فضائل وصفات علي بن أبي طالب رضي الله عنه ٣
الحلقة الثامنة والعشرون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1441 ه/ يناير 2020 م
ثالثاً: تواضع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
من الأخلاق القرآنية التي تجسدت في شخصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: خلق التواضع ، قال تعالى: ﴿ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً ﴾ [الإسراء: 37] ، وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ *وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ [لقمان: 18 - 19].
وفي اية الإسراء دعوة واضحة إلى التحلي بمكارم الأخلاق؛ من التواضع واللين ، ومعرفة قدر النفس؛ لأن النهي الصريح عن رعونات النفس من الكبر والبطر والأشر والاحتقار للناس ، والأمر بضده وهو التواضع والقصد من الأمور صراحة بعد أن علم بالمفهوم من النهي السابق ، وذيل الله تعالى النهي والأمر بما ذيل به النهي السابق من عدم رضاه وشدة سخطه على من اتصف بتلك الصفات فقال سبحانه: فعدم محبته لمن كان ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ ، يعني بغضه له ، كما دلت عليه الآية السابقة ، وفي هذا من الحث على التواضع ما فيه الكفاية للمؤمن، غير أن القران الكريم لم يقتصر على ذلك ، بل نوه بالمتواضعين أيما تنويه حيث قال الله جل ذكره: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا ﴾ [الفرقان: 63].
وهذا تنويه عظيم بالمتواضعين حيث وصفهم بالعبودية له ، وذلك أعظم تشريف لهم ، لأن العبودية له سبحانه ، هي أشرف الأوصاف ومن أعلى مراتب المحبين ، وبذلك يتفاخرون ولذلك يقول الشاعر:
ومما زادني شرفاً وتيهاً
وكدْتُ بأخمَصِي أطأُ الثُّريّا
دخولي تحتَ قولِك يا عبادي
وأن صيَّرتَ أحمدَ لي نبيا
وكان نبينا محمد ﷺ في ذروة الذُّرا من هذا الخلق العظيم في كل صوره وأشكاله ، ولا غرابة في ذلك فهو الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه ، وكان مما أدبه الله تعالى به في هذا الخلق قوله سبحانه وتعالى: ﴿ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الحجر: 88]. وقوله تعالى: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 215]. وخفض الجناح كناية عن التواضع لهم والرفق بهم، وقد قام النبي ﷺ بذلك حق القيام ، وظهر أثر هذا التواضع في كل أحواله الذاتية والاجتماعية والأسرية ، وفي كل زمان ومكان بحيث لا يخلو حال من أحواله ﷺ عن التواضع لله تعالى والمؤمنين.
وقد تأثر أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بالتربية القرآنية الكريمة ، والتربية النبوية الرشيدة ، فكانت هذه الصفة متجسدة في شخصيته الفذة؛ وإليك بعض المواقف:
(أ) أنا الذي أهنت الدنيا:
عن صالح بن أبي الأسود عمن حدثه: أنه رأى علياً قد ركب حماراً ودلَّى رجليه إلى موضع واحد ثم قال: أنا الذي أهنت الدنيا. وهكذا يشعر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالفرح لانتصاره على نفسه ، وظهوره بمظهر التواضع أمام الناس وهو خليفة المسلمين ، إن مناصب الدنيا خداعة غرارة ، وإن فتنة الجاه بها أعظم من فتنة المال ، فلطالما رأى الناس مسؤولين كانوا متواضعين قبل أن يلوا ، فلما تولوا مناصب كبيرة بدأ التعاظم في نفوسهم شيئاً فشيئاً ، حتى يكون من الصعب في اخر الأمر مخاطبتهم واللقاء معهم ، لكن أولياء الله المتقين كلما ازدادوا رفعة في المناصب الدنيوية زادوا تواضعاً للناس ، وشعروا بالسرور وهم يقومون بمظاهر التواضع التي تنفي عنهم صفة التجبر والكبرياء.
(ب) أبو العيال أحق أن يحمل:
روي عن علي رضي الله عنه: أنه اشترى تمراً بدرهم فحمله في ملحفة ، فقالوا: نحمل عنك يا أمير المؤمنين ، قال: لا ، أبو العيال أحق أن يحمل، فهذا مثل من تواضعه حيث حمل متاعه بنفسه مع كونه أمير المؤمنين ومع كبر سنه ، فلم ير في ذلك مسوغاً لقبول خدمة الناس له ، وهو بهذا يجعل من نفسه قدوة حسنة للمسلمين في التواضع ، فلو نازعت أحد الكبراء نفسه في تصور العيب من حمل المتاع فإنه بتذكره لموقف أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يزول ما في نفسه من ذلك ، ولو اعترض على أحد المتواضعين معترض فإن له من الاقتداء بأكبر أمير على وجه الأرض ما يرد هذا الاعتراض.
(ج) معاملته لعمه العباس رضي الله عنهما:
عن صهيب مولى العباس ، قال: رأيت علياً يقبل يد العباس ورجله ويقول: يا عم ، ارض عني. ولنتأمل ما ورد في وصف ضرار الصدائي لعلي رضي الله عنه حيث يقول: يعجبه من اللباس ما قصر ، ومن الطعام ما خشن ، كان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ، وينبئنا إذا تنبأناه ، ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له.
ومن أقوال أمير المؤمنين في التواضع: تواضع المرء يكرمه. إن العبد كلما رسخ في العلم بالكتاب والسنة وعمل بهما ، وعرف حقيقة نفسه ازداد تواضعاً لله ولخلقه ، كما إن علة من أعجب بنفسه من بعض دعاة اليوم إنما هي من قلة العلم والفهم ، إضافة إلى انصراف نظر الداعي إلى كثرة من حوله من الأتباع ، وغفلته عن النظر إلى من عند الله ، ثم إلى من فوقه من العلماء الربانيين ، وهذا من مداخل الشيطان الخفية على طلاب العلم والمحسوبين على حقل الدعوة ، وقد قيل من منشور الحكم: إذا علمت فلا تفكر في كثرة من دونك من الجهال ، ولكن انظر إلى من فوقك من العلماء.
ونختم هذه الصفة بقول أمير المؤمنين علي: ما أحسن تواضع الغني للفقير رغبة في ثواب الله ، وأحسن منه تيه الفقير على الغني ثقة بالله عز وجل. والتيه المقصود به: الاستغناء بالله عن ما في أيدي الأغنياء ، ولا يعني أبداً التكبر والغرور.
رابعاً: كرمه وجوده:
من الأخلاق القرآنية الكريمة التي تجسدت في شخصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، خلق الكرم والجود ، وقد كان تنويه القران الكريم بأهل الكرم عظيماً ، وقد كان هذا التنويه من أول القران الكريم حيث يقول سبحانه في مستهل ثاني سورة بعد البسملة: ، ثم وصفهم بقوله: ﴿ آلم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *أُولَئِكَ عَلَى هُدَىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 1 - 5].
وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ *سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 22 - 24] ، وقد كان رسول الله ﷺ قد بلغ مبلغ الكمال والعظمة في كافة الأخلاق ولا سيما خلق الكرم ، وقد وصفته خديجة رضي الله عنها بقولها: إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق، فهي تصفه بهذه الصفات البالغة عظمة وخطورة التي كان عليها قبل بعثته ورسالته ، ولم يكن قد تحمل أعباء أمته ، ولا قد أضفت عليه النبوة زيادة كمال وعظمة ، فكيف به بعد ذلك كله ؟! لا جرم أن كرمه ﷺ بعد ذلك سيكون بالغاً ذروة الذرى في كرم الأنبياء وسائر البشر ، وهو ما دلت عليه الدلائل النقلية الكثيرة.
وقد تأثر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بالتربية القرآنية والنبوية ، وترك لنا اثاراً بارزة دالة على تأصل خلق الجود والكرم في شخصيته العظيمة ، فقد ذكر الحافظ ابن كثير من خبر الأصبغ بن نباتة: أن رجلاً جاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين إن لي إليك حاجة ، فرفعتها إلى الله تعالى قبل أن أرفعها إليك ، فإن قضيتها حمدت الله وشكرتك ، وإن لم تقضها حمدت الله وعذرتك ، فقال علي: اكتب حاجتك على الأرض فإني أكره أن أرى ذل السؤال في وجهك ، فكتب: إني محتاج ، فقال علي: علي بحلة ، فأتى بها ، فأخذها الرجل فلبسها ، ثم أنشأ يقول:
كسوتني حُلَّةً تبلى محاسِنُها
فسوفَ أكسُوك من حسنِ الثَّنا حُلَلا
إن نلتَ حسنَ ثنائي نلتَ مكرُمةً
ولستُ أبغي بما قد قلتُه بَدَلا
إنَّ الثَّنا ليحيي ذكرَ صاحبه
كالغيثِ يحيي نداه السهلَ والجبلا
لا تزهد الدهر في خيرٍ تواقِعُهُ
فكل عبد سيُجْزى بالذي عَمِلا
فقال علي: علي بالدنانير ، فأتي بمئة دينار فدفعها إليه ، فقال الأصبغ: يا أمير المؤمنين ، حلة ومئة دينار ؟! قال: نعم، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «أنزلوا الناس منازلهم» ، وهذه منزلة هذا الرجل عندي، فهذا موقف جليل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الوقوف عند حاجات المحتاجين والاهتمام بأمورهم ورعاية مشاعرهم.
وإن أروع ما في هذا الخبر قوله: اكتب حاجتك على الأرض فإني أكره أن أرى ذل السؤال في وجهك ، فكم يعاني المحتاجون من الذل بين يدي من يعرضون عليهم حوائجهم ، وقد يتلعثمون فلا يستطيعون النطق ، ولقد كانت مشاعر ذلك المحتاج عظيمة حينما واجهه أمير المؤمنين علي بهذه المعاملة السامية ، ولقد صاغ هذه المشاعر بالأبيات المذكورة.
وقد كان رضي الله عنه يفرح بقدوم الضيف ، ويكرم إخوانه في الله ويتفقدهم ، فعن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قال: لم يأتني ضيف منذ سبعة أيام ! أخاف أن يكون الله قد أهانني.
وقال: لعشرون درهماً أعطيها أخي في الله أحب إلي من أن أتصدق بمئة درهم على المساكين.
وعندما سئل عن السخاء ، قال: ما كان منه ابتداء ، فأما ما كان من مسألة فحياء وتكرم، وقد جعل في حياته أوقافاً لله تعالى ، حيث جعل أرضه بينبع وقفاً وكتب فيها كتاباً: هذا ما أمر به علي بن أبي طالب ، وقضى في ماله: إني تصدقت بينبع ووادي القرى الأذينة وراعة في سبيل الله وذي الرحم القريب والبعيد ، ولا يوهب ولا يورث ، حياً أنا أو ميتاً.
وقد قال عن صدقته: لقد رأيتني وإني لأربط الحجر على بطني من الجوع ، وإن صدقتي لتبلغ اليوم أربعة الاف دينار.
ولم يرد بقوله أربعة الاف دينار زكاة ماله ، وإنما أراد الوقوف التي جعلها صدقة، كان الحاصل من دخلها صدقة هذا العدد ، فإن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لم يدخر مالاً ، ودليل ذلك: ما قاله ابنه الحسن بعد مقتله: لقد فارقكم رجل ما ترك صفراء ولا بيضاء إلا سبعمئة درهم ، بقيت من عطائه ، أراد أن يبتاع بها خادماً ، يعني علياً رضي الله عنه.
وكان يحث الناس على إكرام العشيرة فيقول: أكرم عشيرتك ، فإنهم جناحك الذي به تطير ، فإنك بهم تصول ، وبهم تطول ، وهم العدة عند الشدة ، أكرم كريمهم، وعد سقيمهم ، وأشركهم في أمورك ، ويسر عن معسرهم.
خامساً: الحياء من الله تعالى:
الحياء من أجلِّ مكارم الأخلاق ، لأنه يدل على طهارة النفس ، وحياة الضمير ، ويقظة الوازع الديني ، ومراقبة الله تعالى ، إذ من لم يكن ذا حياء لم يُقْرِ الضيف، ولم يفِئ بالوعد ، ولم يؤدِّ الأمانة ، ولم يقضِ لأحد حاجة ، ولا تحرَّى الجميل فاثره ، والقبيح فتجنبه ، ولا ستر عورة ، ولا امتنع من فاحشة ، وكثير من الناس لولا الحياء الذي فيه لم يؤد شيئاً من الأمور المفترضة عليه ، ولم يرع لمخلوق حقاً ، ولم يصل له رحماً ، ولا برّ له والداً؛ فإن الباعث على هذه الأفعال إما ديني - وهو رجاء عاقبتها الحميدة - وإما دنيوي علوي وهو حياء فاعلها من الخلق ، وقد تبين أنه لولا الحياء - إما من الخالق ، وإما من الخلائق - لم يفعلها صاحبها.
وعلى حسب حياة القلب تكون قوة خلق الحياء ، فكلما كان القلب أحيا كان الحياء أتمّ ، وقلة الحياء من موت القلب والروح، وهو من شعب الإيمان ، لأنه يكون باعثاً على أفعال البر ، ومانعاً من المعاصي؛ ولهذا كان من الأخلاق العليا التي كان للقران الكريم بها عناية عظيمة، فقد تحدث القرآن الكريم عن الحياء في الجانب النبوي في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ﴾ [الأحزاب: 53] ، فترى كيف حمله الحياء على عدم مواجهة أصحابه بما كان يرغب فيه من خروجهم ، ولم يستطع مشافهتهم بما يودُّه منهم، لأنه ﷺ كان أشد من العذراء في خدرها، وقد قال ﷺ : «الحياء لا يأتي إلا بخير».
وقد تجسد هذا الخلق في شخص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد حدثنا عن هذا الخلق ، فقال: إني لأستحيي من الله أن يكون ذنب أعظم من عفوي ، أو جهل أعظم من حلمي ، أو عورة لا يواريها ستري ، أو خلة لا يسدها جودي. فهذه أربع صفات من النقص قابلهن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأربع صفات من الكمال ، فالحياء من الله عز وجل يقتضي من الإنسان أن يتصف بالعفو عند المقدرة ، وذلك فيما إذا لم يكن الذنب فيه حد من حدود الله تعالى ، وأن يتصف بالعلم الذي يحتوي جهل الجاهلين، وأن يكون ستاراً لعيوب الناس ، وأن يتسع كرمه لسد حاجة من احتاج إليه ، ومما أعطى هذه الحكم وزنها الراجح أن أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه ربطها بالحياء من الله تعالى ، فهذه الصفات الأربع تعتبر من صفات الكمال عند العقلاء ، لكان كثيراً من العقلاء يتصف بها لكسب السمعة الدنيوية وسياسة الأمور بكسب الناس ورضاهم ، أما أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فإنه ربطها بالحياء من الله تعالى؛ لأن هدفه الأعلى ابتغاء مرضات الله جل وعلا ، ولا شك أن مَنْ هذا هدفه سيكون تمثيله لهذه الصفات أقوى بكثير ممن كان هدفه دنيوياً.
سادساً: شدة عبوديته وصبره وإخلاصه لله تعالى:
مارس علي رضي الله عنه مفهوم العبادة الشامل في حياته ، وتميز بقيامه بالليل، وأصبح من أهل التهجّد الذين قال الله فيهم: ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ [السجدة: 16] ، وقال تعالى فيهم: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 16 - 18]، وقال تعالى فيهم: ﴿ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيامًا ﴾ [الفرقان: 63 - 64].
وهذا ضرار بن ضمرة الكناني يصف علي بن أبي طالب لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم: كان يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل وظلمته ، وأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه ، وقد أرخى الليل سدوله ، وغارت نجومه؛ يتميل في محرابه ، قابضاً لحيته ، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين ، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: يا ربنا يا ربنا ! يتضرع إليه ، ثم يقول للدنيا: أبي تغررت أم إلي تشوفت ؟! هيهات هيهات ، غري غيري ، قد بنتك ثلاثاً، فعمرك قصير ، ومجلسك حقير ، وخطرك يسير، اه من قلة الزاد ، وبعد السفر ووحشة الطريق. فوكفت دموع معاوية على لحيته ، ما يملكها ، وجعل ينشفها بكُمِّه ، وقد اختنق القوم بالبكاء ، فقال: كذا كان أبو الحسن رحمه الله ، كيف وجدُكَ عليه يا ضرار؟ قال: وجد من ذبح واحدها في حجرها ، لا يرقأ دمعها ، ولا يسكن حزنها. ثم قام فخرج.
ودخل الأشتر النخعي على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو قائم يصلي بالليل ، فقال له: يا أمير المؤمنين: صومٌ بالنهار وسهر بالليل وتعب فيما بين ذلك ، فلما فرغ - علي - من صلاته قال له: سفر الاخرة طويل ، فيحتاج إلى قطعه بسير الليل.
وكان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يحث الناس على تقوى الله ومراقبته ، وخشيته ، فقد قال: أيها الناس ، اتقوا الذي إن قلتم سمع ، وإن أضمرتم علم ، وبادروا الموت الذي إن هربتم أدرككم ، وإن أقمتم أخذكم.
وكان يقول: يا أيها الناس خذوا عني هؤلاء الكلمات ، فلو ركبتم المُطِيَّ حتى تُنضوها - يعني: تهزلوها - ما أصبتم مثلها: لا يَرْجُوَنَّ عبدٌ إلا ربه ، ولا يخافن إلا ذنبه ، ولا يستحي إذا لم يعلم أن يتعلم ، ولا يستحي إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: لا اعلم ، واعلموا أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، ولا خير في جسد لا رأس له.
ففي هذه الوصية الجمع بين تصحيح التوحيد ، والإرشاد إلى آداب العلم ، حيث يوصي رضي الله عنه بتصحيح الاتجاه في مقامي الخوف والرجاء ، فالمؤمن الحق لا يرجو إلا الله؛ لأنه وحده المنعم بسائر النعم ، والذي تجري على أيديهم النعم من المخلوقين إنما هم وسائط وأسباب في وصول تلك النعم ، أما منشئ النعم وموجدها فهو الله سبحانه وتعالى ، والمؤمن الحق لا يخاف إلا من الله تعالى؛ لأنه هو الذي يملك ضره ونفعه ، والمخلوقون الذين يتوهم الناس أنهم مصدر خوف إنما هم وجميع الخلق في قبضة الله تعالى ، وإذا كان الله تعالى وحده هو الرازق وهو الخالق وحده ، وهو المالك وحده القادر على كل شيء ، فلم يرجو المؤمن سواه أو يخاف من غيره.
ولقد عبر أمير المؤمنين علي رضي الله عنه عن الخوف من الله تعالى بالخوف من الذنوب؛ لأن المراد هو الخوف من عاقبتها وهو عذاب الله تعالى ، فهو إرشاد لأهم السبل الموصلة إلى تحقيق مقام الخوف من الله تعالى.
ثم بين شيئاً من آداب التعلم؛ لأن أمور الدين إنما تؤخذ بالعلم ، فيذكر من آداب المتعلم: أن لا يمنعه الحياء من التعلم حتى لو كان كبير السن ، أو القدر.
ويذكر من آداب المعلِّم: أن لا يمنعه الحياء من أن يقول: لا أعلم فيما لا علم له به؛ لأن ذلك يحفظ عليه دينه ودين من سأله.
ثم يختم وصيته النافعة ببيان أصل من أصول الإيمان؛ ألا وهو الصبر ، حيث يعتبره من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، وذلك أن نجاح الأمور كلها يقوم على الصبر سواء في أمور الدنيا أو الآخرة، وقد مارس أمير المؤمنين علي رضي الله عنه مقام الصبر في حياته منذ نعومة أظافره ، وإسلامه سراً مع رسول الله ﷺ مروراً بما لاقاه في المغازي والسرايا وعهد الخلفاء الراشدين ، وما صحبها من أحداث جسام ، ومن ثم ما واجهه من صنوف الفتن في خلافته ، إلى أن انتهى الأمر بقتله ، كل هذه المراحل في حياته فيها الدروس البليغة لدعاة اليوم ، والتنبيه لهم لما تحتاجه الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى من الصبر والتحمل ودفع الثمن ابتغاء مرضاة الله تعالى.
وكان رضي الله عنه يحثُّ أصحابه على مقام الصبر ، فقد قال رضي الله عنه للأشعث بن قيس: إنك إن صبرت جرى عليك القلم وأنت مأجور ، وإن جزعت جرى عليك القلم وأنت مأزور. وقال رضي الله عنه: ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، فإذا قطع الرأس بار الجسم ، ثم رفع صوته فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له. وقال: الصبر مطية لا تكبو ، والصبر له مكانته المعروفة في دين الله ، فقد ذكر الله تعالى الصبر في آيات كثيرة منها قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10] ، وقد جاء ذكر فضائله في أحاديث كثيرة ، والصبر له ثلاثة أقسام: وهي الصبر على طاعة الله ، والصبر عن معصية الله ، والصبر على البلاء.
وقد كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حريصاً على أن تكون أعماله خالصة لوجه الله تعالى ، عاملاً بقوله تعالى: ﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾ [الأعراف:29] ، وقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]، وقوله تعالى: ﴿ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [غافر: 14] ، وقوله جل شأنه: ﴿ هُوَ الْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [غاقر: 65] ، فقد كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قد تعلم من رسول الله ﷺ أن الأعمال لا تقبل إلا إذا خلصت النية ، فمعنى ذلك أن الإخلاص ركن أساسي في العبادة ، وأن العبادة التي يفقد منها الإخلاص تردّ على صاحبها؛ كما جاء في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء على الشرك؛ من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه»، فقد كان علي رضي الله عنه محارباً للشرك بجميع أشكاله وأنواعه؛ سواء شرك الربوبية أو شرك الألوهية ، وكان حريصاً في سكناته وحركاته أن تكون أعماله خالصةً لوجه الله تعالى ، وكان يحث الناس خصوصاً طلاب العلم في البعد عن الرياء ، فقد قال رضي الله عنه: يا حملة العلم ، اعملوا به ، فإنما العالم من عمل بما علم ، ووافق عمله علمه ، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم ، تخالف سريرتهم علانيتهم ، ويخالف عملهم علمهم ، يجلسون حلقاً، فيباهي بعضهم بعضاً ، حتى إن أحدهم ليغضب على جليسه حين يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله عز وجل.
وقد أشار أمير المؤمنين علي رضي الله عنه إلى إحدى الأمراض الخطيرة عند بعض من يجلس للتعليم للمباهاة والسمعة، ويغضب على طلابه لو تركوه وذهبوا لغيره ، ولو كان هذا الذهاب فيه مصلحة لهم ، فليست مصلحة طلابه عنده هي المهمة ، بل المهم عنده مكانته وسمعته ، وإن لم يقل ذلك بلسان المقال ، فإنه يتبين من حكاية الحال، لأن من إخلاص الداعي إلى الله: أن يكون همه أن يتبع الناس الحق ولو خالفوا رأيه ، وهذه حال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقد قال: اقضوا كما كنتم تقضون ، فإني أكره الاختلاف حتى يكون الناس جماعة ، أو أموت كما مات أصحابي، وكان ذلك في رأي راه في عدم جواز بيع أم الولد ، وكان عمر يرى رأيه هذا ، ثم رجع علي عن رأيه الأول فرأى أنهن يبعن، وهذا تعليم للدعاة وطلاب العلم: أن الخلاف في الرأي المشروع أمر طبيعي يجب أن لا تضيق به الصدور ، ولا يؤثر على وحدة الصف ، إن دعاة اليوم في أشد الحاجة أن يرجعوا أنفسهم في هذا الخلق ، وأين هم منه ؟! وأن يتضرعوا إلى الله أن يمدهم بهذه الصفة الجميلة حتى ينالوا ثواب الله بعد مماتهم ، وتثمر دعوتهم إلى الله في دنياهم.
لقد كانت عبـادة علي رضي الله عنـه قائمـة على كمال الإخلاص لله تعالى ، واتباع هدي النبي ﷺ ، فالله هو المستحق للعبادة وحده ، فقد كانت حياته كلها عبادة ، ينتقل فيها من نوع إلى نوع ، ومن حال إلى حال ، يمتثل قـول الله عز وجل: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162 - 163] ، لقد كانت العبادة عاملاً مهماً في تزكية الأخلاق ، والاستقامة على شرع الله تعالى ، ولذلك عرّف أمير المؤمنين الاستقامة في تفسيره لمعنى استقاموا فقال: أدوا الفرائض.
سابعاً: شكره لله:
والشكر هو صرف العبد كل ما أنعم به عليه إلى ما خلق لأجله، يعني من نعمه الظاهرة والباطنة في النفس والمال ، فيصرف ذلك كله إلى عبادة ربه بما يليق بكل جارحة على الوجه الأكمل ، وإذا ما فعل ذلك كان قد أظهر نعم الله عليه، وأدى واجب شكرها.
يعتبر الشكر من أَجَلِّ الأخلاق السلوكية الإيمانية التي على المؤمن أن يتحلى بها في كل أحواله ، لما فيه من الاعتراف بالنعم لمسديها ، وقد دلَّ على عظم مكانته انضواء جُل الأخلاق الإيمانية تحته؛ من محبة ورضا وتوكل ، لأن الشكر لا يتم إلا بعد التحلي بها ، ولا يكون إلا عند استشعارها.
ولقد كانت عناية القران الكريم بهذا الخلق عظيمة كعظم مكانتـه في الأخلاق ، فقد ورد ذكره في نحو من سبعين اية ، أمراً به ، وحثاً عليه ، وثناء على أهله ، ووعداً لهم بحسن جزائه ، ونهياً عن ضده ، مما يدل على أن أمر هذا الخلق عظيم الشأن، فقد قرن الله سبحانه في كتابه الذكر بالشكر ، فقال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 152] ، وقرن سبحانه العبادة بالشكر ، قال تعالى: ﴿ فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 17]. مما يدل على تلازم العبودية بالشكر تلازماً وثيقاً.
وكان رسول الله ﷺ صاحب القدح المعلى في كل الأخلاق الحميدة؛ ومنها هذا الخلق ، وربَّى أصحابه ومنهم علي بن أبي طالب على هذا الخلق ، فكان لا يشعر بنعمة إلا شكر الله عليها ، وكان إذا خرج من الخلاء مسح بطنه بيده ، وقال: «يا لها من نعمة لو يعلم العباد شكرها».
وعن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه قال لرجل من أهل همدان: إن النعمة موصولة بالشكر ، والشكر متعلِّق بالمزيد ، وهما مقرونان في قرن ، فلن ينقطع المزيد من الله عز وجل حتى ينقطع الشكر من العبد. وكان رضي الله عنه يرى أن من شكر النعمة العفو عن الخصم ، فقد قال رضي الله عنه: إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للمقدرة عليه.
ثامناً: الدعاء لله:
فالدعاء باب عظيم ، فإذا فتح للعبد تتابعت عليه الخيرات ، وانهالت عليه البركات، ولذلك حرص أمير المؤمنين على حسن الصلة بالله وكثرة الدعاء ، قال تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60] ، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].
وقد لازم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه رسول الله ﷺ ، ورأى كيف كان رسول الله ﷺ يستغيث بالله ويستنصره ويطلب المدد منه ، وقد حرص أمير المؤمنين على أن يتعلم هذه العبادة من رسول الله ﷺ ، وأن يكون دعاؤه وتسبيحه على الصيغة التي يأمر بها رسول الله ﷺ ويرتضيها ، إذ ليس للمسلم أن يفضل على الصيغة المأثورة في الدعاء والتسبيح والصلاة على النبي ﷺ صيغاً أخرى مهما كانت في ظاهرها حسنة اللفظ ، جيدة المعنى ، لأن رسول الله ﷺ وهو معلم الخير والهادي إلى الصراط المستقيم ، وهو أعرف بالأفضل والأكمل.
وقد نسب أقوام من الدعاء والذكر المبتدع لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب كذباً وزوراً وبهتاناً ، فمن كان محباً لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، فعليه أن يتبع هديه ومنهجه ، فقد أرشدنا لمتابعة النبي ﷺ في الأقوال والأفعال.
وكان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه صاحب دعوة مستجابة ، فعن زاذان أبي عمر: أن رجلاً حدث علياً بحديث فقال: ما أراك إلا قد كذبتني ، قال: لم أفعل، قال: أدعو عليك إن كنت كذبت ، قال: ادع. فدعا فما برح حتى عمي.
وكان رضي الله عنه يقول عندما يثنى عليه: اللهم اغفر لي ما لا يعلمون ، ولا تؤاخذني بما يقولون ، واجعلني خيراً مما يظنون.
ويروي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله ، وليرد عليه من حوله: يرحمك الله، وليرد عليهم يهديكم الله ، ويصلح بالكم» ، وفي هذا الفعل من حسن الخلق تأدب مع الله سبحانه وتعالى بحمده والثناء عليه في مناسبة أمر فيها العبد بذلك.
قال الحليمي: العطاس يدفع الأذى من الدماغ ، الذي فيه قوة الفكر ، ومنه منشأ الأعصاب ، التي هي معدن الحس ، وبسلامته تسلم الأعضاء ، فيظهر بذلك أنها نعمة جليلة ، فناسب أن تقابل بالحمد لله ، لما فيه من الإقرار لله بالخلق والقدرة، وإضافة الخلق إليه لا إلى الطبائع.
وبيّن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أدباً من ادأب المسافر فيما يرويه عن رسول الله ﷺ بقوله: كان النبي ﷺ إذا أراد سفراً قال: «بك اللهم أصول ، وبك أجول ، وبك أسير».
وبيَّن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أدباً اخر من ادأب المسافر، وذلك لما أراد سفراً ووضع رجله في الركاب قال: «بسم الله ، فلما استوى قال: الحمد لله ، ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون ، ثم حمد الله ثلاثاً ، وكبر ثلاثاً ، ثم قال: اللهم لا إله إلا أنت ، ظلمت نفسي فاغفر لي ، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، ثم ضحك ، قال: فقيل: ما يضحكك يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت النبي ﷺ فعل مثل ما فعلت ، وقال مثل ما قلت ، ثم ضحك ، فقلنا: ما يضحكك يا نبي الله ؟ قال: عجبت للعبد، إذا قال: لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت؛ يعلم أنه لا يغفر الذنوب إلا هو، وعن ابن أعبد قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا بن أعبد ، هل تدري ما حق الطعام؟ قال: قلت: وما حقه يا بن أبي طالب؟ قال: تقول: بسم الله ، اللهم بارك لنا فيما رزقتنا ، قال: وتدري ما شكره إذا فرغت ؟ قال: قلت: وما شكره؟ قال: تقول: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا.
وكان رضي الله عنه إذا رأى الهلال قال: اللهم إني أسألك خير هذا الشهر وفتحه ونصره وبركته ورزقه ونوره وطهوره وهداه ، وأعوذ بك من شره وشرّ ما فيه وشر ما بعده، وكان يقول في السجود: رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، وكان يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني وارزقني.
وكان يُعَلِّمُ من دخل السوق هذا الدعاء فيقول: إذا دخلت السوق فقل: بسم الله الرحمن الرحيم ، توكلت على الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، اللهم إني أعوذ بك من يمين فاجرة ، وصفقة خاسرة ، ومن شر ما أحاطت به هذه السوق.
وكان يقول: ما من كلمات أحب إلى الله من أن يقول العبد: الله لا إله إلا أنت ، اللهم لا أعبد إلا إياك ، اللهم لا أشرك بك شيئاً ، اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي ، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت .
وكان يقول: اللهم ثبتنا على كلمة العدل بالرضا والصواب ، وقوام الكتاب ، هادين مهديين ، راضين مرضيين ، غير ضالين، ولا مضلين.
ومن أدعيته رضي الله عنه: اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء ، وبجبروتك الذي غلبت بـه كل شيء ، وبعظمتك التي غلبت بها كل شيء ، وسلطانك الذي ملأت به كل شيء ، وبقوتك التي لا يقوم لها شيء ، وبنورك الذي أضاء له كل شيء ، وبعلمك الذي أحاط بكل شيء، وباسمك الذي تبيد له كل شيء ، وبوجهك الباقي بعد فناء كل شيء ، يا الله يا رحمن يا رحيم ، اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم ، والذنوب التي تورث الندم ، واغفر لي الذنوب التي تحبس القسم ، واغفر لي الذنوب التي تغير النعم ، واغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء ، وتديل الأعداء ، واغفر لي الذنوب التي تحبس غيث السماء ، وترد الدعاء ، واغفر لي الذنوب التي تردني إلى النار. وهذا الدعاء يبين افتقار أمير المؤمنين علي رضي الله عنه إلى ربه ، وخوفه من ذنوبه ، ويعلمنا كيفية التعامل مع أسماء الله الحسنى ، ودعاء الله بها سبحانه وتعالى ، وهذا الدعاء يسلط الأضواء على عبودية أمير المؤمنين لله عز وجل.
وعن علي رضي الله عنه قال لقّنني رسول الله ﷺ هؤلاء الكلمات ، وأمرني إن نزل بي كربة أو شدة أن أقولها: لا إله إلا الله الحليم الكريم ، سبحانه ، تبارك الله رب العرش العظيم ، الحمد لله رب العالمين. وكان عبد الله بن جعفر يلقنها الميت ، وينفث بها على الموعوك، ويعلمها المغترب من بناته.
هذه بعض صفاته التي كانت ثماراً لتوحيده وإيمانه بالله واستعداده للقدوم على الله تعالى ، وسوف يلاحظ القارئ الكريم كثيراً من صفاته بإذن الله تعالى ، كالشجاعة والحلم والفصاحة والبلاغة وغيرها من الصفات ، من خلال الأحداث التي يمرّ بها في هذا الكتاب.
يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf