الثلاثاء

1446-07-07

|

2025-1-7

من المواقف الاعتقادية لعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه)

الحلقة الثانية والثلاثون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

جمادى الآخر 1441 ه/ يناير 2020م

ز- حرص أميـر المؤمنين علي بـن أبي طالب رضي الله عنـه على بطلان الاعتقاد بالكواكب:
لما أراد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يسافر لقتال الخوارج، عرض له منجم ، فقال: يا أمير المؤمنين! لا تسافر ، فإن القمر في العقرب ، فإنك إن سافرت والقمر في العقرب هزم أصحابك - أو كما قال - ، فقال علي: بل أسافر ثقة بالله وتوكلاً على الله وتكذيباً لك ، فسافر فبورك له في ذلك السفر فقتل عامة الخوارج. وجاء في رواية: ... فلما فرغ من النهروان حمد الله وأثنى عليه ثم قال: لو سرنا في الساعة التي أمرنا المنجم لقال الجهال الذين لا يعلمون: سار في الساعة التي أمره بها المنجم فظفر.. انظر إلى حرص أمير المؤمنين علي رضي الله عنه على سلامة عقيدة أصحابه مما ادعاه المنجم من ذلك الاعتقاد الفاسد ، فعلي رضي الله عنه مع ما كان فيه من الأمر المهم من قتال الخوارج ، وانشغاله بنتيجة المعركة ، فإنه لم ينسى تلك الكلمة التي قالها ذلك المنجم له في بداية مسيره ، فكان منه بيان فساد ذلك المعتقد في الوقت المناسب بعد انتهاء قتاله للخوارج وانتصاره عليهم.
ح- إحراق أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لمن غلوا فيه وادعوا فيه الألوهية:
عن عبد الله بن شريك العامري ، عن أبيه قال: قيل لعلي: إن هنا قوماً على باب المسجد يدعون أنك ربهم ، فدعاهم فقال لهم: ويلكم ، ما تقولون؟ قالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا ، فقال: ويلكم إنما أنا عبد مثلكم ، آكل الطعام كما تأكلون ، وأشرب كما تشربون ، إن أطعت الله أثابني إن شاء الله ، وإن عصيته خشيت أن يعذبني ، فاتقوا الله وارجعوا؛ فأبوا ، فلما كان الغد غدوا عليه ، فجاء قنبر ، فقال: قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام ، فقال: أدخلهم ، فقالوا كذلك. فلما كان اليوم الثالث ، قال: لئن قلتم ذلك لا قتلنكم بأخبث قتلة ، فأبوا إلا ذلك ، فأدخلهم أخدوداً بين المسجد والقصر ، وقال: إني طارحكم فيها أو ترجعوا ، فأبوا أن يرجعوا ، فقذف بهم فيها ، حتى إذا احترقوا قال:
إني إذا رأيت الأمر أمراً
منكراً ، أوقدت ناري ودعوت قنبرا

كما أخرج البخاري في صحيحه خبر الإحراق من حديث عكرمة ، قال: أتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم ، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله ﷺ حيث قال: «لا تعذبوا بعذاب الله» ، ولقتلتهم لقول رسول الله ﷺ : «من بدل دينه فاقتلوه». وقال ابن تيمية: وثبت عنه أنه حرق غالبية الرافضة الذين اعتقدوا فيه الإلهية. لم ير ابن عباس رضي الله عنهما ، رأي علي بن أبي طالب رضي الله عنه في إحراق السبئية ، حيث يقول: لو كنت أنا لم أحرقهم محتجاً عليه بنهي رسول الله ﷺ : «لا تعذبوا بعذاب الله» ولقوله ﷺ : «من بدل دينه فاقتلوه». قال ابن حجر: وهذا يحتمل أن ابن عباس سمعه من رسول الله ﷺ ، ويحتمل أن يكون سمعه من بعض الصحابة.
وفي رواية أبي داود: فبلغ ذلك علياً ، فقال: ويح أم ابن عباس! وهذا يحتمل أنه لم يرض بما اعترض به ورأى أن النهي للتنزيه. وقال ابن حجر أيضا: (ويح) كلمة رحمة ، فتوجع له لكونه حمل النهي على ظاهره ، فاعتقد التحريم مطلقاً ، فأنكره ، ويحتمل أن يكون قالها رضاً بما قال ، وأنه حفظ ما نسيه بناء على أحد ما قيل في تفسير (ويح) ، أنها تقال بمعنى المدح والتعجب، وقال: واختلف السلف في التحريق ، فكره ذلك عمر ، وابن عباس ، وغيرهما مطلقاً سواء كان ذلك بسبب كفر ، أو في حال مقاتلة ، أو كان قصاصاً ، وأجازه علي ، وخالد بن الوليد وغيرهما ، وقال المهلب: ليس هذا النهي على التحريم ، بل على سبيل التواضع.
ويدل على جواز التحريق فعل الصحابة ، فقد سمل النبي ﷺ أعين العرنيين بالحديد المحمى ، وقد حرق أبو بكر البغاة بالنار بحضرة الصحابة ، وحرق خالد بن الوليد بالنار ناساً من أهل الردة ، وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون والمراكب على أهليها ، قاله الثوري ، والأوزاعي. وقال ابن المنير وغيره: لا حجة فيما ذكر للجواز ، لأن قصة العرنيين كانت إما قصاصاً أو منسوخة كما تقدم ، وتجويز الصحابي معارض بمنع صحابي اخر، وقصة الحصون والمراكب مقيدة بالضرورة إلى ذلك إذا تعين طريقاً للعدو.
وقال ابن القيم: وحرق أبو بكر رضي الله عنه اللوطية وأذاقهم حر النار في الدنيا قبل الاخرة ، وكذلك قال أصحابنا: إذا رأى الإمام تحريق اللوطي فله ذلك ، فإن خالد بن الوليد رضي الله عنه كتب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه وجد في بعض نواحي العرب رجلاً ينكح كما تنكح المرأة ، فاستشار الصديق أصحاب رسول الله ﷺ وفيهم علي بن أبي طالب وكان أشدهم قولاً ، فقال: إن هذا الذنب لم تعص به أمة من الأمم ، إلا واحدة فصنع الله بهم ما قد علمتم ، أرى أن يحرق بالنار. فكتب أبو بكر إلى خالد أن يحرقوا فحرقهم ، ثم حرقهم عبد الله بن الزبير في خلافته ، ثم حرقهم هشام بن عبد الملك.
ط- كيفية بداية الإيمان في القلب عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وتعريفه للتقوى:
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء في القلب ، فكلما ازداد العبد إيماناً ازداد القلب بياضاً ، وكلما ازداد العبد نفاقاً ازداد القلب سواداً ، حتى إذا استكمل العبد النفاق اسود القلب ، وايم الله لو شققتم عن قلب المؤمن لوجدتموه أبيض ، ولو شققتم عن قلب المنافق والكافر لوجدتموه أسود.
وقد بيَّن علماء أهل السنة حقيقة الإيمان فقالوا بأن الإيمان هو التصديق بالقلب ، والنطق بالشهادتين ، والعمل بالجوارح والأركان؛ أي هو: اعتقاد وقول وعمل، فهذه الثلاثة كلها مندرجة فيه وتمثل أجزاء من حقيقته ، وقد تواترت أقوال العلماء ومن بعدهم على هذه الحقيقة ، واستدلوا بأدلة كثيرة من الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية على صحة هذا القول في حقيقة الإيمان، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الأنفال: 2 - 4].
فقد جمعت هذه الايات - وهي تعرض صفات المؤمنين - بين عمل القلب وعمل الجوارح ، واعتبرت هـذا كله إيماناً ، وقصرت الإيمـان عليه بأداة القصر والحصر (إنما) ، وعرفت المؤمنين بتلك الصفات مجتمعة ، عندما ضمنتها بعبارة ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ﴾ وأعمال الجوارح في هذه الصفات هي: إقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله.
وقال رسول الله ﷺ : «الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ أفضلها: قول لا إله إلا الله ، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان». والشاهد في الحديث ما ذكره رسول الله ﷺ ، فالشهادة قول ، وإماطة الأذى عن الطريق عمل ، والحياء خلق وسلوك ، وجعل الثلاثة من الإيمان دليل على حقيقته ، ومعظم شعب الإيمان هي أعمال. وقال الإمام البخاري في صحيحه: هو قول وفعل يزيد وينقص ، والحب في الله والبغض في الله من الإيمان.
وقال عمر بن عبد العزيز: إن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً ، فمن استكملها استكمل الإيمان ، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان ، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها ، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص.
وما قاله أمير المؤمنين في الإيمان لما سئل عنه: الإيمان على أربع دعائم: على الصبر واليقين والعدل والجهاد ، والصبر منها على أربع شعب: على الشوق ، والشفق ، والزهد ، والترقب؛ فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات ، ومن أشفق من النار اجتنب المحرمات ، ومن زهد في الدنيا استهان بالمصيبات ، ومن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات ، واليقين منها على أربع شعب: على تبصرة الفطنة ، وتأول الحكمة ، وموعظة العبرة ، وسنة الأولين. فمن تبصر في الفطنة تبينت له الحكمة ، ومن تبينت له الحكمة عرف العبرة ، ومن عرف العبرة فكأنما كان في الأولين. والعدل منها على أربع شعب: على غائض الفهم، وغور العلم ، وزهرة الحكم ، ورساخة الحلم ، فمن فهم علم غور العلم ، ومن علم غور العلم صدر عن شرائع الحكم ، ومن حلم لم يفرط في أمره وعاش بين الناس حميداً. والجهاد منها على أربع شعب: الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والصدق في المواطن ، وشنئان الفاسقين ، فمن أمر بالمعروف شد ظهور المؤمنين ، ومن نهى عن المنكر أرغم أنوف المنافقين ، ومن صدق في المواطن قضى ما عليه ، ومن شناي الفاسقين وغضب لله غضب الله له وأرضاه يوم القيامة.
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تعريفه للتقوى: ترك الإصرار على المعصية ، وترك الاغترار بالطاعة. وقال فيها: التقوى هي الخوف من الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والقناعة بالقليل ، والاستعداد ليوم الرحيل، ففي اهتمام أمير المؤمنين في حث الناس على التقوى ثمرات واثارٌ في جانب الفرد والمجتمع؛ منها: محبة الله له: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 4] ، معية الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128] ، الانتفاع بالقران: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2] ، الحفظ من الشيطان ووساوسه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201] ، انتفاء الخوف والحزن: ﴿ فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الأعراف: 35] ، قبول العمل: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27]، اليسر بعد العسر ، والمخرج بعد الضيق: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ﴾ [الطلاق: 2]. ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 4]. الفراسة والحكمة والنور: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً﴾ [الأنفال: 29]. دخول الجنة: ﴿ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]. النجاة من النار: ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقُوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 72]. المنزلة العالية يوم القيامة: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [البقرة: 212].
ي- القضاء والقدر عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إنه لا يكون في الأرض شيء حتى يقضى في السماء ، وليس من أحد إلا وقد وكل به ملكان يدفعان عنه ويكلانه ، حتى يجيء قدره ، فإذا جاء قدره خلَّيا بينه وبين قدره ، وإن عليَّ من الله جنة حصينة ، فإذا جاء أجلي كشف عني ، وإنه لا يجد طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
وقال رضي الله عنه: إن الأمر ينزل من السماء كقطر المطر لكل نفس ما كتب الله لها من زيادة أو نقصان في نفس أو أهل أو مال ، فمن رأى نقصاً في نفسه أو أهله أو ماله ، ورأى لغيره عثرة فلا يكونن ذلك له فتنة ، فإن المسلم ما لم يعش دنياه يظهر تخشعاً لها إذا ذكرت ، ويغري به لئام الناس؛ كالبائس العالم ينتزر أول فورة من قداحة توجب له المغنم ، وتدفع عنه المغرم ، فكذلك المسلم البريء من الخيانة بين إحدى الحسنيين ، إذا ما دعا الله ، فما عند الله خير له ، وإما أن يرزقه الله مالاً ، فإذا هو ذو أهل ومال ، ومعه حسبه ودينه ، وإما أن يعطيه الله في الاخرة ، فالاخرة خير وأبقى ، الحرث حرثان: فحرث الدنيا والمال والتقوى ، وحرث الاخرة الباقيات الصالحات ، وقد يجمعها الله تعالى لأقوام.
ك- كيف يحاسب الله العباد على كثرة عددهم؟
قيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف يحاسب الله العباد على كثرة عددهم؟ فقال: كما يرزقهم على كثرة عددهم.
ثانياً: خطبة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وتحليلها:
كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يتعهد الرعية بالتوجيه والتعليم والتربية من خلال الاحتكاك اليومي ، وخصوصاً يوم الجمعة حيث كانت خطبة الجمعة من المنابر الهامة في توجيه الأمة وترشيدها ، وقد حفظ التاريخ لأمير المؤمنين علي كثيراً من خطبه ، وهذه إشارات عبرت عن خطبة ، وإليك هذا النموذج الفريد العجيب من خطبه حيث قال:
أما بعد؛ فإن الدنيا قد أدبرت وأذنت بوداع ، وإن الاخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع ، وإن المضمار اليوم ، وغداً السباق ، ألا وإنكم في أيام أمل من ورائه أجل ، فمن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خاب عمله ، ألا فاعملوا لله في الرغبة ، كما تعملون له في الرهبة ، وإنه لم أر كالجنة نام طالبها ، ولم أر كالنار نام هاربها ، وإنه من لم ينفعه الحق ضره الباطل ، ومن لم يستقم به الهدى حاد به الضلال ، ألا وإنكم قد أمرتم بالظعن ، ودللتم على الزاد ، ألا أيها الناس إنما الدنيا عرض حاضر ، يأكل منها البر والفاجر ، وإن الاخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قادر ، ألا إن الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ، والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً ، والله واسع عليم: أيها الناس، أحسنوا في أعماركم تحفظوا في أعقابكم ، فإن الله وعد جنته من أطاعه ، وأوعد ناره من عصاه ، إنها نار لا يهدأ زفيرها ، ولا يفك أسيرها ، ولا يجبر كسيرها ، حرها شديد ، وقعرها بعيد ، وماؤها صديد.
ولو تأملنا في المقطع السابق لوجدنا أن عوامل التأثير في المدعوين تتمثل فيما يلي:
1- صدق اللهجة النابعة من إيمانه بما يدعو إليه ، مما يجعل كلماته كأنها قبس من نفسه المشتعلة ، وصورة من عواطفه المنفعلة ، فهو لا يكاد ينطق بالجملة حتى تكون أسماعهم قد تلقفتها ، وقلوبهم قد وعتها.
2- تمتاز الألفاظ بالقوة ، مع سهولتها وعذوبتها وسلاستها ، كما أن عبارتها واضحة ، وجملتها قصيرة ، ولعل ذلك يسعف السامعين بإدراك المعنى المراد.
3- المقابلة بين المعاني المتضادة مما يزيد المعنى وضوحاً ، والسامع تأثراً ، ومن ذلك مثلاً: قوله: فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع .. وإن الاخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع وقوله: وإنه لم أر كالجنة نام طالبها.. ولا كالنار نام هاربها.
4- الاقتباس من القران الكريم ، كما في قوله: ألا إن الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً ، والله واسع عليم ، ذلك مقتبس، من قوله تعالى: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 268].
5- لقد كانت عناصر الخطبة المذكورة تتمثل في التأثر الشديد بالقران الكريم ، وبكلام الرسول ﷺ ، وواقعيتها واتصالها الحميم بالحياة البشرية ، وعمق المعاني وسموها وشمولها ، والإجادة في تخير الألفاظ وبناء العبارة ، والإيجاز، والتعبير عن المعاني والألفاظ بالصور ، واعتماد الوسائل البديعية ، وغاية القول، فإن هذه الخطبة تكتسب أهمية خاصة لما تتكشف عنه من مزايا دينية وأدبية وشخصية ، فهي عميقة الدلالة على شخصية صاحبها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، تنبئ عن إدراكه السليم للمفاهيم والآراء الإسلامية السديدة التي تتناول طبيعة الدنيا ، وغاية الوجود البشري ، والمصير الذي ينتهي إليه ، وتوضع النتائج التي توصَّل إليها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في هذا الخصوص ، وتدلنا على ما كان يتحلَّى به من حكمة نافذة ، ورؤيا معمقة يرفدها صفاء ذهنه وطهارة روحه ، إلى غير ذلك من المزايا العقلية والروحية العالية التي أفاضها عليه إيمانه وتقاه ، وتمسكه بعرى الإسلام ، واعتصامه بربه ، ورضاه بقضائه ، إن هذا كله قد ساعده في الوصول بالنثر الفني إلى هذا المستوى الرفيع ، فكان بحق في عالم الأدب فارس الكلمة وقائدها وإمامها ، تماماً كما كان في الناس إماماً عادلاً زاهداً ، وقائداً حكيماً مجرباً ، وفارس حرب لا يبارى.
هذا وقد اهتم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بانتهاز المناسبات في وعظ الناس وتذكيرهم ، ولم يكتفِ بخطب الجمعة فقط ، فعندما شيع جنازة ووضعت في لحدها ، وعجَّ أهلها وبكوا ، قال: ما تبكون؟ أما والله لو عاينوا ما عاين ميتهم، لأذهلتهم معاينتهم عن ميتهم. وإن له فيهم لعودة ثم عودة ، ثم لا يبقي منهم أحداً .. فاتقوا الله عباد الله ، وجدوا في الطلب ، وبادروا بالعمل مقطع النهمات ، وهادم اللذات ، فإن الدنيا لا يدوم نعيمها ، ولا تؤمن فجائعها ، غرور حائل، وسند مائل ، اتعظوا عباد الله بالعبر ، واعتبروا بالايات والأثر ، وازدجروا بالنذر ، وانتفعوا بالمواعظ ، فكأن قد علقتكم مخالب المنية ، وضمَّكم بيت التراب ، ودهمتكم مقطعات الأمور بنفخة الصور ، وبعثرة القبور وسياقة المحشر ، وموقف الحساب ، بإحاطة قدرة الجبار ، لكل نفس معها سائق يسوقها لمحشرها ، وشاهد يشهد عليها بعملها: ﴿ وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 69].
فارتجت لذلك اليوم البلاد ، وناد المناد ، وكان يوم التلاق ، وكشف عن ساق ، وكسفت الشمس ، وحشرت الوحوش، مكان مواطن الحشر ، وبدت الأسرار ، وهلكت الأشرار ، وارتجت الأفئدة .
ونستنتج من هذه الموعظة بعض عوامل التأثير منها:
1- وقـوع المـوعظة في مناسبتها ، فإن الموعظة كانت بمناسبة تشييع جنازة ، والنفوس في هذه الحال تكون مستعدة لتلقي ما تذكر به في الموت والدار الاخرة.
2- الصياغة البلاغية للموعظة ، فمواعظ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه تتميز بأسلوبها البلاغي المؤثر في نفوس المدعوين ، فمن الجوانب البلاغية في النموذج المذكور ما يلي:
أ- الاستعارة؛ مثل قوله: فكأن قد علقتم مخالب المنية. تشبيه الموت (المنية) بحيوان مفترس ، له مخالب ، فحذف المشبه به وأبقى شيئاً من لوازمه وصفاته وهو المخالب.
ب- السجع العفوي غير المتكلف مثل قوله: فإن الدنيا لا يدوم نعيمها ، ولا تؤمن فجائعها ، غرور حائل ، وسند مائل.
ج- الصيغ الإنشائية، وهي مبثوثة في الخطبة كلها منها: (ما تبكون؟) استفهام.. (اتعظوا عباد الله بالعبر) نداء.. (اتعظوا ، اعتبروا ، وازدجروا ، وانتفعوا ...) كل هذا على سبيل الأمر.
د- جزالة الألفاظ ، لعل أي جزء من الخطبة يكون شاهداً عليها ، لأن الخطبة كلها لا خلل فيها ولا ضعف.
3- اعتماد المضمون على القران الكريم وانتهاجها منهجه في الإرشاد والإقناع، كقوله: «كل نفس معها سائق يسوقها لمحشرها ، وشاهد يشهد عليها بعملها اعتماداً على قوله تعالى: » ﴿ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ﴾ [ق: 21].
4- الترهيب بذكر أهوال يوم القيامة ، كقوله: «ودهتكم مقطعات الأمور بنفخة الصور ، وبعثرة القبور ، وسياقة المحشر ، وموقف الحساب بإحاطة قدرة الجبار».
5- الإقناع؛ ومن ذلك قوله: كم مرضت بيديك وعللت بكفيك ، ممن تطلب له الشفاء وتستوصف له الأطباء.. للإقناع بحصول الموت ، والارتحال عن الدنيا والقدوم على الاخرة ، وأنه لا مهرب ولا فكاك.
6- استحضار الصورة ، وذلك لتعبيره بالفعل الماضي عما سيحدث في المستقبل، حتى يتصور السامع هذا الأمر الذي ينتظره ، ومن ذلك قوله: فكأن قد علقتكم مخالب المنية ، وضمكم بيت التراب ، ودهمتكم مقطعات الأمور.
7- لطف العبارة بحيث تستهوي السامعين ولا تنفرهم.
فهذه بعض النماذج من خطب ومواعظ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، والتي انتشرت بين الناس ، وساهمت في تربيتهم ، وتهذيب نفوسهم ، وتطهير قلوبهم ، وكان مفعولها سارياً في جيله والأجيال التي بعده إلى يومنا هذا.

يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022