الثلاثاء

1446-07-07

|

2025-1-7

المؤسسة المالية في عهد علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)

الحلقة السابعة والثلاثون

بقلم الدكتور علي محمد محمد الصلابي

جمادى الآخر 1441 ه/ يناير 2020م

في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يحدث تغير يذكر في السياسة المالية للدولة الإسلامية ، إلا أن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه رجع إلى ما كان عليه أبو بكر الصديق في التسوية في العطاء؛ فلم يفضل أحداً على أحد ، فأعطى الموالي كما أعطى السادة.
وكان الخراج في بعض الأمصار موكولاً إلى الولاة أنفسهم ، ففي مصر كان قيس بن سعد بن عبادة - الوالي العامّ - مسؤولاً عن الخراج فيها ، وكذلك حينما بعث علي رضي الله عنه الأشتر النخعي على مصر كان خطابه له ما يوحي أنه مع ولايته العامة كان مسؤولاً عن الخراج بما يصلح أهله ، فإن صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم ، ولا صلاح إلا بهم، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله ، وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج ، لأن ذلك يدرك بالعمارة ، ومن طلب الخراج بغير عمارة ، أضر بالبلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلاً ، فإن شكوا ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب ، أو إحالة أرض اغتمرها غرق ، أو أجحف بها عطش ، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم.. فإن العمران محتمل ما حملته ، وإنما خراب الأرض من إعواز أهلها وإنما إعوازها أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع ، وسوء ظنهم بالبقاء ، وقلة انتفاعهم بالعبر، فقد كانت نظرة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه إلى الخراج بما يتعدى الجباية إلى المسألة الاقتصادية برمتها ، حيث يشكل الخراج المصدر الأساسي لها في ذلك الوقت ، وقد اشتهر عن علي رضي الله عنه تشديده في مراقبة عماله في جميع النواحي ، وكان الخراج والشؤون المالية من الأمور المهمة التي كان يدقق فيها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فكان يبعث العيون والأرصاد ليعلم أحوالهم.
وقد كان لولاة البلدان صلاحيات عامة في المصروفات من ولاياتهم وبيوت أموالها ، فالولاة الذين كانوا يباشرون بيت المال وعمال الخراج بأنفسهم في عهد الخلفاء عموماً كانوا ينفقون من الأموال التي لديهم في الأوجه الشرعية في مصالح الولاية ، فكانوا يستخدمون هذه الأموال في شؤون الجهاد والفتوح؛ من إعداد للسلاح والدواب ومرتبات الجند ، وغير ذلك من أوجه الجهاد ، كما كان الولاة يقومون بصرف نفقات العمال والموظفين في الولاية كافة ، إلى أنهم كانوا يقومون ببعض الإصلاحات من بناء للجسور وحفر للقنوات والعيون والأنهار ، وكان ذلك يستدعي الصرف مما يجبونه من ولاياتهم.
وفي الأوقات التي تعزل فيها ولاية الخراج أو بيت المال عن الولاية العامة؛ فإن الولاة بحكم إشرافهم العام على الولاية يطلبون من عمال الخراج الإنفاق على هذه الإصلاحات ، أو يقوم الولاة بتعيين عمال خاصين بهذه المشاريع ، وتصرف نفقات العمل أو التجهيز من دخل الولاية عن طريق عمال الخراج إذا كانوا مستقلين ، وهكذا فإنه حتى لو عزلت مهمة (الجباية) عن الوالي - كما عبّر عنها بعض الباحثين- فإن النفقات مع ذلك كانت تأخذ طريقها بواسطة الولاة في كثير من الأحيان ، سواء للجهاد أو التعمير.
ولقد نبه بعض الفقهاء إلى أن على الولاة إنفاق الأموال في مصالح المسلمين ، وعدم تجميدها ، إذ إن تجميد الأموال التي أخذت بحقها وعدم صرفها في مصالح المسلمين يوازي الظلم في جمعها ، فعدوا التجميد للأموال العامة من باب الظلم والتقصير من جانب الولاة.
وقد كانت الأمصار والولايات أحق بأموالها وجباياتها من غيرها ، فكان الولاة لا يعملون على ترحيل الأموال عن مناطقهم إلى العاصمة في المدينة أو الكوفة فيما بعد ، إلا بعد أن يسددوا حاجة ولاياتهم من النفقات.
ولاشك أن ما قام به الخلفاء الراشدون خصوصاً في عهد عمر من تنظيم دقيق للشؤون المالية في الولايات بما فيها من جباية مصادر الدخل أو الواردات العامة للدولة ، إضافة إلى النفقات العامة؛ يعتبر تنظيماً جديداً ، ولم يمنعهم ذلك من الاستفادة من خبرات من سبقوهم؛ حيث استحدثوا الدواوين ، وضبطوا أمورهم المالية في مختلف جوانبها ، وقد تحدثت عن المؤسسة المالية في عهد الفاروق رضي الله عنه بنوع من التفصيل ، فمن أراد المزيد فليرجع إليها في كتابي (فصل الخطاب في سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب).
وقد حاول بعض المستشرقين وفيهم فيليب حتي في موسوعته عن تاريخ العرب أن يقلل من شأن ما قام به الخلفاء الراشدون من تنظيم للأموال في الدولة عموماً ، فقال: والحقيقة أن الأخبار تعزو إلى عمر كثيراً مما أحدثته السنون التي لحقت عهده من إنشاءات دعت إليها التجارب والأحوال الجديدة ، وأن ما جاء به الخلفاء وعمال الأمصار الأول في صدد الخراج والجزية ، وأصول جبايتها وسياسة أموال الدولة لم يكن بالشيء الخطير ، فلقد أبقى الإسلام أساس الحكم وأنظمة الإدارة البيزنطية على ما كانت عليه في سورية ومصر ، ولم يفكر أرباب الأمر في الأمصار الفارسية أن يبدلوا أصول الحكومة المحلية ، ولم يأخذ الفاتحون الضرائب إلا طبقاً لطبيعة البلاد ، وبمقتضى الأصول المرعية في العهد المنقرض ، سواء أكان بيزنطياً أو فارسياً ، ولم يعتبروا في ذلك إذا كانت قد دانت لهم صلحاً أو أنهم فتحوها عنوة ، ولا اهتدوا بتشريع أوجده عمر.
والكاتب هنا قد تجاهل النصوص التي وردت في استنباط عمر للخراج على الأراضي المفتوحة عنوة ، وكيف أن النظام قد لقي مجادلة ومعارضة من بعض الصحابة إلى أن استقر الأمر عليه ، واتفق الجميع على تنفيذه.
وقد تولى محمد ضياء الدين الريس الرد على هؤلاء المستشرقين فيما قالوه من خلال نصوص تاريخية موثقة ، يخلص منها إلى أن هذه الدعوى لا أساس لها من الصحة ، وأن المسلمين وفقهائهم كانوا يفرقون بين ما أحدثه عمر ، وما أحدثه غيره ، بل ويفصلون تفصيلاً دقيقاً في قضايا الخراج في عهد عمر.
وهذه عادة المستشرقين وأذنابهم من الطعن والتنقص في عظماء الإسلام ، ولكن المشكلة أنهم يجدون من الأمة من ينظر لهم بإجلال وتقدير. وبسبب الحروب والنزاعات الداخلية تأثرت دولة الخلافة في عهد علي في مؤسساتها المتعددة ، كالمالية، والعسكرية ، ومنصب الخلافة؛ مما ساهم في زوال الخلافة الراشدة ، وسيأتي تفصيل ذلك في محلِّه بإذن الله.

يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022