المؤسسة القضائية في عهد علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)
الحلقة الثامنة والثلاثون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخر 1441 ه/ يناير 2020 م
ولي الخلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، واقترنت توليته التي نجمت عن قتل عثمان ، وما تبعها من أحداث شقت صف المسلمين ، وفرقت كلمتهم ، وأصبحت مواجهة تلك الأحداث لرأب الصدع شغله الشاغل ، ولم يكن هذا الصراع الدامي في عهد علي رضي الله عنه مانعاً له من أن يعطي للقضاء نصيباً من الاهتمام به وتنظيمه ، ويدل على هذا رسالته التي أرسلها إلى الأشتر النخعي واليه على مصر ، حين كانت تابعة لحكمه ، وفيها يقول:
ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ، ولا تحكمه الخصوم ، ولا يتمادى في الزلة ، ولا يحصر في الفيء إلى الحق إذا عرفه ، ولا تستشرف نفسه على طمع ، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه ، أوقَفُهُمْ في الشبهات ، وآخَذُهم بالحجج ، وأقَلُّهم تبرماً بمراجعة الخصوم ، وأصبرهم على كشف الأمور ، وأصرمهم على اتضاح الحكم ، ممن لا يزدهيه إطراء ، ولا يستميله إغراء ، وأولئك قليل ، ثم أكثر من تعاهد قضائه ، وأفسح له في البذل ما يزيل علته ، وتقل معه حاجته إلى الناس ، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ، ليأمن بذلك اغتيال الرجال عندك.
في هذه الرسالة أيضاً: أنصف الله ، وأنصف الناس من نفسك ، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتك ، فإنك إلا تفعل تَظْلِم ، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده ، ومن خاصمه الله أدحض حجته ، وكان لله حرباً ، حتى ينزِع أو يتوب. وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله ، وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم ، فإن الله سميع دعوة المضطهدين ، وهو للظالمين بالمرصاد.
ونلاحظ: أن هذا العهد تضمن صفات القاضي ، كما تضمن حقوقه وواجباته ، والذي يتأمل في الذي كتبه أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لواليه على مصر، يعجب لهذا العهد الذي كتب عام 40 هـ ، أو حولها ، في وقت لم يكن للعرب فيه أي اتصال بالحضارات الأخرى بعد ، وكيف كان العقل المسلم الذي ينظر بنور الله قادراً على تفتيق المعاني ، ووضع أمور الدولة في نصابها ، على خير ما نرى اليوم في الدساتير والقوانين، وهذه النظرات من أمير المؤمنين علي في إنصاف الرعية ، وتجنب ظلمها؛ كانت فيما بعد عماداً في تنظيم ولاية المظالم.
أولاً: الخطة القضائية والتشريعية في عهد الخلفاء الراشدين والمصادر التي اعتمدها الصحابة في ذلك العهد:
قُصِد بهذه الخطة: الطريقة التي سلكها الخلفاء الراشدون والصحابة الكرام وهم يبحثون عن الأحكام الشرعية لما يحدث لهم من وقائع وقضايا في حياتهم العملية، وهي طريقة هدتهم إليها صحبتهم للرسول الكريم ﷺ ، وتدريبهم على يديه ، لذلك كان اتباع هذه الطريقة حقاً على من جاء بعدهم ، لاحظنا من خلال دراستنا لعهد الخلفاء الراشدين في كتبنا عن أبي بكر وعمر وعثمان ، ودراستنا الحالية لعهد علي رضي الله عنهم ، أنهم كانوا كلما عرض لهم حادث ، أو قضاء لجؤوا إلى كتاب الله أولاً ، فإن وجدوا فيه الحكم الشرعي للنازلة حسم الأمر ، وإلا رجعوا إلى سنة رسول الله ﷺ ، حتى إذا لم يجدوا فيها حلاً انتقلوا إلى الرأي بمعناه الواسع ، وقد لاحظنا أن هذا الرأي كان في أول الأمر جماعياً في غالب الأحيان ، خصوصاً إذا انصبَّ موضوعه على أمر من أمور الدولة ذات الصبغة العامة.
وقد ساعد على ذلك أن كبار الصحابة كانوا ما زالوا مستقرين بالمدينة يسهل جمعهم وأخذ رأيهم ، وقد انبثق عن رأيهم الجماعي ما اصطلح على تسميته فيما بعد (الإجماع) ، وقد كانوا يستعملون القياس ، والمصلحة هي مناط التشريع ، وخير دليل على هذه الخطة ما قاله ميمون بن مهران؛ حيث قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله ، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به ، وإن لم يكن في الكتاب ، وعلم من رسول الله ﷺ في ذلك الأمر سنة قضى بها ، فإن أعياه أن يجد فيها سنة عن رسول الله ﷺ ؛ جمع رؤوس الناس وخيرهم ، فاستشارهم ، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به ، وكان عمر يفعل ذلك؛ فإن أعياه أن يجد في القران والسنة نظر: هل كان فيه لأبي بكر قضاء ، فإن وجد أبا بكر قضى فيه بقضاء قضى به ، وإلا دعا رؤوس المسلمين ، فإن أجمعوا على شيء قضى به.
وعن ابن مسعود قال: فمن عرض عليه قضاء بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله، فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه ﷺ ؛ فليقض بما قضى به الصالحون ، فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله ولا قضى به نبيه ﷺ ولا قضى به الصالحون؛ فليجتهد رأيه ، ولا يقل: إني أرى وإني أخاف ، فإن الحلال بيِّن ، والحرام بيِّن ، وبين ذلك مشتبهات؛ فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك.
وقد بينا في حديثنا عن المرجعية العليا لدولة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حرصه على السير على نفس المنهج.
ويتبين من هذه الاثار أن الصحابة كانوا يعتمدون في خطتهم التشريعية والقضائية على الكتاب والسنة قبل الانتقال إلى الرأي بمعناه الواسع.
ونحب أن نقف عند هذه الاثار لنستخلص منها بعض النتائج:
1- اتفاق الصحابة حول هذه الخطة؛ إذ كانوا يرتبون مراحل اجتهادهم وفقههم مبتدئين بكتاب الله أولاً ، ثم الانتقال إلى سنة رسول الله ﷺ قبل استخدام الرأي الجماعي ، ثم القياس.
2- كان للسابقة القضائية دور هام في هذه الخطة ، وهو دور جعلها تلي النصوص مباشرة.
3- ومما يلفت النظر في هذه الخطة: أن أبا بكر وعمر على الخصوص ، لم يكونا يستشيران إلا من كان موجوداً من الصحابة بالمدينة ، ولم نطلع على نص يدل على أنهما كانا يستدعيان من كان غائباً من الصحابة قصد استشارته في أمر من الأمور الاجتهادية ، مما يدل على أن الإجماع كان ينعقد باتفاق من حضر من الصحابة بصرف النظر عن رأي من كان غائباً.
ويتَّضح لنا من خلال ما سبق من خطة الخلفاء الراشدين والصحابة في التشريع والقضاء: أنهم كانوا كلما حزبهم أمر ، أو عرضت عليهم قضية بادروا إلى القران أولاً ، حتى إذا لم يجدوا فيه حلاً رجعوا إلى السنة ، فإذا لم يجدوا الحل ، استعملوا الرأي بمعناه الواسع ، سواء كان جماعياً أو فردياً ، وقد انبثق عن آرائهم الجماعية ما سمي بالإجماع ، وهو مصدر طارئ لم يكن له وجود في عصر الرسالة ، وقد صُنِّف هذا المصدر ثالث المصادر بعد الكتاب والسنة.
وبما أنه لم يكن من الميسور دائماً جمع الصحابة بقصد التشاور والاتفاق على حكم معين لأسباب كثيرة ، فقد لجأ الصحابة لاستعمال الرأي بصورة فردية في الفتوى والقضاء ، وقد اعتمدوا الكتاب والسنة في آرائهم الفردية والجماعية ، وعلى الفهم العميق لمقاصد الشريعة الهادفة إلى دفع المفاسد وجلب المصالح ، واستوحوا الأحكام للحوادث التي لا نص فيها من روح النصوص ، ولم يقضوا مع ظواهرها.
وقد استعملوا القياس منذ عهد الرسول ﷺ ؛ وهو المصدر الرابع من مصادر التشريع يأتي بعد الإجماع في المرتبة ، وإن كان سابقاً عليه في الوجود.
وهذه هي المصادر التي اعتمدها الخلفاء الراشدون والصحابة الكرام:
1- القران الكريم: وهو العمدة والأساس ، وينبوع الحكمة ، واية الرسالة ، ونور الأبصار والبصائر ، وإنه لا طريق إلى الله سواه.
2- السنة: وتطلق على ما جاء منقولاً عن النبي ﷺ بطرق صحيحة.
3- الإجماع: ولا بد أن يكون مستنداً إلى نص من كتاب أو سنة أو قياس.
4- القياس.
وكان الخلفاء الراشدون والصحابة الكرام يشرعون أحكاماً لحوادث بناء على المصلحة الواجب مراعاتها ، أو دفع المفسدة ، فكان اجتهادهم فيما لا نص فيه فسيحاً مجاله ، يتسع لحاجات الناس ومصالحهم.
ثانياً: ميزات القضاء في العهد الراشدي:
إن القضاء في العهد الراشدي يمثل الدرجة الثانية بعد القضاء في العهد النبوي الذي يمثل الجذور والأساس ، وجاء القضاء في العهد الراشدي يمثل البناء الكامل، والتنظيم الشامل من جهة ، ويعطي الصورة البراقة للقضاء الإسلامي من جهة ثانية ، ويعتبر انموذجاً ومثلاً وقدوة ، وتحت محط الأنظار طوال العهود التالية.
ويمكننا أن نشير باختصار وإيجاز إلى أهم ميزات القضاء في العهد الراشدي ، وهي:
1- كان القضاء في العهد الراشدي امتداداً لصورة القضاء في العهد النبوي ، بالالتزام به ، والتأسي بمنهجه ، وانتشار التربية الدينية ، والارتباط بالإيمان والعقيدة ، والاعتماد على الوازع الديني ، والبساطة في سير الدعوى ، واختصار الإجراءات القضائية ، وقلة الدعاوى والخصومات إذا قورنت باتساع الدولة ، وتعدد الشعوب والأمصار ، وحسن اختيار القضاة ، وتوفر الشروط الكاملة فيهم.
2- يعتبر القضاء في العهد الراشدي صورة صحيحة وصادقة وسليمة للقضاء الإسلامي ، ولذلك صار موئل الباحثين ، ومحط الأنظار للفقهاء ، وصارت الأحكام القضائية والتنظيم القضائي في العهد الراشدي مصدراً للأحكام الشرعية، والاجتهادات القضائية ، والآراء الفقهية في مختلف العصور ، وهذا بالاتفاق ولو أدبياً ، عند جميع العلماء والمذاهب ، مع وجود الاختلاف في التدقيق والجزئيات والتفاصيل ، ومن ذلك اختلاف الأئمة في حجية قول الصحابي وعدم حجيته ، كما هو مقرر في علم أصول الفقه ، وعلم مصطلح الحديث ، وتاريخ التشريع ، وسيأتي الحديث عن ذلك بإذن الله.
3- مارس الخلفاء الراشدون وبعض ولاة الأمصار ، النظر في المنازعات وتولي القضاء بجانب الولاية ، كما أولوا الاهتمام الكامل لتولي قضاء المظالم وقضاء الحسبة.
4- عين الخلفاء الراشدون في أكثر المدن والأقطار الإسلامية قضاة لممارسة القضاء خاصة ، دون بقية السلطات ، وظهر بشكل مبدئي - ولأول مرة - فصل السلطة القضائية عن بقية السلطات ، وأن الولاة لا سلطان لهم على القضاة في المدن الكبرى التي تم فيها تعيين القضاة بجانب الولاة ، بينما يتولى الولاة في بقية المدن والأمصار القضاء والولاية معاً، وهم تحت بصر ومحاسبة الخليفة الراشد.
5- كان القضاة في العهد الراشدي مجتهدين ، فينظرون في نصوص القران والسنة مباشرة ، ويعملون فيها بما يؤدي إليه اجتهادهم ، فإن لم يجدوا فيها حكم الواقعة اجتهدوا رأيهم بعد الاستئناس بما قضى به أسلافهم ، واستشارة العلماء المعاصرين لهم ، ثم أصدروا الحكم الذي وصل إليه اجتهادهم.
6- ظهرت مصادر جديدة للقضاء في العهد الراشدي نتيجة للمنهج السابق الذي التزموه ، وصارت الأحكام القضائية هي: القران ، والسنة الشريفة ، الإجماع ، القياس ، السوابق القضائية ، الرأي الاجتهادي ، مع المشورة.
7- تم التنظيم الإداري الدقيق للقضاء في العهد الراشدي ، وأرسل عمر وعلي رضي الله عنهما الرسائل الخالدة والمشهورة إلى القضاة والولاة ، لتنظيم شؤون القضاء ، وبيان الدستور والمنهج ، وتبع ذلك متابعة الخلفاء للقضاة ، ومراقبتهم، وتبادل الرأي معهم ، والسؤال عن أخبارهم وأقضيتهم ، وطلب مراجعتهم في القضايا المهمة والمعضلة والخطيرة ، وكانت هذه الميزة في أوجها في عهد عمر رضي الله عنه ، وخفَّت قليلاً في عهد عثمان ، وضعفت في عهد علي لاضطراب الأمور ، وكثرة الفتن ، ونشوب الحروب الداخلية ، وظهور بذرة الاستقلال الذاتي في الشام وما يتبعها مع تعدد السلطة.
8- كانت اختصاصات القاضي في الغالب عامة وشاملة لجميع الوقائع ، وكانت صلاحية القاضي واسعة ، ولـه الحرية الكاملة في الإجراءات ولكن ظهر في هـذا العهد نواة الاختصاص الموضوعي والنوعي للقضـاة ، وتم تعيين قضاة للنظر في القضايا الصغيرة والبسيطة ، كما تم تعيين قضاة للأحداث الجسيمة والوقائع الكبيرة ، وبقي معظم الخلفاءِ - غالباً - يتولون النظر في الجنايات والحدود ، وقام بهذا الشأن بعض الولاة أيضاً ، كما ظهر في هذا العهد تعدد القضاة في وقت واحد في المدن الكبرى والأقطار الواسعة كالمدينة المنورة ، والكوفة ، والبصرة ، واليمن ، كما ظهر قاضٍ للعسكر لأول مرة.
9- تأكد في هذا العهد ما كان في العهد النبوي من مراقبة الأحكام القضائية ، وإقرار ما وافق القران والسنة ، وما صدر عن الرأي والاجتهاد ، لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله ، وينقض ما خالف القران والسنة.
10- استحدث في العهد الراشدي رواتب القضاة بشكل منظم ، مع التوسعة على القضاة ، وأقيمت دار للقضاء ، وأنشئ السجن للحبس ، كما ظهرَ ولأول مرةً امتناع كبار الصحابة عن القضاء ، كابن عمر الذي طلبه عثمان فامتنع ، وكعب بن يسار بن ضَنَّة الذي طلبه عمر لتوليته القضاء بمصر فأبى أن يقبل ، وقيل: قبله أياماً ، ثم اعتزل.
11- كانت إجراءات التقاضي في العهد الراشدي بسيطة وسهلة وقليلة ، بدءاً من سماع الدعوى ، إلى إقامة البينة والإثبات والحجج ، إلى إصدار الحكم فيها ، إلى التنفيذ ، وكانت اداب القضاء مرعية في حماية الضعيف ، ونصرة المظلوم، والمساواة بين الخصوم ، وإقامة الحق والشرع على جميع الناس ، ولو كان الحكم على الخليفة أو الأمير أو الوالي ، وكان القاضي في الغالب يتولى تنفيذ الأحكام ، إن لم ينفذها الأطراف طوعاً واختياراً ، وكان التنفيذ عقب صدور الحكم فوراً ، ولكن ظهرت في العهد الراشدي أمور تنظيمية جديدة ، فوجد كاتب للقاضي في عهد عمر ، وظهرت الشرطة والأعوان لمساعدة القاضي والوالي في عهد عثمان ، وتطور التحقيق الجنائي على عهد سيدنا علي رضي الله عنه ، وفرق بين الشهود للوصول إلى الحق وكشف الواقع حتى صار مضرب المثل.
ثالثاً: أشهر قضاة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
أقرَّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بعض القضاة الذين ثبتت جدارتهم ، وكانوا على القضاء قبله ، وعين قضاة وولاة اخرين؛ منهم:
1- شريح بن الحارث: الذي كان على قضاء الكوفة ، وأقره علي عليها ، وكان يرزقه كل شهر خمسمئة درهم.
2- أبو موسى الأشعري: الذي ولاه عثمان القضاء بالكوفة، فأقره علي ، ثم عزله.
3- عبيد الله بن مسعود: الوالي والقاضي باليمن.
4- عثمان بن حنيف: على البصرة.
5- قيس بن سعد: على مصر ، وكان شهد فتح مصر ، واختطَّ بها داراً ، ووليها لعلي ، ثم عزله بمحمد بن أبي بكر.
6- عمارة بن شهاب: على الكوفة.
7- قثم بن العباس: على المدينة المنورة، سنة 37 هـ على مكة والطائف.
8- جعدة بن هبيرة المخزومي ، ثم خليد بن قرة اليربوعي: على خراسان.
9- عبد الله بن عباس: كان والياً لعلي على البصرة ، وكان أبو الأسود الدؤلي على قضائها ، وفي قول: ولَّى عبد الله بن عباس على القضاء في البصرة عبد الرحمن بن يزيد الحُدّاني ، وكان أخا المهلب بن أبي صفرة لأمه ، وبقي قاضياً عليها أيام علي بن أبي طالب ، وطائفة من عمل معاوية حتى قدم زياد فعزله، وقال أبو عبيدة: كان ابن عباس يفتي الناس ويحكم بينهم، وإذا خرج ابن عباس عن البصرة استخلف أبا الأسود ، فكان هو المفتي ، والقاضي يومئذ يدعى المفتي ، فلم يزل كذلك حتى قتل علي سنة أربعين ، ونقل عن أبي الأسود أقضية طريفة ، لما خرج أمير المؤمنين علي من المدينة إلى البصرة ولّى عليها عبد الله بن عباس.
10- سعيد بن نمران الهمذاني: الذي عينه علي لما قدم الكوفة ، ثم عزله ، ثم استقضاه مصعب بن الزبير على الكوفة، فقضى ثلاث سنوات ، ثم عين ابن الزبير عبد الله بن عتبة بن مسعود.
11- عبيدة السلماني: محمد بن حمزة الذي عينه علي على قضاء الكوفة بعد عزل سعيد الهمذاني ، وقال له: اقضوا كما كنتم تقضون ، ثم عزله وعين شريحاً، وقال الشعبي: كان شريح أعلم الناس بالقضاء ، وكان عبيدة يوازي شريحاً في القضاء ، وله أقضية طريفة ، وكان من علماء الكوفة المشهورين ، وكان شريح يستشيره ويرجع إليه.
12- محمد بن يزيد بن خليدة الشيباني: عينه علي قاضياً على الكوفة ، وله أقضية فيها.
وقد كان قضاة علي في الأمصار هم ولاته على البلدان المختلفة؛ لأن ولايتهم كانت عامة تشمل الحكم والإدارة وإقامة الحدود والإمامة والقضاء وجباية الصدقات وغيرها، وكان علي رضي الله عنه يطلب من ولاته التحري في تعيين القضاة، مما يدل على أنه خوَّل لهم تعيين القضاة في البلدان التابعة لولاياتهم ، مع أن الولاةَ - في الغالب - هم قضاة الأمصار التي يقيمون فيها ، إلا أنه ورد ذكر أسماء عدد من قضاة الأمصار في عهد علي كما مر معنا ، ويبدو أن ولاة الأمصار كان لهم الحق في النظر في المظالم التي يرفعها الناس ضد أحكام القضاء ، وبالدرجة الأولى التي حكم فيها قضاة ولوا من قبلهم وليس من قبل الخليفة ، كما كان لهم النظر في المظالم الأخرى من قبل قضاة البلدان المعينين من قبل الخليفة بحكم عموم ولايتهم، إلا أنهم كانوا يرجعون إلى الخليفة في مثل هذه القضايا ، ومن المعروف أن الخلفاء كانوا يفتحون أبوابهم لمن يجأر بالشكوى؛ سواء كانت الشكوى ضد الولاة أو ضد القضاة أو عمال الخراج أو غيرهم.
رابعاً: الأسلوب القضائي عند أمير المؤمنين علي ، ونظرته للأحكام الصادرة قبله ، والمؤهلين للقضاء ، ومكانة ومجانية الحصول على الحكم:
1- إبقاؤه على أسلوب القضاء:
يظهر أن علياً بن أبي طالب رضي الله عنه كان ينوي إدخال بعض التعديلات في أسلوب القضاء وأصول المحاكمات بما يتناسب مع التطورات الجديدة التي طرأت على المجتمع، إلا أنه أرجأ ذلك إلى أن تستقر الأمور، فقد أثر عنه أنه رضي الله عنه قال: اقضوا كما تقضون حتى تكونوا جماعة، فإني أخشى الاختلاف.
2- عدم نقضه الأحكام الصادرة قبله:
وحرصاً على استقرار الأمور؛ فإن أمير المؤمنين كان يرى بأنه لا يحق للقاضي أن ينقض حكماً أصدره قاض اخر ، وقد كان هو رضي الله عنه كتب الكتاب بين أهل نجران وبين النبي ﷺ ، فكثروا في عهد عمر حتى خافهم على الناس ، فوقع بينهم الاختلاف ، فأتوا عمر ، فسألوه البدل ، فأبدلهم ، ثم ندموا ، ووضع عليهم شيئاً فأبوه ، فاستقالوه ، فأبى أن يقيلهم ، فلما ولي علي أتوه فقالوا: يا أمير المؤمنين! شفاعتك بلسانك ، وخطك بيمينك ، فقال علي: وَيْحَكُم إن عمر كان رشيد الأمر، ولن أرد قضاءً قضى به عمر.
3- الأهلية للقضاء:
القضاء من الولايات العامة ، ولذلك يشترط في القاضي ما يشترط فيمن تكون له ولاية عامة على المسلمين من العقل والبلوغ والإسلام ، ويشترط في القاضي أن يكون عفيفاً عما في أيدي الناس ، حليماً لا تثيره الكلمة ، ولا يغضبه التصرف النابي ، عالماً بأحكام الشريعة ، وبناسخها ومنسوخها ، فقد قال علي بن أبي طالب لقاضٍ: هل تعلم الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا ، قال: هلكت وأهلكت، وإنما سأله علي عن الناسخ والمنسوخ لأن معرفته ليس بالأمر السهل في ذلك العصر، ويشترط فيه أن يكون عالماً بما قضى به القضاة السابقون ، حتى لا يخرج عن خطهم في القضاء ، حسماً لفوضى الأحكام، وأن يكون متواضعاً لا يرى غضاضة في استشارة ذوي العلم والعقل الراجح ، لأن هذه الشورى تبعده عن الخطأ في الأحكام ، وأن يكون جريئاً في الحق لا يتأخر عن النطق بالحكم به ولو أغضب ذوي السلطان ، وقد جمع ذلك كله قول علي رضي الله عنه: لا ينبغي أن يكون القاضي قاضياً حتى تكون فيه خمس خصال: عفيف ، حليم ، عالم بما كان قبله ، يستشير ذوي الألباب ، لا يخاف في الله لومة لائم.
4- مكان القضاء:
على القاضي أن يختار مكان جلوسه بين المتخاصمين في وسط المدينة؛ بحيث لا يشق على أحد الوصول إليه ، ولذلك كان علي رضي الله عنه يأمر شريحاً القاضي بالجلوس في المسجد الأعظم، لتييسر الوصول إليه.
5- مجانية الحصول على الحكم:
لما كان إقامة العدل بين الناس من أهداف الدولة الإسلامية ، فإن الفقه الإسلامي يقضي بأن لا يقام أي حائل بين صاحب الحق وبين الحصول على حقه ، ولذلك فإن المتقاضيين لا يدفعان للقاضي ولا للدولة شيئاً من المال للحصول على الحكم الذي يفصم الخلاف بينهما ، بل الدولة الإسلامية هي التي تتكفل بنفقات الحاكم والمحكمة ، وقد كان علي رضي الله عنه يعطي شريحاً على القضاء رزقاً ، وقد رزقه حين ولاه القضاء في الكوفة كل شهر خمسمئة درهم.
6- بذور المحاماة:
في العهد الراشدي ظهرت بذور المحاماة ، فكان علي رضي الله عنه يوكل أخاه عقيلاً في المخاصمة ، ولما أسن عقيل ، وكّل عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه إمام القضاء ، وكان يقول: ما قضي لوكيلي فلي ، وما قضي على وكيلي فعلي.
خامساً: ما يجب على القاضي:
لكي يحقق القاضي العدل في الأحكام لا بد له من مراعاة ما يلي:
1- دراسة القضية المعروضة عليه دراسة واعية: ولا يجوز له أن يتسرَّع في إصدار الحكم قبل الانتهاء من الدراسة ، والاطمئنان إلى الحكم ، ولذلك قال علي لشريح: لسانك عبدك ما لم تتكلم ، فإذا تكلمت فأنت عبده ، فانظر ما تقضي وفيم تقضي وكيف تقضي.
2- المساواة بين الخصوم: فقد نزل على علي ضيف ، فكان عنده أياماً ، فأتى في خصومة ، فقال له علي: أخصم أنت؟ قال: نعم ، قال: فارتحل عنا ، فإنا نهينا أن ننزل خصماً إلا مع خصمه.
3- عدم الصياح بالمتخاصمين: ولَّى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أبا الأسود الدؤلي القضاء ، ثم عزله ، فقال: لم عزلتني وما خنت ولا جنيت؟ فقال: إنما رأيتك يعلو كلامك على الخصمين.
4- الابتعاد عن المؤثرات ومجاهدة النفس: سواء كانت هذه المؤثرات قرابة ، أو مالاً ، أو بغضاً ، أو ... فقد جاء جعدة بن هبيرة إلى علي بن أبي طالب فقال: يا أمير المؤمنين ، يأتيك الرجلان أنت أحب إلى أحدهما من نفسه ، والاخر لو يستطيع أن يذبحك لذبحك ، فتقضي لهذا على هذا؟ قال: فلمزه علي وقال: هذا شيء لو كان لي لفعلت ، ولكن إنما ذلك شيء لله.
5- الشورى: وعلى القاضي أن يستشير ذوي العلم والرأي لئلا يفلت منه حق ، وقد كان علي رضي الله عنه أحد أعضاء الشورى الذين يحرص الخلفاء على استشارتهم عندما تعرض عليهم مشكلة ، فقد روى الخصاف في أدب القاضي أن عثمان بن عفان كان إذا جاءه الخصمان قال لهذا: ادع علياً ، وقال لهذا: ادع طلحة والزبير ونفراً من أصحاب رسول الله ، فإذا جاؤوا إليه قال لهما: تكلما ، فإذا تكلما يقبل عليهم فيقول: ماذا تقولون؟ فإن قالوا ما يوافق قوله قضى عليهما ولا ينظرهم بعد.
يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf