الأربعاء

1446-07-08

|

2025-1-8

قواعد الحكم في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه

الحلقة التاسعة والعشرون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

جمادى الآخر 1441 ه/ يناير 2020 م

المرجعية العليا لدولة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه:
كانت المرجعية العليا لدولة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: كتاب الله ، وسنة رسوله ﷺ ، والاقتداء بالشيخين في هديهم.
1- فالمصدر الأول هو كتاب الله: قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ﴾ [النساء: 105] ، فكتاب الله تعالى يشتمل على جميع الأحكام الشرعية التي تتعلق بشؤون الحياة، كما بين القران الكريم للمسلمين كل ما يحتاجون إليه من أسس تقوم عليها دولتهم ، وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ....الزموا دينكم ، واهتدوا بهدي نبيكم ، واتبعوا سنته ، واعرضوا ما أشكل عليكم على القران ، فما عرفه القران فالزموه ، وما أنكره فردوه.
2- المصدر الثاني: السنة المطهرة: التي يستمد منها الدستور الإسلامي أصوله ، ومن خلاله يمكن معرفة الصيغ التنفيذية والتطبيقية لأحكام القران الكريم، فقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: واقتدوا بهدي نبيكم ﷺ ، فإنه أفضل الهدي ، واستنوا بسنته ، فإنها أفضل السنن.
3- الاقتداء بالخلفاء الراشدين الذين سبقوه: قال رسول الله ﷺ : «اقتدوا بالذين من بعدي: أبي بكر وعمر». وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما...: والذي خلق الحبة ، وبرأ النسمة ، لا يحبهما إلا مؤمن تقي ، ولا يبغضهما إلا فاجر رديّ ، صحبا رسول الله على الصدق والوفاء ، يأمران وينهيان، وما يجاوزان فيما يصنعان رأي رسول الله ﷺ ، ولا كان رسول الله ﷺ يرى بمثل رأيهما ، ولا يحب كحبهما أحداً ، قضى رسول الله ﷺ وهو عنهما راضٍ ، ومضيا والمؤمنون عنهما راضون ... واستمر في حديثه إلى أن قال في أبي بكر: وكان والله خير من بقي ، أرحمه رحمة ، وأرأفه رأفة ، وأثبته ورعاً ، وأقدمه سناً وإسلاماً ، فسار فينا سيرة رسول الله ﷺ حتى مضى على ذلك ، ثم ولى عمر الأمر من بعده... فأقام الأمر على منهاج النبي ﷺ وصاحبه ، يتبع اثارهما كاتباع الفصيل أمه... إلى أن قال: فمن لكم بمثلهما رحمة الله عليهما ، ورزقنا المضي على سبيلهما ، فإنه لا يبلغ مبلغهما إلا باتباع اثارهما والحب لهما ، ألا من أحبني فليحبهما ومن لم يحبهما فقد أبغضني وأنا منه برأي.
وكان رضي الله عنه يدافع عن اجتهادات عثمان بن عفان ويقول: يا أيها الناس! لا تغلوا في عثمان ، ولا تقولوا له إلا خيراً ، أو قولوا خيراً فوالله ما فعل الذي فعل - أي في المصاحف - إلا عن ملأ منا جميعاً أي الصحابة.. ووالله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل، وكان يقول: ما كنت لأحل عقدة شدها عمر.
حق الأمة في الرقابة على الحكام:
إن للأمة الحق في مراقبة الحكام وتقويمهم؛ قال تعالى: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104]. وكان أول ما قاله أمير المؤمنين علي رضي الله عنه إثر توليه.. إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم ، إلا أنه ليس لي أمر دونكم. وهذا نفس ما قاله أبو بكر عندما تولى ؛ حيث قال: فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني وما قاله عمر: أحب الناس إلي من رفع إلي عيوبي. وقال: إني أخاف أن أخطئ فلا يردني أحد منكم تهيباً مني. وما قاله عثمان: إن وجدتم في كتاب الله أن تضعوا رجلي في القيد فضعوا رجلي في القيد.
وبذلك يكون قد جرى العمل في عهد الخلفاء الراشدين على التسليم للأمة بحق الرقابة على الحكام ، ولم ينكره أحد ، فدل ذلك على الإجماع، كما أن إجماع الصحابة - حكاماً ومحكومين - في عهد الخلافة الراشدة ليس له إلا معنى واحد وهو الفهم الصحيح للكتاب ، والطريق السليم للعمل بالسنة ، فهم الذين عاصروا عهد تنزيل الكتاب ، وعاشوا طريقة النبي ﷺ في إقامة حياة الناس عليه ، فهم أفهم الناس لروح الدين ، وأعرف الناس بمقاصد الشرع ، وأقدر الناس على التمييز بين الحق والباطل ، ومن المستبعد - بل من المحال - أن يجتمعوا على باطل ، لقول النبي ﷺ : «إن أمتي لا تجتمع على ضلالة»، ولهذا كان إجماعهم حجة يسوغ أن تراعى وتوضع ضمن مصادر الدستور الإسلامي ، وإجماع الأمة قد يكون على فهم نص ، ويجوز أن ينعقد الإجماع عن اجتهاد وقياس ، ويكون حجة.
إن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه كان يحث الناس في خلافته على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقد خطب ذات يوم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنما هلك من هلك قبلكم بركوبهم المعاصي ، ولم ينههم الربانيون والأحبار ، فأخذتهم العقوبات ، فَمُرُوا بالمعروف وانْهُوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم ، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقاً ولا يقرب أجلاً.

الشورى:
إن من قواعد الدولة الإسلامية حتمية تشاور قادة الدولة وحكامها مع المسلمين ، والنزول على رضاهم ورأيهم ، وإمضاء نظام الحكم بالشورى ، قال تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159] ، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [الشورى: 38]. لقد قرنت الاية الكريمة حكم الشورى بين المسلمين بإقامة الصلاة ، فدلَّ ذلك على أن حكم الشورى كحكم الصلاة ، وحكم الصلاة واجبة شرعاً ، فكذلك الشورى واجبة شرعاً، وقد كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حريصاً على التزام منهج الشورى في تصرفاته وأعماله وقراراته ، فمن ذلك أنه حينما وصل إليه كتاب من قائده معقل بن قيس الرياحي المكلف بمحاربة الخريث بن راشد الخارجي جمع أصحابه وقرأ عليهم كتابه ، واستشارهم وطلب منهم الرأي؛ حيث اجتمع رأي عامتهم على قول واحد وهو: نرى أن تكتب إلى معقل بن قيس فيتبع أثر الفاسق ، فلا يزال في طلبه حتى يقتله أو ينفيه ، فإنا لا نأمن أن يفسد عليك الناس.
ومما روي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في الشورى قوله: الاستشارة عين الهداية وقد خاطر من استغنى برأيه.
وقوله: نعم المؤازرة المشاورة ، وبئس الاستعداد الاستبداد. وقوله: رأي الشيخ خير من مشهد الغلام.
ومما أوصى به أمير المؤمنين علي مالك بن الحارث الأشتر حين بعثه إلى مصر في الشورى قوله: لا تدخلن في مشورتك بخيلاً فيعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر ، ولا جباناً فيضعفك عن الأمور ، ولا حريصاً فيزين لك الشره بالجور ، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله.
وكان علي رضي الله عنه يعلم أن الحاكم إذا لم يكن له مستشارون فلا يعلم محاسن دولته ولا عيوبها ، وسوف يغيب عنه الكثير من شؤون الدولة وقضايا الحكم ، وكان يعلم أن الشورى تعرفه ما يجهله ، وتضع أصابعه على ما لا يعرفه ، وتزيل شكوكه في كل الأمور التي يقدم عليها ، فها هو يقول للأشتر النخعي عندما ولاه مصر: انظر في أمور عمالك الذين تستعملهم ، فليكن استعمالك إياهم اختياراً ولا يكن محاباة ولا إيثاراً ، فإن الأثرة بالأعمال - أي: الاستبداد بلا مشورة - والمحاباة بها جماع من شعب الجور ، والخيانة لله ، وإدخال الضرر على الناس ، وليست تصلح أمور الناس ولا أمور الولاة إلا بإصلاح من يستعينون به على أمورهم ، ويختارونه لكفاية ما غاب عنهم ، فاصطفِ لولاية أعمالك أهل الورع والعفة ، والعلم والسياسة ، والصق بذوي التجربة والعقول والحياء من أهل البيوتات الصالحة ، وأهل الدين والورع ، فإنهم أكرم أخلاقاً وأشد لأنفسهم صوناً وإصلاحاً ، وأقل في المطامع إسرافاً ، وأحسن في عواقب الأمور نظراً من غيرهم؛ فليكونوا عمالك وأعوانك.
العدل والمساواة:
إن من أهداف الحكم الإسلامي: الحرص على إقامة قواعد النظام الإسلامي التي تساهم في إقامة المجتمع المسلم ، ومن أهم هذه القواعد: العدل والمساواة ، وقد قام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بإقامة العدل بين الناس ، وقد تضافرت كل الخصال الحميدة والمعطيات العلمية والفقهية التي جعلته مؤهلاً للقيام بدوره هذا على أكمل وجه ، حتى إن الرسول ﷺ لثقته به وبقدراته بعثه قاضياً إلى اليمن، وقد دعا له رسول الله ﷺ بهذا الدعاء العظيم: «اللهم ثبت لسانه ، واهد قلبه» ، لذلك كان من الطبيعي أن يقيم حكمه على العدل الشامل ، وأن يجعله على رأس غايات وأهداف الحكم؛ لأنه به تستقيم الأمور ، وتظهر المودة بين الرعية.
ولا شك أن العدل في فكر أمير المؤمنين علي هو عدل الإسلام الذي هو الدعامة الرئيسية في إقامة المجتمع الإسلامي والحكم الإسلامي ، فلا وجود للإسلام في مجتمع يسوده الظلم ولا يعرف العدل ، لقد كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قدوة في عدله أسر القلوب وبهر العقول ، فالعدل في نظره الذي يسعى لتطبيقه في الحكم هو أحد أهم ركائز الخلافة الراشدة ، دعوة عملية للإسلام تفتح قلوب الناس للإيمان ، وقد سار على ذات نهج الرسول ﷺ ، فكانت سياسته تقوم على العدل الشامل بين الناس.
فعن شريح قال: لما توجه علي رضي الله عنه إلى حرب معاوية رضي الله عنه، افتقد درعاً له ، فلما انقضت الحرب ورجع إلى الكوفة ، أصاب الدرع في يد يهودي يبيعها في السوق ، فقال له: يا يهودي ، هذا الدرع درعي ، لم أبع ولم أهب. فقال اليهودي: درعي وفي يدي. فقال علي: نصير إلى القاضي ، فتقدما إلى شريح ، فجلس علي إلى جنب شريح، وجلس اليهودي بين يديه. فقال شريح: قل يا أمير المؤمنين ، فقال: نعم ، أقول: إن هذه الدرع التي في يد اليهودي درعي، لم أبع ولم أهب. فقال شريح: يا أمير المؤمنين ! بينة ، قال: نعم؛ قنبر والحسن والحسين يشهدون أن الدرع درعي ، قال: شهادة الابن لا تجوز للأب ، فقال: رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته؟ سمعت رسول الله ﷺ يقول: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة». فقال اليهودي: أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه ، وقاضيه قضى عليه؟ أشهد أن هذا لحق ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وأن الدرع درعك ، كنت راكباً على جملك الأورق وأنت متوجه إلى صفين، فوقعت منك ليلاً ، فأخذتها. قال: أما إذ قلتها فهي لك: وحمله على فرس ، فرأيته وقد خرج فقاتل مع علي الشراة بالنهروان.
ومن أمثلة عدله في الحكم: عن ناحية القرشي ، عن أبيه قال: كنا قياماً على باب القصر ، إذ خرج علي علينا ، فلما رأيناه تنحينا عن وجهه هيبة له ، فلما جاز صرنا خلفه ، فبينما هو كذلك إذ نادى رجل: يا غوثاً بالله ، فإذا رجلان يقتتلان، فلكز صدر هذا وصدر هذا ، ثم قال لهما: تنحيا ، فقال أحدهما: يا أمير المؤمنين! إن هذا اشترى مني شاة وقد شرطت عليه أن لا يعطيني مغموزاً ولا محذقاً - يعني الدراهم المعيبة - فأعطاني درهماً مغموزاً ، فرددته عليه ، فلطمني ، فقال للأخر: ما تقول؟ قال: صدق يا أمير المؤمنين ! قال: فأعطه شرطه ، ثم قال للاّطم: اجلس ، وقال للملطوم: اقتص، قال: أو عفو يا أمير المؤمنين. قال: ذلك إليك ، قال: فلما جاز الرجل؛ قال علي: يا معشر المسلمين خذوه ، قال: فأخذوه فحمل على ظهر رجل كما يحمل صبيان الكتاب ، ثم ضربه خمس عشرة درة ، ثم قال: هذا نكال لما انتهكت من حرمته ، وفي رواية أنه قال: هذا حق السلطان.
هذا وإن هذا الخبر ليعتبر مثلاً عالياً للتواضع؛ حيث يخرج أمير المؤمنين من بيته إلى السوق يتفقد أحوال الناس ، ويقوم بنفسه في حل مشكلاتهم ، وهو نوع من السلوك العالي الذي يبرز وجود الولاة في واقع حياة الرعية؛ سواء قام بذلك الوالي الأكبر أو من دونه ، ولا يلزم تكرر هذا الوجود كل يوم ، إذ يكفي شعور الناس بأن الولاة معهم في مشكلاتهم ليطمئن صاحب الحق على بقاء حقه في حوزته ، وعودته إليه فيما لو اعتُدي عليه ، وليرتدع من تسوّل له نفسه الاعتداء على حقوق الناس ، وقبل ذلك وأهم منه: أن يرتدع كل من يحدث نفسه بالاعتداء على حق الله تعالى.
وهذا الوجود المتلاحم بين الوالي والرعية يظهر بصور متعددة تتناسب مع أنماط الحياة في كل عصر ، فلا يقولن قائل بأن ما قام به أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يعتبر سائغاً في عصره ، ولكنه بعيد التصور في هذا العصر ، فإنه لا عبرة بالأشكال والصور ، وإنما العبرة بالأهداف والمقاصد التي بها تتحقق الحياة السعيدة للمسلمين ، وذلك برعاية حق الله أولاً ثم حقوق الناس العامة والخاصة.
وفيما أمر به أمير المؤمنين علي رضي الله عنه من إجراء العقوبة على المعتدي مع تنازل صاحب الحق دلالة على إدراكه رضي الله عنه لمقاصد الإسلام من حفظ الأمن ، وإشاعة السلام بين المؤمنين ، وذلك سيردع من تميل نفسه إلى الاعتداء على غيره إذا عرف بأن العقوبة ستجرى عليه ولو عفا عنه خصمه.
ومن مواقف عدله رضي الله عنه: ما رواه عاصم بن كليب عن أبيه قال: قدم على علي بن أبي طالب مال من أصبهان، فقسمه سبعة أسباع ، فوجد فيه رغيفاً ، فقسمه سبع كسر ، وجعل على كل جزء كسرة ، ثم أقرع بينهم، أيهم يعطى أول، وأما ما مبدأ المساواة الذي اعتمده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في دولته ، فيعد أحد المبادئ العامة التي أقرها الإسلام ، قال تعالى: ﴿ يأيها النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]، وجاءت ممارسة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لهذا المبدأ خير شاهد.
ومن هذه المواقف: حرصه على تقسيم المال فور وروده إليه على الناس بالتساوي ، بعد أن يحتجز منه ما ينبغي أن يأخذ من على المرافق العامة ، ولم يكن يستبيح لنفسه أن يأخذ من هذا المال إلا مثلما يأخذ غيره من الناس ، كما أنه كان يعطي معارضيه من الخوارج من العطاء مثلما يعطي غيرهم ، وهذا قبل سفكهم للدماء ، واعتدائهم على الناس.
وكان رضي الله عنه يساوي في العطايا بين الناس ، وذلك يكون اقتداء بالصديق في هذا الباب ، وكان رضي الله عنه لا يفضل شارفاً على مشروف ، ولا عربياً على أعجمي ، فقد دفع مرة طعاماً ودراهم بالتساوي إلى امرأتين إحداهما عربية، والثانية أعجمية ، فاحتجت الأولى قائلة: إني والله امرأة من العرب ، وهذه من العجم ، فأجابها علي: إني والله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلاً على بني إسحاق.
وكذلك لما طلب إليه تفضيل أشراف العرب وقريش على الموالي والعجم ، قال: لا والله ، لو كان المال لي لساويت بينهم ، فكيف وإنما هي أموالهم؟
وعن يحيى بن سلمة قال: استعمل علي عمرو بن سلمة على أصبهان ، فقدم ومعه مالـه وزقاق فيها عسل وسمن ، فأرسلت أم كلثوم بنت علي إلى عمرو تطلب منه سمناً وعسلاً ، فأرسل إليها ظرف عسل وظرف سمن ، فلما كان الغد خرج علي وأحضر المال والعسل والسمن ليقسم ، فعد الزقاق فنقصت زقين ، فسأله عنهما، فكتمه وقال: نحن نحضرهما ، فعزم عليه إلا ذكرها له ، فأخبره ، فأرسل إلى أم كلثوم فأخذ الزقين منها ، فراهما قد نقصا ، فأمر التجار بتقويم ما نقص منهما، فكان ثلاثة دراهم، فأرسل إليها فأخذها منها، ثم قسم الجميع.
وعن أبي رافع وقد كان خازناً لعلي رضي الله عنه على بيت المال ، قال: دخل يوماً وقد زينت ابنته ، فرأى عليها لؤلؤة من بيت المال قد كان عرفها ، فقال: من أين لها هذه؟ لله علي أن أقطع يدها ، قال: فلما رأيت جده في ذلك قلت: أنا والله يا أمير المؤمنين زينت بها ابنة أخي ، ومن أين كانت تقدر عليها لو لم أعطِها ، فسكت.
الحريات:
مبدأ الحرية من المبادئ الأساسية التي قام عليها الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، ويقضي هذا المبدأ بتأمين وكفالة الحريات العامة للناس كافة ضمن حدود الشريعة الإسلامية وبما لا يتناقض معها ، فقد كانت دعوة الإسلام لحرية الناس - جميع الناس - دعوة واسعة عريضة قلما تشتمل على مثلها دعوة في التاريخ ، وكانت أول دعوة أطلقها في هذا المجال هي دعوته الناس في العديد من الايات القرانية لتوحيد الله ، والتوجه له بالعبادة وحده دون سائر الكائنات والمخلوقات ، وفي دعوة التوحيد هذه كل معاني الحرية والاستقلال لبني الإنسان ، أضف إلى ذلك أن الإسلام عرف الحرية بكل معانيها ومدلولاتها ومفاهيمها ، فتارة تكون فعلاً إيجابياً كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتارة فعلاً سلبياً كالامتناع عن إكراه أحد في الدخول في الدين ، وفي أحيان كثيرة يختلط معناها بمعنى الرحمة ، والعدل والشورى والمساواة ، لأن كل مبدأ من هذه المبادئ التي نادى بها الإسلام لا يستقيم أمره ولا يمكن تحقيقه إلا بوجود الحرية ، وقد أسهم مبدأ الحرية مساهمة فعالة إبان حكم الخلفاء الراشدين خاصة بانتشار الدين الإسلامي ، وبتسهيل فتوحات المسلمين واتساع رقعة دولتهم ، لأن الإسلام كرم الإنسان وكفل حرياته على أوسع نطاق ، ولأن النظم السياسية الأخرى السائدة آنذاك في دولة الروم والفرس كانت أنظمة استبدادية وتسلطية ، وفئوية قاسى بسببها الرعايا - وبصورة خاصة المناوئون السياسيون والأقليات الدينية - أشد درجات الكبت والاضطهاد والظلم.
وأما في الإسلام في عهد النبي ﷺ والخلفاء الراشدين ، فقد كانت الحريات العامة المعروفة في أيامنا معلومة ومصونة تماماً، وقد كان لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه أقوال تدافع عن الحريات ، ومواقف تدعم هذا المبدأ في المجتمع الإسلامي. فمن أقواله: بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد. وقوله الموجز هذا يدل على أن الاعتداء على الناس كافة بأي شكل كان غير جائز في الإسلام ، وذكر المعتدين بعذاب الله يوم القيامة وفي أيام عهد الراشدين.
وعرف عنه قوله: ليس من العدل القضاء على الثقة بالظن، وقوله هذا يدل دلالة واضحة على أنه ليس من الجائز أخذ الناس بالشبهات والحكم عليهم لمجرد الظنون والشكوك ، بل ينبغي أن يكون ذلك بـ (الثقة) ، أي: باليقين المستند إلى أدلة دامغة وأكيدة لا تقبل الجدل حولها ، وخير هذه الأدلة ما نصت عليه الشريعة.
وبذلك يكون المبدأ الذي أقرته التشريعات الجزائية الحديثة القائل بأن المتهم يبقى بريئاً حتى إثبات العكس قد عرفه الإسلام منذ أمد بعيد.
وقد تجلى مبدأ الحرية على أروع صوره ومعانيه أيام علي رضي الله عنه ، فبالرغم من ظروف استثنائية (فتن ، مؤامرات ، وحروب) ، تبرِّر الحاجة إلى تقييد حرية الأفراد في ذهابهم وإيابهم وإقامتهم أو ما يسمى في العصر الحديث بقانون الطوارئ؛ إلا أن علياً لم يقيد حرية أحد ، سواء كان من أتباعه أم من خصومه ، ولم يكره أحداً على الإقامة والبقاء في ظل سلطانه أو على الخروج منه ولا حتى على المسير معه لمقاتلة أعدائه ، ولم يصد أحداً من الناس عن اللحاق بمعاوية، كما أنه لم يقيد حرية أصحاب عبد الله بن مسعود وعبيدة السلماني والربيع بن خُثَيْم ، ولم يكرههم على المسير معه لمقاتلة أهل الشام عندما رفضوا ذلك ، بل سمح لهم بالذهاب لبعض الثغور نزولاً عند رغبتهم، وعندما ثار عليه الخوارج بعد معركة صفين بسبب قبول التحكيم ، فإنه لم يكره أحداً منهم على البقاء في ظل سلطانه أو الخروج منه ، بل بالعكس فقد كان يأمر عماله بعدم التعرض لهم في طريقهم طالما أنهم لا يفسدون في الأرض ولا يعتدون على الناس، وقال لهم: ... إن لكم عندنا ثلاثاً ، لا نمنعكم صلاة في هذا المسجد ، ولا نمنعكم نصيبكم من هذا الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا ، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا.

يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022