معايشة أمير المؤمنين علي للقرآن الكريم
الحلقة الرابعة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1441 ه/ يناير 2020 م
أولاً: تصوره عن الله ، والكون والحياة ، والجنة والنار ، والقضاء والقدر:
كان المنهج التربوي الذي تربَّى عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو نفسه الذي خضع له كل الخلفاء الراشدين ، والصحابة الكرام ، فقد تربوا على القران الكريم ، وكان المربّي سيد الخلق أجمعين محمد ﷺ ، فقد حرص الحبيب المصطفى على توحيد مصدر التلقِّي وتفرده ، وأن يكون القران الكريم وحده هو المنهج، مع ما يوحي إليه المولى عز وجل من الحكمة ، ولقد تربى الفرد المسلم، والأسرة المسلمة والجماعة المسلمة على العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ ، ولقد كانت للآيات الكريمة التي سمعها علي من رسول الله ﷺ مباشرة أثرها في صياغة شخصيته الإسلامية ، فقد طهَّرت قلبه ، وزكَّت نفسه ، ونوّرت عقله ، وتفاعلت معها روحه ، فتحول إلى إنسان جديد بقيمه ومشاعره ، وأهدافه وسلوكه وتطلعاته.
فقد عرف علي رضي الله عنه من خلال القران الكريم والتربية النبوية الراشدة من هو الإله الذي يجب أن يعبده ، وكان النبي ﷺ يغرس في نفسه معاني تلك الآيات العظيمة ، فقد حرص ﷺ أن يربّي أصحابه على التصوُّر الصحيح عن ربهم ، وعن حقِّه عليهم ، مدركاً أن هذا التصور سيورث التصديق واليقين عندما تصفى النفوس ، وتستقيم الفطرة ، فأصبحت نظرة علي رضي الله عنه إلى الله ، والكون والحياة ، والجنة والنار ، والقضاء والقدر ، وحقيقة الإنسان ، وصراعه مع الشيطان؛ مستمدة من القران الكريم وهدي النبي ﷺ .
فالله سبحانه وتعالى منزَّه عن النقائص ، موصوف بالكمالات التي لا تتناهى ، فهو واحد لا شريك له ، ولم يتخذ صاحبة ولا ولد. وأنه سبحانه خالق كل شيء ومالكه ومدبره: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بَأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 54].
وأنه تعالى مصدر كل نعمة في هذا الوجود؛ دقَّتْ أو عظمت ، ظهرت أو خفيت: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ﴾ [النحل: 53].
وأن علمه محيط بكل شيء؛ فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، ولا ما يخفي الإنسان وما يعلن ، وأنه سبحانه يقيد على الإنسان أعماله بواسطة ملائكته ، في كتاب لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وسينشر ذلك في اللحظة المناسبة والوقت المناسب: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18].
وأنه سبحانه يبتلي عباده بأمور تخالف ما يحبون وما يهوون؛ ليعرف الناس معادنهم ، ومن منهم يرضى بقضاء الله وقدره، ويُسلم له ظاهراً وباطناً ، فيكون جديراً بالخلافة والأمانة والسيادة ، ومن منهم يغضب ويسخط فلا يساوي شيئاً، ولا يُسند إليه شيء: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 2].
وأنه سبحانه يوفِّق ويؤيِّد وينصر من لجأ إليه ، ولاذ بحماه ونزل على حكمه في كل ما يأتي وما يذر: ﴿ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾ [الأعراف: 196]. وأنه سبحانه وتعالى حقه على العباد أن يعبدوه ويوحدوه؛ فلا يشركوا به شيئاً: ﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الزمر: 66].
وأنه وحده المستحق للعبادة؛ وهذا حق الله على العباد كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 48].
وأنه سبحانه حدَّد مضمون هذه العبودية ، وهذا التوحيد في القران الكريم.
وأما نظرته للكون فقد استمدَّها من قول الله تعالى: ﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [فصلت: 9-12].
وأما هذه الحياة مهما طالت فهي إلى زوال ، وأنَّ متاعها مهما عظم فإنه قليل حقير؛ قال تعالى: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً ﴾ [الكهف: 46-47]؛ فعرّف الله تعالى الإنسان المسلم حقيقة الحياة ، وأنها ليست دار كرامة ، وأن الاخرة خير وأبقى ، وهي تهدي من تمكن حبُّ الله ورسوله في قلبه على أن يقدم رضا الله ورسوله على ما سواه ، ولو كان الثمن الدنيا وما فيها ، وقد عبر عن هذه الحقيقة أمير المؤمنين علي عندما قال: ( يا دنيا غُرّي غيري ، إليَّ تعرضت أم إليَّ تشوقت ، هيهات هيهات ، قد باينتك ثلاثاً لا رجعة فيها ، فعمرك قصير ، وخطرك قليل ، آه من قلة الزاد، وبعد السفر ، ووحشة الطريق ).
وأما نظرته إلى الجنة فقد استمدَّها من خلال الايات الكريمة التي وصفتها ، فأصبح حاله ممن قال الله فيهم: ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 16 - 17].
وأما تصوره للنار فقد استمدَّه من القران الكريم ، فأصبح هذا التصوُّر رادعاً له في حياته عن أي انحراف عن شريعة الله، فيرى المتتبع لسيرة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه عمق استيعابه لفقه القدوم على الله عز وجل ، وشدة خوفه من عذاب الله وعقابه ، وستتضح كثيراً من هذه المعالم في هذا الكتاب بإذن الله تعالى.
وأما مفهوم القضاء والقدر فقد استمدَّه من كتاب الله وتعليم رسول الله ﷺ ، فقد رسخ مفهوم القضاء والقدر في قلبه، واستوعب مراتبه من كتاب الله تعالى، فكان على يقين بأن علم الله محيط بكل شيء: ﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [يونس: 61] ، وأن الله قد كتب كل شيء كائن: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾ [يس: 12]. وأن مشيئة الله نافذة وقدرته تامة: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ﴾ [فاطر: 44]. وأن الله خالق لكل شيء: ﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴾ [الأنعام: 102].
وقد ترتب على الفهم الصحيح والاعتقاد الراسخ في قلبه لحقيقة القضاء والقدر، ثمار نافعة ومفيدة ، ظهرت في حياته وسنراها بإذن الله تعالى في هذا الكتاب ، وعرف من خلال القران الكريم حقيقة نفسه وبني الإنسان ، وأن حقيقة الإنسان ترجع إلى أصلين: الأصل البعيد وهو الخلقة الأولى من طين ، حين سَوَّاه ونفخ فيه الروح ، والأصل القريب وهو خلقه من نطفة، فقال تعالى: ﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ ﴾ [السجدة: 7-9]. وعرف أن هذا الإنسان خلقه الله بيده ، وأكرمه بالصورة الحسنة ، والقامة المعتدلة ، ومنحه العقل والنطق والتمييز ، وسخر الله له ما في السماء والأرض ، وفضله على كثير من خلقه ، وكرمه بإرساله الرسل له ، وأن من أروع مظاهر تكريم المولى عز وجل سبحانه للإنسان أن جعله أهلاً لحبه ورضاه ، ويكون ذلك باتباع النبي ﷺ الذي دعا الناس إلى الإسلام ، لكي يحيوا حياة طيبة في الدنيا ، ويظفروا بالنعيم المقيم في الاخرة؛ قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97].
وعرف أمير المؤمنين علي رضي الله عنه حقيقة الصراع بين الإنسان والشيطان، وأن هذا العدو يأتي للإنسان من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه، وعن شماله ، يوسوس له بالمعصية ، يستثير فيه كوامن الشهوات ، فكان مستعيناً بالله على عدوه إبليس ، منتصراً عليه في حياته ، كما سترى في سيرته ، وتعلم من قصة آدم مع الشيطان في القران الكريم ، أن آدم هو أصل البشر ، وأن جوهر الإسلام الطاعة المطلقة لله ، وأن الإنسان له قابلية للوقوع في الخطيئة ، وتعلم من خطيئة ادم ضرورة توكُّل المسلم على ربه ، وأهمية التوبة والاستغفار في حياة المؤمن ، وضرورة الاحتراز من الحسد والكبر ، وتقديم مرضات الله سبحانه وتعالى على كل ما سواه ، وأهمية التخاطب بأحسن الكلام مع إخوانه من الصحابة ، قال تعالى: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِيناً ﴾ [الإسراء: 53]. وسار على منهج رسول الله ﷺ في تزكية أصحابه لأرواحهم ، وتطهير قلوبهم بأنواع العبادات، وتربيتهم على التخلق بأخلاق القران الكريم.
ثانياً: مكانة القرآن الكريم عنده:
عاش أمير المؤمنين علي رضي الله عنه حياته مع القران تلاوةً وحفظاً وفهماً وعملاً ، وكان يقول: من قرأ القران، فمات فدخل النار فهو ممن كان يتخذ آيات الله هزواً ، وكان يقول: طوبى لهؤلاء كانوا أحبّ الناس إلى رسول الله ﷺ ، وكان يقول: ما كنت أرى أحداً يعقل ينام قبل أن يقرأ الآيات الثلاثة الأواخر من سورة البقرة، أي: أهل القران ، وقال يصف القران الكريم ويبيِّن عظيم قدره في القران الكريم: كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو الحبل المتين وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ، ولا تنقضي عجائبه ، ولا يشبع منه العلماء ، من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم.
ولشدة اهتمام أمير المؤمنين علي بالقران حصل على علم كبير به وبعلومه ، فقد روي عنه أنه قال: والله ما نزلت اية إلا وقد علمت فيم نزلت وأين نزلت وعلى من نزلت: إن ربي وهب لي قلباً عقولاً ، ولساناً صادقاً ناطقاً ، وقد قال رضي الله عنه: سلوني عن كتاب الله ، فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليل نزلت أم نهار ، في سهل أم في جبل. ويرى ابن عبد البر أن علياً رضي الله عنه: كان ممن جمع القران الكريم على عهد رسول الله ﷺ وهو حي، وقد قال في اخر عهده: سلوني قبل أن تفقدوني، وكان ذلك عندما مات أكثر علماء الصحابة ، وكان رضي الله عنه بالعراق ، فكان من حرصه على تعليم الناس القران الكريم والهدي النبوي الشريف في قوم كثر فيهم الجهل ، ولا يعرفون الكثير من أحكام الدين ، فكان رضي الله عنه يحرص على تعليمهم وإرشادهم للحق ، فقد كان أعلم أهل زمانه وهذا نموذج للعالم الرباني الذي يحرص على تعليم الناس الخير وتربيتهم عليه.
ثالثاً: ما نزل فيه من القرآن الكريم:
كان القران الكريم ينزل على رسول الله ﷺ يعالج أحداثاً واقعية حصلت في المجتمع النبوي الكريم، فيثني على عمل ما، ويشيد بأقوام ، ويحذر من آخرين ، وينبه على بعض الأخطاء ، وقد نزلت بعض الآيات التي خلدت بعض المآثر لأمير المؤمنين وبعض الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
1- منها قولـه تعالى: ﴿ هَٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُوا۟ فِى رَبِّهِمْ ۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ ٱلْحَمِيمُ *يُصْهَرُ بِهِۦ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَٱلْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَٰمِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَآ أَرَادُوٓا۟ أَن يَخْرُجُوا۟ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا۟ فِيهَا وَذُوقُوا۟ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ *إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّٰلِحَٰتِ جَنَّٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا ۖ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴾ [الحج: 19 ـ 23].
روى البخاري بسنده عن علي بن أبي طالب أنه قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة. وقال قيس بن عبادة: فيهم نزلت: ﴿ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ﴾ ، قال: هم الذين تبارزوا يوم بدر ، حمزة وعلي وأبو عبيدة بن الحارث ، وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة.
2- وهو أحد من نزل فيهم قول الله تعالى: ﴿ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾ [آل عمران: 61].
وذلك في وفد نجران حينما جادلهم النبي ﷺ في عيسى ابن مريم ، وأنه عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى أمه الطاهرة، فأنجبته ، وكذبهم في أنه الله وابن الله أو ثالث ثلاثة ، ودعاهم إلى الإسلام ، فأبوا ، فدعاهم إلى المباهلة ، فعن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، قال: ولما نزلت: ﴿ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ﴾ دعا رسول الله علياً ، وفاطمة ، وحسناً وحسيناً رضي الله عنهم فقال: اللهم هؤلاء أهلي.
3- موافقته القرآن له في كون الجهاد أفضل من عمارة المسجد الحرام: ففي الصحيح, أن رجلاً قال: لا أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام ، فقال علي بن أبي طالب: الجهاد في سبيل الله أفضل من هذا كله ، فقال عمر بن الخطاب: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله ﷺ ، ولكن إذا قضيت الصلاة سألته عن ذلك: فسأله ، فأنزل الله هذه الآية: ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [التوبة: 19-22] . فبين لهم أن الإيمان والجهاد أفضل من عمارة المسجد الحرام والحج والعمرة والطواف ومن الإحسان إلى الحجاج.
4- شفقته على أمة محمد ﷺ : عن علي رضي الله عنه ، قال: لمَّا نزلت هذه الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ﴾ [المجادلة: 21]. قال النبي ﷺ لعلي: «مُرهم أن يتصدقوا» قال يا رسول الله ! بكم ؟ قال: «بدينار» ، قال: لا يطيقونه ، قال: «بنصف دينار». قال: لا يطيقونه ، قال: «فبكم؟» قال: بشعيرة، قال: فقال النبي ﷺ لعلي: «إنك لزهيد» ، قال: فأنزل الله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المجادلة: 12-13]. قال فكان علي يقول: فبي خفف الله عن هذه الأمة.
رابعاً: تبليغه تفسير رسول الله ﷺ لبعض آيات القرآن الكريم:
استفاد علي رضي الله عنه من تفسير رسول الله ﷺ ، وبلَّغ ما تعلم من رسول الله ﷺ للنَّاس، وإليك بعض الأمثلة على ذلك:
(أ)- قوله تعالى: ﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾: عن علي رضي الله عنه ، عن النبي ﷺ قال: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾ [الواقعة: 82]. قال: «شُكركم: أنكم تكذبون؛ مطرنا بنوء كذا وكذا ، بنجم كذا وكذا».
(ب)- فكل ميسر لما خلق له:
عن علي رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد ، فأتانا رسول الله ﷺ ، فقعد وقعدنا حوله ، ومعه مخصرة ، فنكس فجعل ينكت بمخصرته ، ثم قال: «ما منكم من أحد ، من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار، إلا وقد كتبت شقية أو سعيدة». فقال رجل: يا رسول الله ، أفلا نتَّكل على كتابنا ، وندعُ العمل؛ من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة ؟ فقال: «اعملوا فكل ميسَّر ، أما أهل السعادة فسييسرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاوة فسييسرون إلى عمل أهل الشقاوة» ، ثم قرأ: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾ [الليل: 5 -10] ، وفي رواية: أفلا نتَّكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منا من أهل السعادة سيصير إلى عمل أهل السعادة ، ومن كان من أهل الشقاوة سيصير إلى عمل أهل الشقاوة.
وفي رواية في الصحيحين: عن علي قال: كان رسول الله ﷺ ذات يوم وفي يده عود ينكت به ، فرفع رأسه فقال: «ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار». فقالوا: يا رسول الله ! فلم نعمل ، أولا نتَّكل؟ قال: «لا! اعملوا، فكل ميسر لما خلق له» ثم قرأ: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى *وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى *وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾ [الليل: 5 -10].
فقد أخبر النبي ﷺ في هذه الأحاديث وغيرها بما دلَّ عليه القران الكريم؛ من أن الله سبحانه وتعالى تقدم علمه وكتابه وقضاؤه بما سيصير إليه العباد من السعادة والشقاوة ، كما تقدم علمه وكتابه بغير ذلك من أحوال العباد وغيرهم، وقد بيَّن النبي ﷺ أن ذلك لا ينافي وجود الأعمال التي بها تكون السعادة والشقاوة ، وأن من كان من أهل السعادة فإنه ييسر لعمل أهل السعادة ، ومن كان من أهل الشقاوة فإنه ييسر لعمل أهل الشقاوة ، وقد نهى أن يتَّكِلَ الإنسانُ على القدر السابق ويدع العمل ، ولهذا كان من اتَّكل على القدر السابق وترك ما أمر به من الأعمال؛ هو من الأخسرين أعمالاً ، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وكان تركهم لما يجب عليهم من العمل من جملة المقدور الذي يسروا به لعمل أهل الشقاوة ، فإن أهل السعادة هم الذين يعملون المأمور ويتركون المحظور ، فمن ترك العمل الواجب الذي أُمر به وفعل المحظور متكلاً على القدر؛ كان من جملة أهل الشقاوة والميسرين لعمل أهل الشقاوة ، وهذا الجواب الذي أجاب به النبي ﷺ وتعلمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأصحاب النبي ﷺ في غاية السداد والاستقامة.
يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf