علي بن أبي طالب رضي الله عنه (اسمه ونسبه ، وكنيته وصفته ، وأسرته)
الحلقة الأولى
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1441 ه/ يناير 2020 م
أولاً: اسمه وكنيته ولقبه:
1- اسمه ونسبه: هو علي بن أبي طالب (عبد مناف) بن عبد المطلب ، يقال له: شيبة الحمد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، فهو ابن عم رسول الله ﷺ ويلتقي معه في جده الأول عبد المطلب بن هاشم ، ووالده أبو طالب شقيق عبد الله والد النبي ﷺ ، وكان اسم علي عند مولده أسد ، سمته بذلك أمه رضي الله عنها باسم أبيها أسد بن هاشم ، ويدل على ذلك ارتجازه يوم خيبر حيث يقول:
أنا الذي سَمَّتني أمي حيدره
كليث غاباتٍ كريهِ المنظره
وكان أبو طالب غائباً ، فلما عاد ، لم يعجبه هذا الاسم وسماه علياً .
2-كنيته: أبو الحسن ، نسبة إلى ابنه الأكبر الحسن؛ وهو من ولد فاطمة بنت رسول الله ﷺ ، ويكني أيضاً بأبي تراب كنية كناه بها النبي ﷺ ، وكان يفرح إذا نودي بها ، وسبب ذلك: أن الرسول ﷺ جاء بيت فاطمة رضي الله عنها فلم يجد علياً في البيت ، فقال: أين ابن عمك؟
قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج فلم يقل عندي ، فقال ﷺ لإنسان: انظر أين هو؟ فجاء فقال: يا رسول الله ! هو في المسجد راقد ، فجاء رسول الله ﷺ وهو مضطجع وقد سقط رداءه عن شقه ، وأصابه تراب، فجعل رسول الله ﷺ يمسحه عنه ويقول: «قم أبا تراب»، ومن رواية البخاري: والله ما سماه إلا النبي. ومن كُناهُ: أبو الحسن والحسين ، وأبو القاسم الهاشمي، وأبو السبطين.
3 - لقبه: أمير المؤمنين ، ورابع الخلفاء الراشدين.
ثانياً: مولده:
اختلفت الروايات وتعددت في تحديد سنة ولادته ، فقد ذكر الحسن البصري أن ولادته قبل البعثة بخمس عشرة أو ست عشرة سنة، وذكر ابن إسحاق أن ولادته قبل البعثة بعشر سنين، ورجح ابن حجر قوله، وذكر الباقر محمد بن علي قولين: الأول: كالذي ذكره ابن إسحاق ، ورجحه ابن حجر؛ وهو أنه ولد قبل البعثة بعشر سنين، وأما الثاني: فيذكر أنه ولد قبل البعثة بخمس سنين، وقد مِلْتُ إلى قول ابن حجر وابن إسحاق ، فيكون مولده على التحقيق قبل البعثة بعشر سنين، وذكر الفاكهي، بأن علياً أول من ولد من بني هاشم في جوف الكعبة. وأما الحاكم فقال: إن الأخبار تواترت بأن علياً ولد في جوف الكعبة.
ثالثاً: الأسرة وأثرها في الأعقاب:
لقد دلّ علم التشريح؛ وهو دراسة التركيب الجسدي ، وعلم النفس ، وعلم الأخلاق ، وعلم الاجتماع ، على تأثير الدم والسلالات في أخلاق الأجيال وصلاحياتها ومواهبها ، وطاقاتها ، إلى حدٍّ معين ، وفي أكثر الأحوال ، وذلك عن ثلاث طرق:
(أ) القيم والمثل التي ما زال آباء هذه الأسرة وأجدادها يؤمنون بها أشد الإيمان، ويحافظون عليها أو يحاولون أن يحافظوا عليها أشد المحافظة ، ويتنبّلون بها ويمجّدون ، ويعتبرون من سار عليها من أبناء الأسرة ، أو خالفها وحاد عنها شارداً غريباً، ويرون في ذلك غضاضة ، وسقوط همة ، وقلة مروءة ، وعقوقاً للآباء ، وإساءة إليهم لا تغتفر في قوانين هذه الأسرة العرفية المتوارثة.
(ب) حكايات الاباء وعظماء الأسرة في البطولة والفتوة والفروسية ، والشهامة ، والأنفة والإباء ، والجود والسخاء، وحماية المظلومين والضعفاء ، تتناقلها الأجيال وتتباهى بها ، وذلك من سنٍّ مبكرة ، ومن أيام الصبا إلى سنِّ الشباب والكهولة ، فتؤثر في تكوين عقليَّتها ومشاعرها ، وتعيين المقاييس للعظمة والرجولة ، والبرِّ بالآباء ، وتبرير شهرة الأسرة والسلالة.
(ج) تأثير الدم الموروث في أعضاء الأسرة كابراً عن كابر ، في أسرة حافظت على أنسابها وأصالتها ، وذلك ما أيده علم السلالات، وهذا ليس على إطلاقه ، وقاعدة مطردة لا تقبل استثناء ولا شذوذاً ، كالسنن الإلهية التي قال الله عنها: ﴿ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ﴾ [فاطر: 43] ، وإلى ذلك أشار النبي ﷺ في قوله: «الناس معادن كمعادن الفضة والذهب ، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا»، وقوله ﷺ: «من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه»، وليس في ذلك من تقديس الدم الموروث الدائم ، وتركُّز الرئاسة الدينية والزعامة الروحية العلمية في أسرة معينة ، واحتكارها لقيادة أمة ، دينياً وروحياً وعلمياً بشكل دائم ، وهو الذي عانى منه العالم القديم -قبل الإسلام- فساداً اجتماعياً وخلقياً جارفاً ، واستبداداً فظيعاً ، واستغلالاً مادياً شنيعاً ، تزخر به كتب التاريخ وشهادات المؤرخين للإمبراطوريتين الرومية والساسانية ، والمجتمعين الإغريقي والهندي وغيرها من الجاهليات ، ولذلك يحسن بنا أن نشير إلى وضع الأسرة والسلالة ــ اللتين ولد ونشأ فيهما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ــ العرقي والاجتماعي ، وما كانتا تمتازان به من خصائص وأعراف ، وتقاليد وتراث خُلقي ونفسي ، وكيف كان العرب ينظرون إليهما ويقرُّون لهما بالفضل ، ونبدأ في ذلك بقريش ، ثم ببني هاشم.
1- قبيلة قريش:
أقرّ العرب كلّهم بعلو نسب قريش ، والسيادة ، وفصاحة اللغة ، ونصاعة البيان، وكرم الأخلاق ، والشجاعة والفتوة ، وذهب ذلك مثلاً لا يقبل نقاشاً ولا جدلاً ، وكانوا حلفاء متألفين متمسكين بكثير من شريعـة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، ولم يكونوا كالأعراب الذين لا يوقرهم دين ، ولا يزينهـم أدب ، وكانوا يحبُّون أولادهم، ويحجُّون البيت ويقيمون المناسك ، ويكفّنون موتاهم ، ويغتسلون من الجنابة ، ويتبرؤون من الهرابذة ، ويتباعدون في المناكح من البنت وبنت البنت والأخت وبنت الأخت ، غيرةً وبعداً من المجوسية ، ونـزل القران بتأكيد صنيعهم وحسن اختيارهم ، وكانـوا يتـزوجون بالصَّـداق والشهود ويطلقون ثلاثـاً ، وما زاد شرفهم أنهم كانوا يتزوجون من أي قبيلة شاؤوا ، ولا شرط عليهم في ذلك ، ولا يزوّجون أحداً حتى يشترطوا عليه ، أن يكون متحمساً على دينهم ، يرون ذلك لا يحل لهم ولا يجوز لشرفهم ، حتى يدان إليهم وينقاد.
2- بنو هاشم:
أما بنو هاشم فكانوا واسطة العقد في قريش ، وإذا قرأنا ما حفظه التاريخ وكتب السيرة من أخبارهم وأقوالهم - وهو قليل من كثير جداً - استدللنا به على ما كان يمتاز به هؤلاء من مشاعر الإنسانية الكريمة ، والاعتدال في كل شيء ، ورجاحة العقل ، وقوة الإيمان بما للبيت من مكانة عند الله ، والبعد عن الظلم ومكابرة الحق ، وعلو الهمة ، والعطف على الضيف والمظلوم ، والسخاء ، والشجاعة ، وما تشتمل عليه كلمة (الفروسية) عند العرب من معان كريمة وخلال حميدة ، السيرة التي تليق بأجداد الرسول الكريم ﷺ ، تتفق ويتفق مع ما كان يفضله ويدعو إليه من مكارم الأخلاق، غير أنهم عاشوا في زمن الفترة، وسايروا أبناء قومهم في عقائد الجاهلية ، وعباداتها ولم يصل بنو هاشم إلى هذه المكانة في مجتمعهم إلا بالتضحية والعطاء والبذل وخدمة الناس.
3- عبد المطلب بن هاشم:
جد الرسول ﷺ وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: ولي عبد المطلب بن هاشم السقاية والرفادة، بعد عمِّه المطلب، فأقامهما للناس ، وأقام لقومه ما كان اباؤه يقيمون قبله لقومهم من أمرهم ، وشرُفَ في قومه شرفاً لم يبلغه أحد من آبائه ، وأحبّه قومه وعظم خطره فيهم.
ولم يكن عبد المطلب أغنى رجل في قريش ، ولم يكن سيد مكة الوحيد المطاع، كما كان قُصي ، إذ كان في مكة رجال كانوا أكثر منه مالاً وسلطاناً إنما كان وجيه قومه ، لأنه كان يتولى السقاية والرفادة ، وبئر زمزم ، فهي وجاهة ذات صلة بالبيت. ويتجلى إيمان عبد المطلب بأن لهذا البيت مكانة عند الله ، وأنه حاميه ومانعه ، وتتجلى نفسية سيد قريش السامية ، وشخصيته القوية الشامخة في حديث دار بينه وبين أبرهة ملك الحبشة ، وقد غزا مكة وأراد أن يهين البيت ويقضي على مكانته ، وقد أصاب لعبد المطلب مئتي بعير ، فاستأذن له عليه ، وقد أعظمه أبرهة ونزل له عن سريره فأجلسه معه ، وسأله عن حاجته، فقال حاجتي أن يردّ علي الملك مئتي بعير أصابها لي. فلما قال له ذلك زهد فيه الملك وتفادته عينه ، وقال: أتكلمني في مئتي بعير أصبتها لك ، وتترك بيتاً هو دينك ودين ابائك ، قد جئت لهدمه ، لا تكلِّمُني فيه؟! قال عبد المطلب: إني أنا رب الإبل ، وإن للبيت رباً سيمنعه ، قال: ما كان يمتنع مني ، قال: أنت وذاك. وقد كان ما قاله عبد المطلب ، فحمى رب البيت بيته ، وجعل كيد أبرهة وجيشه في تضليل ، قال تعالى: ﴿ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ﴾[الفيل: 3 - 5]. وكان عبد المطلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي ، ويحثهم على مكارم الأخلاق وينهاهم عن دنيئات الأمور، ومات عبد المطلب بعد أن جاوز الثمانين، وعمر الرسول ثماني سنين ، ومعنى ذلك أنه توفي حوالي سنة 578 للميلاد، وذُكر أنه لم تقم بمكة سوق أياماً كثيرة لوفاة عبد المطلب.
4- أبو طالب والد علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
أبو طالب لا مال له ، وكان يحب ابن أخيه حباً شديداً ، فإذا خرج فيخرج معه ، فقد كان أبو طالب هو الذي يلي أمر رسول الله ﷺ بعد جدّه ، فكان إليه ومعه، وعندما أعلن رسول الله ﷺ الدعوة إلى الله وصدع بها، وقف أبو طالب بجانب رسول الله ﷺ وصمم على مناصرته وعدم خذلانه ، فاشتد ذلك على قريش غماً وحسداً ومكراً ، وإن المرء ليسمع عجباً ويقف مذهولاً أمام مروءة أبي طالب مع رسول الله ، فقد ربط أبو طالب مصيره بمصير ابن أخيه محمد ﷺ ، بل واستفاد من كونه زعيم بني هاشم أن ضم بني هاشم ، وبني المطلب إليه في حلف واحد على الحياة والموت ، دفاعاً لرسول الله ﷺ ، مسلمهم ومشركهم على السواء، وأجار ابن أخيه محمداً ﷺ إجارة مفتوحة لا تقبل التردد أو الإحجام ، ولما رأى أبو طالب من قومه ما سرّه من جهدهم معه ، وحدبهم عليه ، جعل يمدحهم ويذكر قديمهم ، وفضل رسول الله ﷺ فيهم ، ومكانه منهم ليشد لهم رأيهم وليحدبوا معه على أمره فقال:
إذا اجتمعتْ يوماً قريشٌ لمفخرةٍ
فعبدُ مناف سِرُّها وصميمُهَا
وإن حُصّلت أشراف عبدِ منافها
ففي هاشمٍ أشرافُها وقديمُهَا
وإن فخرتْ يوماً فإن محمداً
هو المصطفى من سرّها وكريمُها
تداعت قريشٌ غثُّها وسمينُها
علينا فلم تظفرْ وطاشت حلومُها
وكنا قديماً لا نُقِرُّ ظلامة
إذا ما ثنوا صُعْر الخدود نُقيمها
ولما خشي أبو طالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه ، قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرمة مكة ، وبمكانه منها ، وتودد فيها أشراف قومه ، وهو على ذلك ، يخبرهم في ذلك من شعره أنه غير مسلم رسول الله ﷺ ، ولا تاركه لشيء أبداً حتى يهلك دونه ، فقال:
ولمّا رأيتُ القوم لا وُدّ فيهمُ
وقدْ قطعوا كلَّ العُرى والوسائِلِ
وقد صارَحونا بالعداوةِ والأذى
وقد طاوَعُوا أمرَ العَدُوّ المُزايلِ
وقد حالفوا قوماً علينا أَظنَّةً
يعضون غيظاً خلْفنا بالأناملِ
صبرتُ لهم نفسي بسمراءَ سمحةٍ
وأبيضَ عضب من تراث المقاولِ
وأحضرتُ عندَ البيت رهطي وإخوتي
وأمسكْتُ من أثوابه بالوصائلِ
وتعوذ بالبيت وبكل المقدسات التي فيه ، وأقسم بالبيت بأنه لن يسلم محمداً ولو سالت الدماء أنهاراً ، واشتدت المعارك مع بطون قريش:
كذبتم وبيتِ الله نُبْزى محمداً
ولمّا نطاعنْ دونه ونناضلِ
ونُسلمه حتى نصرَّع حولَهُ
ونَذْهَل عن أبنائنا والحلائلِ
وينهضُ قومٌ في الحديدِ إليكم
نهوضَ الرّوايا تحتَ ذاتِ الصَّلاصلِ
واستمر أبو طالب في مناصرة ابن أخيه ، واستطاع أن يغزو المجتمع القرشي بقصائده الضخمة التي هزت كيانه هزَّاً ، ولما تغلغل الإسلام في قلوب أبناء بعض القبائل ، اجتمعت قريش فائتمروا بينهم أن يكتبوا كتاباً يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب ، على ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ، ولا يبيعوهم شيئاً ولا يبتاعوا منهم ، وكتبوا صحيفة وعلقوها في جوف الكعبة ، وتواثقوا على ذلك، وانحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب فدخلوا معه في شعبه، وذلك في مُحرَّم سنة سبع من النبوة ، ومكث بنو هاشم على ذلك نحو ثلاث سنوات لا يصل إليهم شيء إلا سراً ، ثم كان ما كان من أكل الأرضة للصحيفة ، وإخبار النبي ﷺ أبا طالب بذلك ، وتمزيق الصحيفة ، وبطلان ما فيها، ومات أبو طالب في النصف من شوال في السنة العاشرة من النبوة، وهو ابن بضع وثمانين سنة ، ولم يُسلم أبو طالب، وهو العام الذي ماتت فيه خديجة زوج النبي ﷺ ، وتتابعت على رسول الله ﷺ المصائب ، وسمِّي هذا العام بعام الحزن.
5 - أم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
هي الصحابية الجليلة السيدة الفاضلة فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي الهاشمية، وهي أول هاشمية ولدت هاشمياً، وقد حظيت برعاية النبي ﷺ حينما كفله عمه أبو طالب بناء على وصية أبيه عبد المطلب، فكانت له أماً بعد أُمِّهِ ، تقوم على شؤونه وترعى أموره ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً ، وقد قضى الحبيب المصطفى قرابة عقدين من حياته في كنفها، وقد استجابت لدعوة الإسلام وأصبحت من السابقات الأوليات، وصارت من صفوة النساء ممن أخذت المكانة العليا في ساحة الفضيلة ، وكانت رضي الله عنها مثالاً للرأفة والرحمة في معاملة الزهراء رضي الله عنها ، إذ كانت تقوم بمساعدتها براً بها وبوالدها ﷺ ، وروي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه قال: قلت لأمي: اكفي فاطمة بنت رسول الله ﷺ سقاية الماء والذهاب في الحاجة ، وتكفيك هي الطحن والعجن، كما أن صلتها بالنبي ﷺ أضافت إلى شخصيتها مكرمة حفظ الحديث وروايته ، فقد روت عن النبي ﷺ مجموعة من الأحاديث ، وقد كانت لها مكانة كبرى عند رسول الله ﷺ ، ويخصها بالهدية ، فقد أورد ابن حجر بالإصابة: أن علياً رضي الله عنه قال: أهدى إليَّ رسول الله ﷺ حُلَّة استبرق فقال: اجعلها خُمُراً بين الفواطم، فشققتها أربعة أخمرة ، خماراً لفاطمة بنت رسول الله ﷺ ، وخماراً لفاطمة بنت أسد رضي الله عنها، وخماراً لفاطمة بنت حمزة رضي الله عنها. ولم يذكر الرابعة.
ولقد كان حظ السيدة فاطمة مباركاً في حياتها وعند وفاتها ، وحظيت بالتكريم؛ إذ توفيت في حياة الحبيب المصطفى ﷺ ، وأما ما روي عن أنس في دفنها فهو واهٍ ضعيف شديد الضعف ، ولا يتقوى من طرقه الأخرى التي جاءت لأنها كلها ضعيفة ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد أم علي رضي الله عنها ، دخل عليها رسول الله ﷺ فجلس عند رأسها فقال: «رحمك الله يا أمي ، كنت أمي بعد أمي ، تجوعين وتشبعينني ، وتعرين وتكسينني، وتمنعين نفسك طيباً وتطعمينني ، تريدين بذلك وجه الله والدار الاخرة» ، ثم أمر أن نغسل ثلاثاً ثلاثاً ، فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول الله ﷺ بيده ، ثم خلع رسول الله ﷺ قميصه فألبسها إياه وكفنها ببرد فوقه ، ثم دعا رسول الله ﷺ أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود يحفرون ، فحفروا قبرها ، فلما بلغوا اللحد حضره رسول الله ﷺ بيده ، وأخرج ترابه بيده ، فلما فرغ دخل رسول الله ﷺ فاضطجع فيه وقال: « الله الذي يحي ويميت وهو حي لا يموت ، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ، ولقنها حجتها ، ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي ، فإنك أرحم الراحمين ». وكبَّر عليها أربعاً وأدخلها اللحد هو والعباس وأبو بكر رضي الله عنهما.
وقد احتج من احتج بهذا الحديث على جواز التوسل بالذوات ، وقد قام الأستاذ أبو عبد الرحمن جيلان بن خضر العروسي في رسالته لمرحلة الماجستير بتتبع طرق الحديث ، وبيَّن ضعفها وبطلانها ، ووضح أن الحديث قد روي من خمسة طرق ، ثلاثة موصولة ، ومرسلان؛ فلم تخل واحدة منها من عدة علل فهو شديد الضعف ، ومع هذا لم يرد التوسل المزعوم إلا في طريقة واحدة وهي طريق أنس ، فهذه الأحاديث يمكن أن يعل بها الحديث لأن الكل ضعيف فيعل بعضه البعض ، ولا يزيدها إلا وهناً وضعفاً ، وأما من ناحية المتن فهو منقوض من عدة وجوه:
- إن في هذا الحديث مبالغة وإطراء ومتجاوزاً للمألوف في ذلك العهد النبوي.
- هذا الحديث يخالف هديه وسنته في غسل جنازة المرأة ، وذلك في أمور منها: سكبه بيده الشريفة لم يرد إلا في هذه القصة ، وأما الذي ورد في غسل بنته زينب أنه أمرهن بالغسل ، ولم يسكب بنفسه ، فقد روى البخاري ومسلم عن محمد بن سيرين ، عن أم عطية قالت: دخل علينا النبي ﷺ ونحن نغسل ابنته فقال: «اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر ، واجعلن في الآخرة كافوراً ، فإذا فرغتن فآذنني» ، قالت: فلما فرغنا ألقى إلينا حقوه فقال: «أشعرنها إياه» ولم يزد على ذلك.
- إن الحفر بيده وإخراجه التراب بيده والاضطجاع فيه كلها لم تعهد إلا في هذا الحديث الضعيف ، مخالفاً هديه المشهور عنه وهو من المبالغة والإطراء.
- ثم لفظ الدعاء الذي بدأ بلفظة الغيبة ثم الخطاب بعيد عن الأسلوب المعهود في الدعوات المأثورات: «اللهم أنت...» ، ولم نر في غير هذا الدعاء «الله الذي...».
- ومما يدل على ضعفه أن الراوي اعترف بأن النبي ﷺ لم يفعل هذه الأفعال إلا في هذه المرة ، ولكنه أراد أن يبرر ذلك بما ذكره ، وهيهات.
6 - إخوة علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
كان لأبي طالب أربعة أبناء ، وهم: طالب ، وهو الذي تكنَّى به ، وعقيل ، وجعفر، وعلي ، وبنتان هما: أم هانئ، وجمانة ، وكلهم من فاطمة بنت أسد ، وكان بين كل واحد منهم وبين أخيه عشر سنوات ، فطالب كان أكبر من عقيل بعشر سنوات ، وكذلك الشأن مع جعفر وعلي ، فكان جعفر أكبر من علي بعشر سنوات. وهذه نبذة مختصرة عن إخوة علي رضي الله عنه:
(أ) طالب بن أبي طالب: هلك طالب مشركاً بعد غزوة بدر ، وقيل: إنه ذهب فلم يرجع ، ولم يُدْرَ له موضع ولا خبر ، وهو أحد الذين تاهوا في الأرض ، وكان محباً لرسول الله ﷺ ، وله فيه مدائح ، وكان خرج إلى بدر كرهاً، وجرت بينه وبين قريش حين خرجوا إلى بدر محاورة فقالوا: والله يا بني هاشم لقد عرفنا - وإن خرجتم معنا - أن هواكم مـع محمد ، فرجع طالب إلى مكة مع من رجع ، وقال شعراً وقصيدة ثناء على النبي ﷺ ، وبكى فيها أصحاب قليب بدر.
(ب) عقيل بن أبي طالب: فكان يكنى أبا يزيد ، تأخر إسلامه إلى عام الفتح ، وقيل: أسلم بعد الحديبية ، وهاجر في أول سنة ثمان ، وكان أسر يوم بدر ففداه عمه العباس ، وقع ذكره في الصحيح في مواضع ، وشهد غزوة مؤتة ، ولم يسمع له ذكر في الفتح وحُنين ، كأنه كان مريضاً ، أشار إلى ذلك ابن سعد ، لكن روى الزبير بن بكار بسنده إلى الحسن بن علي: أن عقيلاً كان ممن ثبت يوم حنين ومات في خلافة معاوية ، وفي تاريخ البخاري الأصغر بسند صحيح: أنه مات في أول خلافة يزيد قبل الحرة، وعمره ست وتسعون سنة.
(ج) جعفر بن أبي طالب: فهو أحد السابقين إلى الإسلام ، وكان يحب المساكين ويجلس إليهم ، يخدمهم ويخدمونه ، يحدثهم ويحدثونه ، وهاجر إلى الحبشة ، فأسلم النجاشي ومن تبعه على يديه ، ولقد تحدثت عنه في كتابي السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث. واستشهد بموته من أرض الشام مقبلاً غير مدبر.
(د) أم هانئ بنت أبي طالب: ابنة عم النبي ﷺ ، فقيل: اسمها فاختة ، وقيل: اسمها فاطمة ، وقيل: هند ، والأول أشهر. وكانت زوج هبيرة بن عمرو بن عائد المخزومي ، وكان له منها عمرو ، وبه كان يكنى ، وفي فتح مكة أجارت أم هانئ رجلين من بني مخزوم ، وقال لها رسول الله ﷺ : «أجرنا من أجرت يا أم هانئ» ، وروت أم هانئ عن النبي ﷺ في الكتب الستة وغيرها، قال الترمذي وغيره: عاشت بعد علي رضي الله عنه.
(هـ) جُمانة بنت أبي طالب: هي أم عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، ذكرها ابن سعد في ترجمة أمها فاطمة بنت أسد ، وأفردها في باب بنات عم النبي ﷺ ، وقال: ولدت لأبي سفيان بن الحارث ابنَه جعفر بن أبي سفيان ، وأطعمها رسول الله ﷺ من خيبر ثلاثين وسقاً .
7- أزواجه وأولاده:
ولد له من فاطمة بنت رسول الله ﷺ : الحسن والحسين (وسيأتي الحديث عنهم مفصلاً).. وزينب الكبرى وأم كلثوم الكبرى. وولد له من خولة بنت جعفر بن قيس بن مسلمة: محمد الأكبر (محمد بن الحنفية). وولد له من ليلى بنت مسعود بن خالد من بني تميم: عبيد الله ، وأبو بكر. وولد له من أم البنين بنت حِزام بن خالد بن جعفر بن ربيعة: العباس الأكبر ، وعثمان ، وجعفر الأكبر ، وعبد الله. وولد له من أسماء بنت عميس الخثعمية: يحيى ، وعون. وولد له من الصهباء: عمر الأكبر ، ورقية. وولد له من أمامة بنت العاص بن الربيع: محمد الأوسط. وولد له من أم سعيد بنت عروة بن مسعود الثقفي: أم الحسن ، ورملة الكبرى. وولد له من أمهات أولاد: محمد الأصغر ، وأم هانئ ، وميمونة، وزينب الصغرى ، ورملة الصغرى ، وأم كلثوم الصغرى ، وفاطمة ، وأمامة ، وخديجة ، وأم الكرام ، وأم سلمة ، وأم جعفر، وجمانة ، ونفيسة. وولد له من محياة بنت امرئ القيس: ابنة هلكت وهي جارية. قال ابن سعد: لم يصح لنا من ولد علي رضي الله عنه غير هؤلاء، وجميع ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه لصلبه أربعة عشر ذكراً ، وتسع عشرة امرأة ، وقيل: سبع عشرة امرأة. وكان النسل من ولده لخمسة: الحسن ، والحسين ، ومحمد بن الحنفية ، والعباس بن الكلابية ، وعمر بن التغلبية ، وسيأتي الحديث عن السيدة فاطمة وذريتها: الحسن ، والحسين ، وأم كلثوم في ثنايا هذا الكتاب بإذن الله تعالى.
8- صفاته الخلقية:
يقول ابن عبد البر رحمه الله: وأحسن ما رأيت في صفة عليّ رضي الله عنه أنه كان ربعْة من الرجال إلى القصر ما هو ، أدعج العينين ، حسن الوجه ، كأنه القمر ليلة البدر حُسناً ، ضخم البطن ، عريض المنكبين ، شثن الكفَّين (عَتَداً) أغيد ، كأن عنقه إبريق فضة ، أصلع ليس في رأسه شعر إلا من خلفه ، كبير اللحية ، لمنكبه مُشاش كمشاش السبع الضاري ، لا يتبين عضده من ساعده ، قد أدمجت دمجاً ، إذا مشى تكفّأ ، وإذا مسك بذراع رجل أمسك بنفسه فلم يستطع أن يتنفّس ، وهو إلى السمن ما هو ، شديد الساعد واليد ، وإذا مشى للحرب هَرْوَل ، ثبت الجنان ، قويّ شجاع.
يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf