إسلام سيدنا علي بن أبي طالب وأهم أعماله في مكة قبل الهجرة
الحلقة الثالثة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1441 ه/ يناير 2020 م
سابعاً: علي رضي الله عنه مع رسول الله ﷺ في طوافه على القبائل وعرضه للدعوة عليها ، وحضوره المفاوضات مع بني شيبان:
عن أبان بن تغلب عن عكرمة عن ابن عباس: حدثني علي بن أبي طالب ، قال: لما أمر الله رسوله أن يعرض نفسه على قبائل العرب ؛ خرج وأنا معه وأبو بكر إلى منى ، حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب؛ فتقدم أبو بكر رضي الله عنه فسلم ، وكان أبو بكر مقدماً في كل خير ، وكان رجلاً نسابة... إلى أن قال: ثم دفعنا إلى مجلس آخر ، عليه السكينة والوقار ، فتقدم أبو بكر فسلم فقال: من القوم؟ قالوا: شيبان بن ثعلبة ، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله ﷺ ، وقال: بأبي وأمي ، هؤلاء غُررُ الناس ، وفيهم مفروق قد غلبهم لساناً وجمالاً ، وكانت له غديرتان تسقطان على تَرِيبَتَيه ، وكان أدنى القوم مجلساً من أبي بكر ، فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا لنزيد على الألف ولن تُغلب ألف من قلة ، فقال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟ فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضباً حين نلقى ، وأشد ما نكون لقاء حين نغضب ، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد ، والسلاح على اللقاح ، والنصر من عند الله ، يديلنا مرة ، ويديل علينا مرة أخرى، لعلك أخو قريش؟ فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أنه رسول الله فها هو ذا. فقال مفروق: إلامَ تدعونا يا أخا قريش. فقال رسول الله ﷺ : «أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأني عبد الله ورسوله ، وإلى أن تؤووني وتنصروني ، فإن قريشاً قد تظاهرت على الله ، وكذَّبت رسوله ، واستغنت بالباطل عن الحق ، والله هو الغني الحميد» ، فقال مفروق: وإلامَ تدعو أيضاً يا أخا قريش؟ فوالله ما سمعت كلاماً أحسن من هذا ، فتلا رسول الله ﷺ : ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنعام: 151].
فقال مفروق: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، ولقد أَفِك قوم كذبوك ، وظاهروا عليك ، ثم رد الأمر إلى هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ شيخنا ، وصاحب ديننا ، فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش ، وإني أرى تركنا ديننا ، واتباعنا دينك لمجلس جلست إلينا ، لا أول له ، ولا آخر لذلّ في الرأي ، وقلة نظر في العاقبة. إن الزلة مع العجلة ، وإنا نكره أن نعقد على من وراءنا عقداً ، ولكن نرجع وترجع ، وننظر ، ثم كأنه أحب أن يشركه المثنى بن حارثة ، فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا ، فقال المثنى -وأسلم بعد ذلك- : قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا ومتابعتنا دينك ، وإنا إنما نزلنا بين صَرَيَيْن ، أحدهما اليمامة ، والآخر السَّمامة ، فقال له رسول الله ﷺ : «ما هذان الصريان»، قال: أنهار كسرى ، ومياه العرب ، فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول ، وإنّا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى ألا نحدث حدثاً ، ولا نؤوي محدثاً ، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش مما تكرهه الملوك ، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب ، فعلنا ، فقال رسول الله ﷺ : «ما أسأتم في الرد ، إذ أفصحتم بالصدق ، وإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه ، أرأيتم إن تلبثوا إلا قليلاً ، حتى يورثكم الله تعالى أرضهم وديارهم ، ويفرشكم نساءهم ، أتسبحون الله وتقدسونه ؟» ، فقال النعمان بن شريك: اللهم فلك ذاك.
وهذا الحدث فيه دروس وعبر وفوائد تعلمها علي بن أبي طالب رضي الله عنه منها:
1- تعلم علي رضي الله عنه ، أن النبي ﷺ رفض أن يعطي القوى المستعدة لتقديم نصرتها ، أية ضمانات بأن يكون لأشخاصهم شيء من الحكم والسلطان على سبيل الثمن ، أو المكافأة لما يقدمونه من نصرة وتأييد للدعوة الإسلامية ، وذلك لأن الدعوة الإسلامية إنما هي دعوة إلى الله ، فالشرط الأساسي فيمن يؤمن بها ويستعد لنصرتها أن يكون الإخلاص لله ، ونشدان رضاه هما الغاية التي يسعى إليها من النصرة والتضحية وليس طمعاً في نفوذ أو رغبة في سلطان ، وذلك لأن الغاية التي يضعها الإنسان للشيء هي التي تُكيِّف نشاط الإنسان في السعي إليه ، فلابد إذن من أن تتجرد الغاية المستهدفة من وراء نصرة الدعوة ، عن أي مصلحة مادية لضمان دوام التأييد لها ، وضمان المحافظة عليها من أي انحراف ، وضمان أقصى ما يمكن من بذل الدعم لها ، وتقديم التضحيات في سبيلها، فيجب على كل من يريد أن يلتزم بالجماعة التي تدعو إلى الله ألا يشترط عليها منصباً ، أو عرضاً من أعراض الدنيا ، لأن هذه الدعوة لله ، والأمر لله يضعه حيث يشاء ، والداخل في أمر الدعوة إنما يريد ابتداءً وجه الله، والعمل من أجل رفع رايته ، أما إذا كان المنصب هو همَّه الشاغل فهذه علامة خطيرة تنبئ عن دخن في نية صاحبها، لذا قال يحيى بن معاذ الرازي: لا يفلح من شممت منه رائحة الرِّياسة.
2- وتعلم علي رضي الله عنه من رسول الله ﷺ أن صفة النصرة التي كان يطلبها رسول الله لدعوته من زعماء القبائل بأن تكون غير مرتبطة بمعاهدات دولية ، تتناقض مع الدعوة ، ولا يستطيعون التحرُّر منها ، وذلك لأن احتضانهم للدعوة والحالة هذه يُعرِّضُها لخطر القضاء عليها ، من قبل الدول التي بينهم وبينها تلك المعاهدات ، والتي تجد في الدعوة الإسلامية خطراً عليها ، وتهديداً لمصالحها، إن الحماية المشروطة أو الجزئية لا تحقق الهدف المقصود ، فلن يخوض بنو شيبان حرباً ضد كسرى ، لو أراد القبض على رسول الله ﷺ وتسليمه ، ولن يخوضوا حرباً ضد كسرى لو أراد مهاجمة رسول الله ﷺ وأتباعه ، وبذلك فشلت المباحثات.
3- «إن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه» ، كان هذا الرد من النبي ﷺ على المثنى بن حارثة ، حين عرض على النبي ﷺ حمايته على مياه العرب ، دون مياه الفرس ، فمن يسبر أغوار السياسة البعيدة ، يَـرَ بُعدَ النظر الإسلاميّ النبويّ الذي لا يُسامى.
4- لمس علي رضي الله عنه أثر الإسلام على المثنى وقومه بعد أن أسلموا ، وكيف تحملت قبيلة بني شيبان عبء مواجهة الفرس ، وكان المثنى بن حارثة -فيما بعد- من قادة فتح العراق في عهد الصديق رضي الله عنه ، فقد أكسبهم الإيمان بهذا الدين جرأة على قتال الفرس.
هذه بعض المفاهيم والدروس والعبر التي استفادها علي رضي الله عنه من رسول الله ﷺ عند مفاوضاته لزعماء بني شيبان.
ثامناً: تقديمه نفسه فداء للنبي ﷺ :
عندما اجتمعت قبيلة قريش في دار الندوة ، وأجمعوا على قتل النبي ﷺ والتخلص منه ، أعلم الله نبيه ﷺ بذلك ، وكان النبي ﷺ أحكم خلق الله ، فأراد أن يبقى من أراد قتله ينظر إلى فراشه ينتظرونه يخرج عليهم ، فأمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ينام في فراشه تلك الليلة ، ومن يجرؤ على البقاء في فراش رسول الله ﷺ والأعداء قد أحاطوا بالبيت يتربصون به ليقتلوه ؟! من يفعل هذا ويستطيع البقاء في هذا البيت؛ وهو يعلم أن الأعداء لا يفرِّقون بينه وبين رسول الله ﷺ في مضجعه ؟! إنه لا يفعل ذلك إلا أبطال الرجال وشجعانهم بفضل الله–تعالى- ، وقد أمره النبي ﷺ أن يقيم بمكة أياماً حتى يؤدي أمانة الودائع والوصايا التي كانت عنده إلى أصحابها من أعدائه كاملة غير منقوصة ، وهذا من أعظم العدل ، وأداء الأمانة، وقد جاء في رواية: أن رسول الله قال له: «نم على فراشي» ، وتَسَبَّح ببردي هذا الخصرمي ، فنم فيه ، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم، وقال ابن حجر: وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: فرقد علي على فراش رسول الله ﷺ يواري عنه ، وباتت قريش تختلف ، وتأتمر ، أيهم يهجم على صاحب الفراش فيوثقه ، حتى أصبحوا فإذا هم بعلي ، فسألوه ، فقال: لا علم لي، فعلموا أنه قد فرّ. وعن ابن عباس: إن علياً قد شرى نفسه تلك الليلة حين: لبس ثوب النبي ﷺ ، ثم نام مكانه. وفي علي وإخوانه من الصحابة المجاهدين الذين يبتغون الله والدار الآخرة نزل قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: 207].
وفي هذا الموقف دروس وعبر وفوائد منها:
1- إن خطة الهجرة ، كما رسمها رسول الله ﷺ كانت تتطلب أن يأخذ مكانه في البيت رجل تشغل حركته داخل الدار أنظار المحاصرين لها من مشركي قريش ، وتخدعهم بعض الوقت عن مخرج رسول الله عليه الصلاة والسلام ، حتى يكون وصاحبه أبو بكر قد جاوزوا منطقة الخطر.
2- في تلبية علي رضي الله عنه لأمر النبي ﷺ مثال للجندي الصادق ، المخلص لدعوة الإسلام ، حيث فدى قائدَه بحياته ، ففي سلامة القائد سلامة للدعوة ، وفي هلاكه خذلانها ، ووهنها ، فما فعله عليٌّ رضي الله عنه ليلة الهجرة؛ من بياته على فراش الرسول ﷺ ، يعتبر تضحية غالية ، إذ كان من المحتمل أن تهوي سيوف فتيان قريش على رأس علي رضي الله عنه ، ولكن علياً رضي الله عنه لم يبال بذلك ، فحسبه أن يسلم رسول الله ﷺ نبي الأمة، وقائد الدعوة.
3- في إيداع المشركين ودائعهم عند رسول الله ﷺ مع محاربتهم له ، وتصميمهم على قتله ، دليل باهر على تناقضهم العجيب الذي كانوا واقعين فيه، ففي الوقت الذي كانوا يكذبونه ، ويزعمون أنه ساحر ، أو مجنون ، أو كذاب ، لم يكونوا يجدون فيمن حولهم من هو خير منه أمانة وصدقاً ، فكانوا لا يضعون حوائجهم ، ولا أموالهم التي يخافون عليها إلا عنده ، وهذا يدل على أن كفرانهم لم يكن بسبب الشك لديهم في صدقه ، وإنما بسبب تكبرهم واستعلائهم على الحق، الذي جاء به ، وخوفاً على زعامتهم وطغيانهم، وصدق الله العظيم: ﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [الأنعام: 33].
4- وفي أمر الرسول ﷺ لعلي -رضي الله عنه- بتأدية هذه الأمانات لأصحابها في مكة ، على الرغم من هذه الظروف الشديدة التي كان من المفروض أن يكتنفها الاضطراب ، بحيث لا يتَّجه التفكير إلا إلى إنجاح خطة هجرته فقط ، على الرغم من ذلك؛ فإن الرسول ﷺ ما كان لينسى أو ينشغل عن رد الأمانات إلى أهلها ، حتى ولو كان في أصعب الظروف التي تنسي الإنسان نفسه فضلاً عن غيره، فقد أبى أن يخون من ائتمنه ولو كان عدواً يحرّض عليه ، ويؤذيه لأن خيانة الأمانة من صفات المنافقين ، ويتنزَّهُ عنها المؤمنون.
5- هذا الحدث العظيم فيه دلالة قاطعة على شجاعة علي رضي الله عنه ، فإنه يعلم وهو يقوم بتنفيذ ما أمر به أنه معرض لخطر عظيم؛ فقد يقتحمون عليه داره ويقتلونه دون أن يتثبَّتُوا من هويته ، وقد يباغتونه وهو خارج في الصباح من غير أن يتبيَّنوا من هو ؟ والقوم يتربَّصون به طول الليل يترقَّبون هذه اللحظة ، وقد بلغ منهم الجهد كل مبلغ ، فأصبحوا غير قادرين على التأكد من شخصية الخارج من الدار: أهو محمد ﷺ أم هو رجل اخر ؟ لابد أن ذلك كله قد دار في عقل علي ، ولكنه بادر وسعد بالتنفيذ؛ فهو أولاً: يحب الله ورسوله حباً ملك عليه قلبه وجعل سلامة رسول الله ﷺ هدفه الأسمى ولو كلفه ذلك التضحية بحياته. ثانياً: هي عملية لا بد منها لكي يخرج الرسول سالماً من تدبير الأعداء حتى يتمكن من نشر الإسلام في كل مكان؛ فالأمر إذن يتعلق بمصلحة الإسلام أولاً وثانياً ، وقد نام علي رضي الله عنه في فراش رسول الله ﷺ مع كل هذه التوقعات ، وهذا دليل على عمق إيمانه بقضاء الله وقدره ، فهو بحق مؤمن بقوله تعالى: ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 51]. وإننا لنلمح في اختيار رسول الله ﷺ لعلي - ليقوم بهذا الدور الخطير - ثقة تامة لا تعدلها ثقة ، واطمئناناً إلى قدرات خاصة امتاز بها علي قد لا تتوفَّـرُ في غيره ، فإنه لم يتردد حين دعاه الرسول ﷺ لينام على فراشه ، وهو يعلم أنه ليس وراء ذلك إلا الموت الذي أعدَّ له المشركون أشجع فتيان قريش ، ولم يسمح لنفسه أن يفكر في العاقبة؛ لأنه يعلم أنه حين يكون فداء لرسول الله ﷺ ينال بذلك شرفاً لا يناله بغير هذا الطريق.
تاسعاً: هجرته:
لما أصبح قام علي رضي الله عنه عن فراشه ، فعرفه القوم وتأكدوا من نجاة رسول الله ﷺ ، فقالوا لعلي: أين صاحبك؟ قال: لا أدري! أوَ رقيباً كنت عليه ؟! أمرتموه بالخروج فخرج. وضاق القوم بتلك الإجابة الجريئة ، وغاظهم خروج رسول الله ﷺ من بين أظهرهم ، وقد عموا عنه فلم يروه ، فانتهروا علياً وضربوه ، وأخذوه إلى المسجد فحبسوه هناك ساعة ، ثم تركوه، وتحمل عليَّ ما نزل به في سبيل الله ، وكان فرحه بنجاة رسول الله ﷺ أعظم عنده من كل أذى نزل به ، ولم يضعف ولم يخبر عن مكان رسول الله ﷺ ، وانطلق علي في مكة يجوب شوارعها باحثاً عن أصحاب الودائع التي خلفه رسول الله ﷺ من أجلها ، وردَّها إلى أصحابها ، وظلَّ يرد هذه الأمانات حتى برئت منها ذمة رسول الله ﷺ ، وهناك تأهب للخروج ليلحق برسول الله بعد ثلاث ليال قضاهن في مكة.
وكان علي في أثناء هجرته يكمن بالنهار ، فإذا جنَّ عليه الليل سار حتى قدم المدينة ، وقد تفطرت قدماه ، وهكذا يكون علي رضي الله عنه قد لاقى في هجرته من الشدة: فلم تكن له راحلة يمتطيها ، ولم يستطع السير في النهار لشدة حرارة الشمس ، وفي مشي الليل ما فيه من الظلمة المفجعة والوحدة المفزعة ، ولو أضفنا إلى ذلك أنه -رضي الله عنه- قد قطع الطريق على قدميه دون أن يكون معه رفيق يؤنسه؛ لعلمنا مقدار ما تحمله من قسوة الطريق ، ووعثاء السفر ، والام الوحدة ، وقد سهل عليه تلك العقبات والمصاعب شعوره بأنه يعمل ابتغاء مرضاة الله عز وجل ، وأنه في نهاية المطاف سيلحق برسول الله ، ويستمتع بجواره آمناً مطمئناً في المدينة ، ولم يكد علي يقطع الطريق ويصل إلى المدينة حتى نزل في بني عمرو بن عوف على كلثوم بن الهدم ، حيث كان ينزل رسول الله ﷺ ، وهكذا كانت هجرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- تضحية وفداء ، وتحملاً وصبراً ، وشجاعة وإقداماً.
وقد لاحظ سيدنا علي مدة إقامته بقباء امرأة مسلمة لا زوج لها ، ورأى إنساناً يأتيها من جوف الليل ، فيضرب عليها بابها ، فتخرج إليه ، فيعطيها شيئاً معه ، فتأخذه ، ولنستمع إليه رضي الله عنه وهو يحدثنا بالقصة؛ حيث قال: فاستربْتُ بشأنه ، فقلت لها: يا أمة الله ، من هذا الذي يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه ، فيعطيك شيئاً لا أدري ما هو؟ وأنت امرأة مسلمة ، لا زوج لك؟ قالت: هذا سهل بن حنيف بن وهب ، قد عرف أني امرأة لا أحد لي ، فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها ، ثم جاءني بها ، فقال: احتطبي بهذا ، فكان علي رضي الله عنه يأثر ذلك من أمر سهل بن حنيف حتى هلك عنده بالعراق. ونلاحظ صفة النباهة واليقظة التي لا بد للمسلم أن يتحلَّى بها ، ولا يكون غافلاً عما يدور حوله.
يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf