباء قال: رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه بشط الكلأ يسأل عن الأسعار.
فهذا الإشراف المباشر من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، تضمن أموراً؛ منها:
(أ) لم تقتصر الجولات على الإشراف والتوجيه ، بل تعدَّت ذلك إلى خدمة الناس في شؤونهم ، كإرشاد الضالّ ، وإعانة الضعيف ، فمن كانت هذه حاله كانت كلماته وتوجيهاته أقرب للناس ، وأبلغ في نفوس السامعين.
(ب) تضمَّن التوجيه النصح بتقوى الله سبحانه وتعالى وحسن البيع ، وربما وعظهم بالقران الكريم ، فإن من اتقى الله سبحانه وتعالى أحسن معاملته للناس في النفع لهم ، والبعد عن مخادعتهم وغشهم.
(ج) منع الظلم في المعاملات ، وإعادة الحق إلى أهله ، لأن موالي الجارية التي اشترت التمر لم يجيزوا هذا الشراء ، وهي في نفسها ليس لها أمر.
(د) النهي عن أصناف الغش التي تحصل في الأسواق ، كنهيه عن تنقيح اللحم، وفي رواية: (نفخ اللحم).
(هـ) بيان بعض الأحكام والآداب المتعلقة في معاملات الناس ومنها:
- النهي عن الحلف في البيع ، وتعليل ذلك بأن اليمين تنفق السلعة ، وتمحق البركة ، كما ورد عن رسول الله ﷺ : الحلف مَنْفَقة للسلعة ، مَمْحَقةُ للبركة.
- الحث على إطعام المساكين وترغيبهم فيه ، لأنه زيادة في الكسب.
- النهي عن بيع السمك الطافي، ولعل ذلك حتى لا يختلط مع المصيد الطري.
كان أمير المؤمنين يتفقد أمور التجار في حضرته ، ويأمر ولاته بذلك في الولايات، ويثني على المحسن منهم ، أما من يقترف خطيئة بعد النهي ، فينكل به ، ويعاقبه من غير إسراف.
وكانت له بعض الإرشادات النافعة والنواهي الزاجرة التي تحث الناس على مكارم الأخلاق ، والالتزام بأحكام الشريعة وإليك بعض منها:
1 - إنكاره على مزاحمة النساء الرجال في الأسواق:
أنكر أمير المؤمنين علي على أناس لا يمنعون نساءهم من الخروج إلى الأسواق مزاحمات الكفار ، فقال لهم: ألا تستحيون أو تغارون؟! فإنه بلغني أن نساءكم يخرجن في الأسواق يزاحمن العلوج.
2- لا تردوا قليل الربح فتحرموا كثيره:
كان علي رضي الله عنه يدخل السوق وبيده الدرة ، وعليه عباء ويقول: يا أيها التجار ، خذوا الحق ، وأعطوا الحق تسلموا ، لا تردوا قليل الربح فتحرموا كثيره. ونظر إلى رجل يقص ، فقال له: أتقص ونحن قريب عهد برسول الله ﷺ ، لا سألنك فإن أجبتني وإلا جعفتك بهذه الدرة ، ما ثبات الدين وما زواله؟ قال: أما ثباته فالورع ، وأما زواله فالطمع ، قال: أحسنت؛ قص فمثلك من يقص.
3- خطورة التجارة قبل التفقه في أحكامها:
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من اتجر قبل أن يتفقه في الدين فقد ارتطم في الربا ثم ارتطم ثم ارتطم.
وقد كان الفاروق رضي الله عنه يضرب بالدرة من يقعد في السوق وهو لا يعرف الأحكام ، ويقول: لا يقعد في سوقنا من لا يعرف الربا. وكان يقول: لا يبيع في سوقنا إلا من تفقه ، وإلا أكل الربا شاء أو أبى.
فكل شؤون الحكم كانت محل اهتمام الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم لا يطغى جانب على جانب ، فلا يختل الحال بين يدي الحاكم ، فقد كانوا يقعّدون للتجارة القواعد التي تصلح للأسواق ، وتنظم التداول ، وتضمن الثبات والاستقرار ، فلا غبن ، ولا غش ، ولا احتكار ، ولا أسواق سوداء ولا زرقاء ، ولا جهل بما يجوز وما لا يجوز في عالم التجارة ، ويمكن اليوم تفقيه التجار من خلال دورات في المساجد خصوصاً التي في قلب الأسواق ، ولا بد من توجيه الخطاب للتجار من خلال كتيبات خاصة بهم ، والأشرطة الصوتية المختصرة التي تبين أحكام التجارة ، وتبسط المسائل المتعلقة بها والتي تبرز ما يلي:
* نماذج مختارة من التجار المسلمين المخلصين لدينهم الذين نصروا الله ورسوله بأموالهم.
* بيان أهمية الاخرة بالنسبة لهم؛ لكي يجمعوا بين خيري الدنيا والاخرة.
وعلى العلماء وطلاب العلم واجب كبير في تفقيه هذه الشريحة الكبيرة في المجتمعات ، وعلى الحركات الإسلامية أن لا تنسى واجبها في تعليم أبنائها من التجار وغيرهم هذا الفقه العزيز.
4- من سبق إلى موضع فهو أحق به:
أثيرت قضية المحلّ التجاري في السوق ، وقضى علي بن أبي طالب رضي الله عنه في سوق الكوفة: أن من سبق إلى موضع فهو أحق به ما دام فيه ذلك اليوم، فإذا انتقل عنه ، فهو لمن حلَّ فيه ، قال الأصبع بن نباتة: خرجت مع علي بن أبي طالب إلى السوق ، فرأى أهل السوق قد حازوا أمكنتهم ، فقال علي: ما هذا؟ فقالوا: أهل السوق قد حازوا أمكنتهم، فقال: ليس ذلـك لهم ، سوق المسلمين كَمصلَّى المسلمين ، من سبق إلى شيء فهو له يومه حتى يدعه ، وظلَّت هذه القاعدة متَّبعة حتى ولاية المغيرة بن شعبة ، فلمّا كانت ولايـة زياد بن أبيـه عليها عام 49 هـ جعل من قعـد في مكان فهو أحق بـه ما دام فيه.
5- المحتكر عاصٍ ملعون:
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في احتكار الطعام: جالب الطعام مرزوق ، والمحتكر عاصٍ ملعون. وقد أمر أمير المؤمنين بتحريق الطعام المحتكر ، فقد أخرج الحافظ ابن أبي شيبة عن الحكم قال: أخبر علي برجل احتكر طعاماً بمئة ألف، فأمر به أن يحرق.
وقد ذهب ابن قدامة أن الاحتكار المحرم ما اجتمعت فيه شروط ثلاثة هي:
(أ) أن يشتري؛ فلو جلب شيئاً ، أو أدخل من غلته شيئاً فادخره؛ لم يكن محتكراً، وهذا واضح من قول علي رضي الله عنه.
(ب) أن يكون المشترى قوتاً.
(ج) أن يضيق على الناس بشرائه.
وترهيب أمير المؤمنين علي من الاحتكار مبني على قول رسول الله ﷺ : «لا يحتكر إلا خاطئ».
6- الخسارة على المال والربح على ما اصطلحوا عليه:
بيّن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب شيئاً من أحكام المضاربة وهي: نوع من أنواع المعاملات بين الناس ، وهي دفع مال معلوم لمن يتَّجر به ببعض ربحه ، فقال رضي الله عنه: الوضيعة على المال ، والربح على ما اصطلحوا عليه. والوضيعة: تعني الخسران في الشركة وهي على المال ، أي: على كل واعد بقدر ماله ، فإن كان مالهما متساوياً في القدر فالخسران بينهما نصفين ، وإن كان أثلاثاً فالوضيعة أثلاثاً.
7- تحريقه قرية كانت تباع فيها الخمر:
كان رضي الله عنه شديد الإنكار على من باع خمراً ، فقد أمر بتحريق قرية كانت تباع فيها الخمر ، فقد روى الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام: أن علياً بن أبي طالب رضي الله عنه نظر إلى زرارة ، فقال: ما هذه القرية؟ قالوا: قرية تدعى زرارة ، يلحم فيها ، تباع فيها الخمر ، فقام يمشي حتى أتاها ، فقال: عليَّ بالنيران ، اضرموها فيها ، فإن الخبيث يأكل بعضه بعضاً ، قال (الراوي): فاحترقت من غربيها حتى بلغت بستان خواستا بن جبرونا.
8- احتسابه فيما يتعلق باللباس والهيئة:
عن أبي مطر قال: خرجت من المسجد ، فإذا رجل ينادي خلفي: ارفع إزارك فإنه أبقى لثوبك ، وأتقى لك ، وخذ من شعرك إن كنت مسلماً.
9- حبسه أهل الشر والفساد:
كان رضي الله عنه يلاحق أهل الشر والفساد ، فإذا وجد أحداً منهم حبسه ، فقد روى القاضي أبو يوسف عن عبد الملك بن عمير ، قال: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ إذا كان في القبيلة أو القوم الرجل الداعر حبسه ، فإن كان له مال أنفق عليه من ماله ، وإن لم يكن له مال أنفق عليه من بيت مال المسلمين. وقال: يحبس عنهم شره ويُنفق عليه من بيت مالهم.
10- الترهيب من عدم الإنفاق:
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: بشر مال البخيل بحادث أو وارث، وقال: البخيل مستعجل الفقر ، يعيش في الدنيا عيش الفقراء ، ويحاسب في العقبى حساب الأغنياء.
11- مناداته للصلاة:
كان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه شديد الاهتمام بأمر الصلاة؛ فقد كان يمر في الطريق منادياً: الصلاة ، الصلاة ، كان يوقظ بذلك الناس لصلاة الفجر ، يحدثنا الحسن رضي الله عنه عن خروجه في اليوم الذي طُعِن فيه من بيته حيث يقول: فلما خرج من الباب نادى: أيها الناس! الصلاة ، الصلاة. وكذلك كان يصنع كل يوم ، ومعه درته ، فاعترضه الرجلان ، فضربه ابن ملجم على دماغه.
12- الاهتمام بالطرق العامة:
كان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يأمر بالمثاعب، والكنف، تقطع من طريق المسلمين.
13- ظهور بدعة القصص ومحاربة أمير المؤمنين علي لها:
حدثت بدعة القُصَّاص في عهد علي رضي الله عنه ، فأنكرها الصحابة والتابعون، فقد أخرج محمد بن وضّاح عن موسى بن معاوية قال: حدثنا ابن مهدي عن سفيان ، عن عبيد الله بن نافع قال: لم يقص على عهد النبي ﷺ ، ولا أبي بكر ، ولا عمر ، ولا عثمان ، وأول ما كان القصص حين كانت الفتنة، والقصاص هم: الوعاظ الذين يعقدون مجالس للوعظ تضاهي مجالس العلم ، يعظون الناس فيها بالحكايات والإسرائيليات ونحوها ، مما لا أصل له أو موضوع ، أو مما لا تدركه عقول العامة ، وقد منعهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، لأنهم أخذوا يحدثون الناس بالغرائب والمتشابهات ، وما لا تدركه عقولهم وما لا يعرفون. وأذن أمير المؤمنين لمن كان متمكناً من العلم الشرعي بأن يقصَّ على الناس.
كانت حياة أمير المؤمنين في المجتمع دعوة للتوحيد ومحاربة للشرك ، وكان حريصاً على تعليم الناس أسماء الله وصفاته وربط قلوبهم به وحده ، وتذكيرهم بنعم الله وحضهم على شكرها ، وقد كان رضي الله عنه مثابراً على محو اثار الجاهلية ، متخذاً كافة الوسائل الدعوية من خطابة ووعظ ، وشعر وحكم ، ولم يعش رضي الله عنه بعيداً عن الناس ، بل عاش بينهم بأخلاقه وسمته وعلمه رضي الله عنه.
يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf