الغرض من زيارة القبور عند أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه)
الحلقة الواحدة والثلاثون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الآخر 1441 ه/ يناير 2020 م
وقد كان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه كثيراً ما يقصد المقبرة زائراً ومتعظاً، وقد أشرف على المقبرة فقال: يا أهل القبور أخبرونا بخبركم ، أما خبركم قبلنا فالنساء قد تزوجن ، والمال قد قسم ، والمساكن قد سكنها قوم غيركم ، ثم قال: أما والله لو نطقوا لقالوا: لم نر خيراً من التقوى.
وقد كان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يسعى جاهداً في تجريد التوحيد ، وقطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات ، ولذلك حذر من اتخاذ القبور مساجد لما تسببه من الفتنة في أهلها ، وكونها ذريعة إلى عبادة الأموات ، وقد وصف رضي الله عنه من فعل ذلك بأنه من شرار الناس ، كما في قوله: شرار الناس من يتخذ القبور مساجد، وهذا اتباع لقول رسول الله ﷺ : «اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، وغيره من الأحاديث التي صحت في هذا المعنى.
كما لا بد من التنبيه على أن الغرض من زيارة القبور أمران ، كما هو بيِّنٌ من الهدي النبوي الشريف: الاتعاظ بالموت، والدعاء للميت والترحم عليه ، وليس في واحد منها ما يدل على أن الزائر يقصد القبر ، ليقضي حاجته؛ فقصد القبر للانتفاع به مخالف لهدي النبي ﷺ ، ومخالف لأدب زيارة القبور التي نص عليها العلماء.
بل إن قصد القبر رجاء قضاء الحاجة هو عين ما حذر منه النبي ﷺ أصحابه عندما سألوه أن يجعل لهم ذات أنواط ، ففي حديث أبي واقد الليثي: أن رسول الله ﷺ لما خرج إلى حنين مر بشجرة للمشركين يقال لها: ذات أنواط؛ يعلقون عليها أسلحتهم ، فقالوا: يا رسول الله ! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم (ذات أنواط)، فقال النبي ﷺ : «سبحان الله ، هذا كما قيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ، والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم».
وفي عدة المريد يقول الشيخ الزروق بعد أن ذكر الحديث المتقدم: ولا يجوز عند العلماء تعظيم مكان ، أو شجر ، أو بناء ، أو أي شيء اخر له أصل في معتقدات الجاهلية ، رجاء الشفاء أو قضاء حاجة، ثم قال: في الحديث دليل على منع كل ما يستدام أو يكون له أصل في عبادة الجاهلية من خشبة أو حديدة أو حجر أو بناء ونحوه ، لا يمتهن أو يكون مستهلكاً.
ولا شك أن القبر له أصل في عبادة الجاهلية ، بل هو أصل أصولها ، ولا أدل على ذلك ، من أن أشهر أصنامهم التي عبدوها من دون الله ، سواء في جاهليتهم اللاحقة: (اللات) ، هي أسماء لرجال صالحين ماتوا فغالوا في تعظيمهم حتى عبدوهم من دون الله، وهنا كان حديث النبي ﷺ وفعل سيدنا علي له عمل عظيم في حماية جناب التوحيد.
ويتضح لنا أن ما يفعله بعض جهلة المسلمين من تعظيم القبور والطواف حولها والتعلق بأهلها؛ أمر محرم يخالف أمر الله وسيرة أمير المؤمنين ، فعلى العلماء الربانيين الذين يرجون الله واليوم الاخر أن يقتدوا بالنبي ﷺ كما فعل أمير المؤمنين علي، وأن يسعوا لتعبيد الناس لربهم وجعل قلوبهم تتعلق بالله الواحد القهار ، وأن يحاربوا العوائق في الطريق إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
أ- الزيارة الشرعية للقبور:
إن الزيارة الشرعية للقبور سنة مجهولة عند الكثيرين ، قد غفلها جمع من الناس لفشو البدع والخرافات في العالم الإسلامي ، وعدم إرشاد أهل العلم الناس إلى هذه الزيارة المشروعة ، وتقصير الدعاة في توضيح هذا النوع المباح ، وما يقال عند الزيارة ، فالزيارة الشرعية الغرض منها: تذكر الموت ومكان الإنسان ونهايته ، وأنه سيأتي اليوم الذي يكون هذا موضعه ومضجعه الذي يزوره الآن ، مما يعين على الثبات على الطاعة ، وحث النفس والأخذ بزمامها نحو العبادة ، خاصة إذا أصابها فتور وتقاعس عن العبادة ، كما يشرع فيها السلام على الأموات والدعاء لهم بالرحمة والمغفرة ، ومن الأدلة على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله ﷺ يخرج من اخر الليل إلى البقيع فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد» ، وفي رواية عنها رضي الله عنها في قصة جبريل ، حين جاء النبي ﷺ وأخبره أن الله تعالى يأمره أن يستغفر لأهل بقيع الغرقد ، قالت عائشة رضي الله عنها: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ فقال: «قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون».
وقد بيَّن العلماء عدم جواز البناء على القبور ، كما بيّنوا آداب زيارة الرسول ﷺ ، ودعاء العبد لربه ، وأنه ليس بين العبد وربه واسطة:
* قال الكاساني الحنفي في كتابه بدائع الصنائع: «وكره أبو حنيفة البناء على القبر ، والكراهة إذا أطلقت فهي للتحريم، وقد صرح بالتحريم ابن مالك من الأحناف».
* قال الطحاوي الحنفي: «ولا يستلم القبر ولا يقبله؛ فإنه من عادة أهل الكتاب ، ولم يعهد الاستلام إلا للحجر والركن اليماني خاصة».
* قال القاضي عياض عن مالك: «لا أرى أن يقف عند قبر النبي ﷺ ، ولكن يسلم ويمضي. وروى ابن وهب عنه: أنه قال: ويدنو ويسلم ولا يمس القبر».
* وقال رزوق المالكي: «من البدع: اتخاذ المساجد على قبور الصالحين ... والتمسح بالقبر عند الزيارة ، وهو فعل النصارى ، وحمل تراب القبر تبركاً به ، وكل ذلك ممنوع بل يحرم».
* وقال الشافعي: «ولم أرَ قبور المهاجرين والأنصار مجصصة». وقال أيضاً رحمه الله: «وقد رأيت من الولاة من يهدم بمكة ما يبنى فيها ، فلم أرَ الفقهاء يعيبون ذلك».
* وقال النووي: «ويكره مسحه - قبر النبي ﷺ - باليد وتقبيله ، بل الأدب أن يبعد منه كما يبعد منه لو حضر في حياته ﷺ ، هذا هو الصواب الذي قال العلماء وأطبقوا عليه».
وقال السبكي في فتواه: «ولا يمس القبر ولا يقرب منه ولا يطوف به».
ب- تاريخ الاحتفال بالمزارات في الأضرحة:
يذكر أن أول من أحدث الاحتفال بالمزارات السنوية في الأضرحة هم العبيديون (الفاطميون) في القرن الرابع ، ذكر ذلك المقريزي أحمد بن علي قال: كانت لهم ستة موالد ، مولد النبي ﷺ ، ومولد علي بن أبي طالب ، والحسن ، والحسين، وفاطمة رضي الله عنهم ، ومولد الخليفة ، وكانوا ينحرون عند قبر الحسين الإبل والبقر والغنم، ولم يكن المسلمون قبل هذا التاريخ في القرون الثلاثة الأولى يقيمون الأضرحة ، ولا يحتفلون بها ، ولا أدل على ذلك من أن أكثر الصحابة رضوان الله عليهم دفنوا خارج البقيع في مصر والشام والعراق ، لا تعرف قبورهم ، ومن عرف قبره منهم؛ فمختلف فيه بين المؤرخين ، وكُتّاب السير ، فكيف خفيت قبورهم عن أهل السير ، وهم الصلحاء والعلماء وأعلام الهدى ، الذين حملوا راية الدين والعلم ، والجهاد والعبادة ؟! لو كان للأضرحة في زمانهم وزمان تابعيهم ذكر لما خفي مكانها ، ولما اختلف المؤرخون فيها ، وفعل الناس لهذا الأمر بعد القرون الأولى خير القرون لا يكسبه مشروعية بحال ، كيف وقد نهى النبي ﷺ عن اتخاذ قبره عيداً ، فمن يفعل ذلك من الناس فإنما يفعل عين ما حذر منه النبي ﷺ ، ويحتج بعمله ، وعمل شيخه ، ويقدمه على هدي رسول الله ﷺ وأصحابه ، والله تعالى يقول: ﴿ لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [الحجرات: 1] ، ويقول: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63].
ج- ارتباط المزارات بالتخُّلف والجهل:
ارتفع شأن القباب والتوابيت - المضروبة على القبور - خلافاً لأمر رسول الله ﷺ بتسويتها كما بيَّن لنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وتفنن الناس في زخرفتها بالألوان الزاهية ، ونصبت عليها ستائر الحرير كستائر الكعبة ، وحرست بالأبواب الفاخرة ، وزودت بخزائن الحديد الثقيلة ، لجمع ما يجود به الزائرون ، وما ينفقونه على أصحاب الأضرحة من نذور ، لتقضى حوائجهم وتتحقق امالهم ، وازدهرت الحياة للمتعيشين على خدمة الضريح وحراسته ، رواة الكرامات ، ورواة التحذير الصارم بسوء عاقبة كل من يحاول أن يشكك في سلامة ما يجري.
ومن المعروف أن التبجيل على هذا النحو للأضرحة لم يزدهر إلا يوم أن تخلف المسلمون ، وضعفت هممهم ، في عصور الانحطاط العلمي ، والجمود الفكري ، يوم أن حوَّلوا نور الرسالة المحمدية ، التي استطاعت في الأربعين سنة الأولى من عمرها أن تجعل أهل الأرض من فارس إلى المغرب يدينون بها ، حوَّلوا هذه الرسالة الحضارية المشرقة الى دروشة وخمول ، وبطالة وتعلق بالأوهام ، وقصروا هممهم على أمور ما كان سلفنا الصالح ، الذي ملأ الدنيا علماً وعملاً صالحاً يقف عندها ، ولا يلتفت إليها ، ألا يجدر بنا أن نسأل أنفسنا: هل وجد شيء من هذا على عهد الصحابة فعلوه لقبر رسول الله ﷺ وهو أفضل قبر على وجه الأرض ؟ أو لقبورهم ، وهم أفضل أمته ؟ أو وجد شيء منه حتى عهد الأئمة الذين يقتدى بهم ، كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد رحمهم الله ؟ أليس عدم وجود شيء من ذلك عندهم دليل على أن ما يجري لا صلة له بالدين ، ولا بالعبادة ، ولا بالولاية ؟ وإنما هي مظاهر التخلف والجهل ، استغلها من لهم مصلحة باسم الدين ، أياً كانت المصلحة ، لتخدير العامة والاستيلاء على عقولهم ، وجيوبهم ، وأكل أموالهم وشدهم إلى الوراء؟
لقد ظل الإسلام قروناً عديدة يتزعَّم العالم قوة ومعرفة ، وحضارة ، وتشريعاً ، وأخلاقاً ، ورحمة بالإنسانية ، وتطلعاً إلى الابتكار ، ومعالي الأمور ، ذلك كان حال المسلمين يوم أن كان تعلقهم بحقيقة الإسلام ، فلما أعرضوا عن ذلك ، واستبدلوا ما عندهم من العلم والهداية ، بمفاهيم مغلوطة تعتمد على التواكل والبطالة والدروشة والتعلق بالغيبيات ، التي لم يقم عليها دليل ، ولم يأمرنا الله بها ، وسموا كل ذلك (بركة) ، تسمية للشيء بضده ، وأحرى بمن يعرض عن الهداية وأسبابها أن يكون من الضالين ، وعن البركة من المبعدين.
د- الحملات الاستعمارية وإقامة الأضرحة:
كان للحملات الغربية الاستعمارية مواقف في تشجيع المسلمين أن ينحو هذا المنحى ليبتعدوا عن جوهر الدين ، ذكرت صحيفة التايمز الإنجليزية قول أحد رجال الاستعمار البريطاني يحض على تشجيع البدع والأوهام بين المسلمين؛ يقول: فإن ذلك كفيل بإبعادهم عن الإسلام. يقول الشيخ أحمد الباقوري: إن أحد كبار الشرقيين حدثه عن بعض أساليب الاستعمار في آسية ، أن الضرورة كانت تقضي بتحويل القوافل الاتية من الهند إلى بغداد ، عبر تلك المنطقة الواسعة إلى اتجاه جديد ، للمستعمر فيه غاية ، ولم تُجْدِ الوسائل في جعل القوافل تختاره ، وأخيرا اهتدوا إلى إقامة عدة أضرحة وقباب على مسافات متقاربة في هذا الطريق ، وما هو إلا أن تناقل الناس الإشاعات بما فيها من الأولياء ، وبما شوهد من كراماتهم ، حتى صارت تلك الطريق مأهولة ، ومقصودة عامرة.
وقد اهتمت الحكومة الإنجليزية بالحالة الدينية في مصر ، وهي ترصد التحرك الشيوعي في المنطقة ، فكان مما طمأنها على تدين المصريين: أن ثلاثة ملايين مسلم زاروا ضريح أحمد البدوي بطنطا في ذلك العام ، يقول أحد العلماء الذين أوفدوا من وزارة الأوقاف لوعظهم: لقد كنت أشهد من أعمالهم ما يستدعي الجلد بالسياط لا ما يستدعى الزجر بالكلام، ولو دعوا إلى واجب ديني صحيح لفروا نافرين ، وحسبك معرفة حالهم أنهم جاؤوا الضريح المذكور للوفاء بالنذور والابتهال بالدعاء.
هـ- هل المزارات من الإحداث في الدين؟
مات رسول الله ﷺ وهو أكرم الخلق على الله تعالى وأتقاهم لله ، وأخشاهم لله، وتوقير أصحابه له غير خافٍ ، ومحبتهم إياه لا تقدر ، وقُبر ﷺ في بيته ، ومكان قبره الشريف معروف لدى أصحابه غير مجهول ، وهو أفضل قبر في الدنيا ، فلم يقيموا عليه مشهداً ، ولا بناء ، ولا قباباً ، ولم يجتمع عند قبره الخلفاء الراشدون إحياء لذكراه في يوم من السنة معلوم في (مزار) ، ولا غيرهم من أصحابه الأخيار ، اغتناماً للذكر والعبادة ، بل كانوا إذا مروا بقبره الشريف يصلون ويسلمون عليه كما أمرهم ربهم ، وكانوا يطيعون أمره ويتبعون سننه ، ويهتدون بهديه ، ويقفون عند أمره ونهيه ، حياً وميتاً ، امتثالاً لأمر ربهم: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7] ، وقوله عز وجل: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [الأحزاب: 21] ، وخلفاؤه هم القدوة الحسنة الذين أمرنا رسول الله باتباع سنتهم والعض عليها بالنواجذ ، ولم ينقل أحد من أهل الإسلام أن أصحابه اجتمعوا ليلة في السنة عند قبره للذكر والعبادة ، رجاء البركة، وهم أولياء الله ، وحزب الهدى ، وأنصار الحق ، وكتائب الدين ، وأعلم منا بما يحبه رسول الله ﷺ ، وأحرص على الطاعة، وتعظيم رسول الله ﷺ في قلوبهم وتوقيره ، بالمكان الذي لا يخفى ، ولا يختلف عليه ، لأن الذي نطق به القران ، وأجمع على تعظيمهم له ، ومحبته وتوقيرهم إياه أهل الإسلام ، ولو كان هذا العيد السنوي عند قبره مما يقرب إلى الله ، ولا يخاف منه فساد في الدين لكانوا أسبق إليه ، ولم يأمرهم رسول الله ﷺ في حياته بشيء من هذا ، ولا وجد في سنته بفعل ولا تقرير ما يدل على مشروعيته عند قبر النبي ﷺ بعد موته ، أو عند أحد من قبور أصحابه الذين ماتوا ، ومرت عليهم السنون في حياته ، فلم يتعبد هو ولا أصحابه بشيء من هذا ، وهو أكمل الخلق عبودية لله ، وأكملهم علماً بما يُرضي الله تعالى ، ونصحه لأمته ، وحرصه على ما ينفعهم نزل به القران ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].
وقد نهانا النبي ﷺ عن اتخاذ قبره عيداً ، فقال ﷺ : «لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ، ولا تجعلوا قبري عيداً ، وصلوا علي ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم»، ومعنى عيد: من العود ، وهو الرجوع والمعاودة ، لأنه يتكرر مرة بعد مرة ، أي: لا تجعلوا لزيارة قبري أياماً معلومة ، وأوقاتاً مخصوصة ، كل شهر ، أو كل سنة ، أو غير ذلك ، في اجتماع عام يتكرر بصفة ثابتة كالعيد ، ولا تتخذوه منسكاً ترحلون إليه كالحج ، ولا تشبهوا باليهود والنصارى ، فإنهم يفعلون ذلك ، وقد أدى بهم الأمر إلى الغلو والمبالغة في الإطراء ، حتى جعلوا المسيح عليه السلام إلهاً ، وقد حذر النبي ﷺ أصحابه من ذلك فقال ﷺ : «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، فإنما أنا عبده ، فقولوا: عبد الله ورسوله».
فإذا كان الحال من النهي في التعلق بقبر النبي ﷺ ، وهو أكرم الخلق على الله، وهو سيد الأولين ، والاخرين ، وأفضل الخلق أجمعين ، وأرجى الشفاء عند الله يوم الدين ، فما بالك بقبور الأموات من دونه من الأولياء والصالحين ، فتكون مخالفة نهيه في ذلك باتخاذ قبورهم أعياداً ، داخلة في الشق الثاني من الحديث ، وهو ما يقرب إلى من يخالف نبيه في قوله عز وجل: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63].
فهذا هو هدي خير القرون ، فمن خالفهم زاعماً أنه أتى بطاعة وقربه ، فلا يخلو حاله من أمرين: إما أنه جاء ببدعة ظلماً ، وإما أن يكون مدعياً أنه فاقهم فضلاً وعلماً.
بل كان الإمام مالك رحمه الله تعالى يقول: من أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها ، فقد زعم أن رسول الله ﷺ خان الدين ، لأن الله تعالى يقول: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ [المائدة: 3] ، فما لم يكن يومئذ ديناً ، لا يكون اليوم ديناً. وكان يقول: السنة سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق.
إن إقامة (المزارات) عبادة لم يفعلها رسول الله ﷺ ولا أصحابه ، بل نهى عنها ، ومخالفته من الإحداث في الدين الذي ينتهي بصاحبه إلى الضلال كما أخبر النبي ﷺ ، فقد كان مما يخطب به في كل جمعة محذراً: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة»، وقال ﷺ : «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد».
إن جمع الناس في يوم معين على الدوم ، في مكان ما ، تشد إليه الرحال من كل حدب وصوب للعبادة ، لا يجوز إلا فيما شرعه الله تعالى من إقامة النُّسك في مكة ، وعرفة ، ومنى ، والمزدلفة ، وفي صلوات الأعياد والجمعة والجماعة ، وهي الشعائر التي أمر الله تعالى بتعظيمها ، وإقامتها ، وأثنى على أهلها بقوله تبارك وتعالى: ﴿ ذَلِكَ ومَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32] وإحداث مشهد اخر غير ما ذكر ، في يوم من السنة ، من الإحداث في الدين، لأنه إحداث عبادة ونسك لم يشرعها الله تعالى ، فإن هذه المزارات صارت عند العامة كالنسك ، يجتمع إليها الناس في يوم من السنة معلوم للذبح والعبادة ، وتشد إليها الرحال ، وهذا في ذاته أمر مذموم ، فإن الطاعات المطلقة المندوب إليها في كل وقت ، إذا خصص شيء منها بليلة معينة ، أو يوم معين ، أو مكان معين ، لم يخصصه الشرع به ، واعتقد أن لفعلها في ذلك الوقت المعين ، أو المكان المعين ، أثراً خاصاً في البركة ، أو رفع الدرجات ، أو قبول العمل ، أو تعظيم الأجر ، تحولت تلك الأعمال التي هي من جنس الطاعات إلى بدعة بالاتفاق ، لأن ترتيب الثواب على الأعمال ، أمر توقيفي لا يكون إلا من الشارع ، وقد جرَّ هذا إلى مفاسد عظام ، منها: اعتقاد العامة في أصحابها الذين بنيت عليهم القباب خلافاً لنهي رسول الله ﷺ ، فاعتقدوا فيها الضر والنفع ، وقضاء الحوائج ، وتقربوا إليه بالذبائح والقرابين في يوم معلوم من السنة، عند إقامة المزار ، وتودَّدوا إليها بعد ما أشاعوا حولها أن من ساق إليها الحيوان ليذبح في ذلك اليوم ، وكانت له حاجة يرجوها من ربه ، مثل ولد إن كان لا يلد ، أو شفاء مرض إن كان مريضاً - لا يرجع إلا بها ، فصارت ملجأ لنجاح المطالب ، وسألوا منها ما سأله العباد من ربهم واستغاثوا بها ، وأن حوائجهم تقضى لهم من ربهم بواسطتها وعن طريقها ، حتى صاروا يذبحون عندها ، لاستنزال المطر إذا تأخر المطر ، معرضين عن كتاب الله وهدي رسول الله ﷺ الذي أمر بالتوبة والاستغفار والدعاء والصلاة طلباً للسقيا ، وقد ينزل المطر بعد ذبحهم ، استدراجاً وابتلاء ، ولكن عملهم لا يزال من أعمال الشياطين ، ومعتقدات الجاهلية، فإلى الله المشتكى.
إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه دعا للتوحيد وحارب الشرك وأسبابه ، فعلى محبِّيه ومتبعيه أن يأخذوا بأقواله وأفعاله التي ترشدنا للتمسك بالقران الكريم وهدي النبي عليه الصلاة والسلام ، وما أحسن كلامه عندما قال: لا يرجون أحد إلا ربه ، ولا يخافن إلا ذنبه. وقوله لأبي الهياج الأسدي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ : أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته ، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته.
يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf