الخميس

1446-07-09

|

2025-1-9

إسلام سيدنا علي بن أبي طالب وأهم أعماله في مكة قبل الهجرة

الحلقة الثانية

بقلم: د. علي محمد محمد الصلابي

جمادى الأولى 1441 ه/ يناير 2020 م

أولاً: إسلامه:
كان من نعمة الله عز وجل على علي بن أبي طالب ، وما وضع الله له وأراد به من الخير: أن قريشاً أصابتهم أزمة شديدة ، وكان أبو طالب ذا عيال كثير ، فقال رسول الله ﷺ للعباس عمه - وكان من أيسر بني هاشم- : «يا عباس ، إن أخاك أبا طالب كثير العيال ، وقد ترى ما أصاب الناس من هذه الأزمة ، فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله؛ اخذ من بيته واحداً وتأخذ واحداً ، فنكفيهما عنه» ، فقال العباس: نعم.. فانطلقا حتى أتيا أبا طالب، فقالا له: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه ، فقال لهما: إن تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما ، فأخذ رسول الله ﷺ علياً فضمه إليه ، وأخذ العباس جعفراً رضي الله عنه فضمه إليه ، فلم يزل علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع رسول الله ﷺ حتى بعثه الله نبياً ، فاتبعه علي ، فأقرَّ به وصدَّقه ، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه.
ونلاحظ أن الرسول الله ﷺ أراد أن يرد الجميل والمعروف لعمه أبي طالب الذي كفله بعد وفاة جده عبد المطلب ، فكان هذا من أكبر نعم الله عز وجل على علي رضي الله عنه ، إذ رباه وأدبه الذي أدبه الله عز وجل ، وحفظه وعصمه ورعاه الذي كان خلقه القرآن ، فانعكس هذا الخلق القرآني على علي رضي الله عنه ، وكفى بتربية النبي ﷺ تربية لعلي رضي الله عنه ، فقد نشأ في بيت الإسلام ، وتعرّف إلى أسراره في مرحلة مبكرة من حياته ، وذلك قبل أن تتخطى الدعوة حدود البيت ، وتنطلق إلى البحث عن أنصار يشدّون أزرها وينطلقون بها في دنيا الناس ، ويخرجونهم من الظلمات إلى النور ، ولقد اختلف العلماء فيمن آمن بعد السيدة خديجة بنت خويلد أم المؤمنين ، هل هو أبو بكر الصديق ، أو علي رضي الله عنهما ، والذي أميل إليه من بين أقوال العلماء ، أن أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر ، ومن الصبيان علي ، ومن النساء خديجة ، وهي أول من آمن على الإطلاق ، ومن الموالي زيد بن حارثة رضوان الله عليهم. وبهذا يكون أمير المؤمنين أول الصغار إسلاماً.

ثانياً: كيف أسلم علي؟
روى ابن إسحاق: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه جاء إلى النبي ﷺ بعد إسلام خديجة رضي الله عنها، فوجدهما يصليان ، فقال علي: ما هذا يا محمد؟ فقال النبي ﷺ : «دين الله الذي اصطفاه لنفسه ، وبعث به رسله ، فأدعوك إلى الله وحده وإلى عبادته ، وكفر باللات والعزى» ، فقال له علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم ، فلست بقاضٍ أمراً حتى أحدِّث أبا طالب ، فكره رسول الله ﷺ أن يفشي عليه سره ، قبل أن يستعلن أمره ، فقال له: «يا علي ، إذا لم تسلم فاكتم» ، فمكث علي تلك الليلة. ثم إن الله أوقع في قلب علي الإسلام ، فأصبح غادياً إلى رسول الله ﷺ ، حتى جاءه فقال: ما عرضت عليَّ يا محمد؟ فقال له رسول الله ﷺ : «تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وتكفر باللات والعزى ، وتبرأ من الأنداد» ، ففعل علي وأسلم ، ومكث علي يأتيه على خوف من أبي طالب ، وكتم علي إسلامه ولم يظهر به.
ثالثاً: بين علي رضي الله عنه وأبي طالب:
قال ابن إسحاق: وذكر بعض أهل العلم: أن رسول الله ﷺ كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة ، وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفياً من أبيه أبي طالب ، ومن جميع أعمامه وسائر قومه ، يصليان الصلوات فيها ، فإذا أمسيا رجعا ، فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا ، ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوماً وهما يصليان ، فقال لرسول الله ﷺ : يابن أخي ، ما هذا الدين الذي أراك تدين به ، قال: «أي عم ، هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم» ، أو كما قال ﷺ : «بعثني رسولاً إلى العباد وأنت - أي عم - أحق من بذلت له النصيحة ، ودعوته إلى الهدى ، وأحق من أجابني إليه وأعانني عليه». أو كما قال. فقال أبو طالب: أي ابن أخي، إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه ، ولكن والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيت. ذكروا أنه قال لعلي: أي بني ، ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ فقال: يا أبت آمنت بالله وبرسول الله وصدَّقته بما جاء به، وصليت معه لله واتبعته ، فزعموا أنه قال له: أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه.
رابعاً: هل كسر علي رضي الله عنه الأصنام مع رسول الله في مكة؟
عن علي رضي الله عنه ، قال: انطلقت أنا والنبي ﷺ حتى أتينا الكعبة ، فقال لي رسول الله ﷺ : «اجلس» وصعد على منكبي ، فذهبت لأنهض به ، فرأى مني ضعفاً ، فنزل ، وجلس لي نبي الله ﷺ وقال: «اصعد على منكبي». قال: فصعدت على منكبيه ، قال: فنهض بي ، قال: فإنه يخيل إليَّ أني لو شئت لنلت أفق السماء ، حتى صعدت على البيت، وعليه تمثال صُفر أو نحاس ، فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله ، وبين يديه ومن خلفه ، حتى إذا استمكنت منه قال لي رسول الله ﷺ : «اقذف به» فقذفت به فانكسر كما تتكسر القوارير، ثم نزلت ، فانطلقت أنا ورسول الله ﷺ نستبق حتى توارينا بالبيوت ، خشية أن يلقانا أحد من الناس. وهذا الحديث إسناده ضعيف ، وبالتالي لا يمكن أن يبنى عليه حكم كما زعم بعض الناس ، ويبقى الأصل الثابت في الفترة المكية في منع النبي ﷺ للصحابة لاستخدام القوة مع الخصوم، أو الاعتداء على أصنامهم وأوثانهم بالقوة ، وقد قام رسول الله ﷺ بتطهير مكة في عام الفتح من الأوثان ، وأرسل السرايا بعد ذلك الفتح العظيم لهدم ولتطهير الجزيرة العربية من مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على إزالتها وإبطالها.
خامساً: هل دفن علي رضي الله عنه أبا طالب بإرشاد رسول الله ﷺ ؟
عن علي رضي الله عنه: أنه أتى النبي ﷺ فقال: إن أبا طالب مات. فقال له النبي ﷺ : «اذهب فوارِه» ، فقال: إنه مات مشركاً. فقال: «اذهب فواره». قال: فلما واريته رجعت إلى النبي ﷺ ، فقال لي: «اغتسل». وجاء في رواية: «اذهب فاغتسل ، ثم لا تحدث شيئاً حتى تأتيني» قال: فاغتسلت ثم أتيته ، قال: فدعا لي بدعوات ما يسرني أن لي بها حمر النعم وسودها. قال الراوي عبد الرحمن السلمي: وكان علي رضي الله عنه إذا غسل ميتاً اغتسل.
سادساً: الحس الأمني عند علي رضي الله عنه ، ودوره في إيصال أبي ذر رضي الله عنه لرسول الله ﷺ :
إن من معالم المرحلة المكية: الكتمان والسرية ، حتى عن أقرب الناس ، وكانت الأوامر النبوية على وجوب المحافظة على السرية واضحة وصارمة ، وقد قام علي رضي الله عنه بدور عظيم في أخذ أبي ذر إلى مقر رسول الله ﷺ ؛ فقد كان رضي الله عنه منكراً لحال الجاهلية ، ويأبى عبادة الأصنام ، وينكر على من يشرك بالله ، وكان يصلي لله قبل إسلامه ، بثلاث سنوات ، دون أن يخص قبلة بعينها بالتوجه ، ويظهر أنه كان على نهج الأحناف ، ولما سمع بالنبي ﷺ قدم إلى مكة ، وكره أن يسأل عنه ، حتى أدركه الليل ، فاضطجع فرآه علي رضي الله عنه ، فعرف أنه غريب ، فاستضافه ولم يسأله عن شيء ، ثم غادر صباحاً إلى المسجد الحرام ، فمكث حتى أمسى ، فرآه عليَّ فاستضافه لليلة ثانية، وحدث مثل ذلك الليلة الثالثة ، ثم سأله عن سبب قدومه ، فلما استوثق منه أبو ذر أخبره بأنه يريد مقابلة الرسول ﷺ ، فقال له علي: فإنه حق، وهو رسول الله ، فإذا أصبحت فاتبعني ، فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأني أريق الماء ، فإن مضيت فاتبعني ، فتبعه وقابل الرسول ﷺ ، واستمع إلى قوله ، فأسلم ، فقال له النبي ﷺ : «ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري». فقال: والذي نفسي بيده لأصرخن بين ظهرانيهم ، فخرج حتى أتى المسجد ، فنادى بأعلى صوته ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وثار القوم حتى أضجعوه فأتى العباس بن عبد المطلب ، فحذرهم من انتقام غفار والتعرض لتجارتهم ، التي تمر بديارهم إلى الشام ، فأنقذه منهم، وكان أبو ذر قبل مجيئه قد أرسل أخاه ، ليعلم له علم النبي ﷺ ويسمع من قوله ثم يأتيه ، فانطلق الأخ حتى قدمه ، وسمع من قوله ، ثم رجع إلى أبي ذر ، فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ، وكلاماً ما هو بالشعر. فقال: ما شفيتني مما أردت ، وعزم على الذهاب بنفسه لرسول الله ﷺ ، فقال أخوه له: وكن على حذر من أهل مكة؛ فإنهم قد شنفوا له وتجهَّموا.
ومن الدروس والعبر والفوائد من هذه الحادثة:
1- التأنِّي والتَّريُّث في الحصول على المعلومة: حيث إن أبا ذر رضي الله عنه تأنَّى وتريَّث لما يعرفه من كراهية قريش لكل من يخاطب الرسول ﷺ ، وهذا التأني تصرف أمني ، تقتضيه حساسية الموقف ، فلو سأله عنه لعلمت به قريش، وبالتالي قد يتعرض للأذى والطرد ويخسر الوصول إلى هدفه الذي من أجله ترك مضارب قومه ، وتحمل في سبيله مصاعب ومشاق السفر.
2- الاحتياط والحذر قبل النطق بالمعلومة: حين سأل علي رضي الله عنه أبا ذر رضي الله عنه عن أمره وسبب مجيئه إلى مكة ، لم يخبره بالرغم من أنه استضافه ثلاثة أيام إمعاناً في الحذر ، فاشترط عليه قبل أن يخبره أن يكتم عنه ، وفي الوقت ذاته أن يرشده ، فهذا غاية في الاحتياط وتم ما أراده.
3- التغطية الأمنية للتحرك: الاتفاق بين علي وأبي ذر رضي الله عنهما على إشارة ، أو حركة معينة ، كأنه يصلح نعله، أو كأنه يريق الماء ، وذلك عندما يرى علي رضي الله عنه من يترصدهما أو يراقبهما ، فهذه تغطية أمنية لتحركهم تجاه المقر (دار الأرقم) ، هذا إلى جانب أن أبا ذر كان يسير على مسافة من علي فيُعدّ هذا الموقف احتياطاً ، وتحسباً لكل طارئ ، قد يحدث أثناء الحركة.
4- هذه الإشارات الأمنية العابرة تدل على تفوق الصحابة رضي الله عنهم في الجوانب الأمنية ، وعلى مدى توافر الحس الأمني لديهم ، وتغلغله في نفوسهم ، حتى أصبح سمة مميزة لكل تصرف من تصرفاتهم الخاصة والعامة ، فأتت تحركاتهم منظمة ومدروسة ، فما أحوجنا لمثل هذا الحسّ الذي كان عند الصحابة، بعد أن أصبح للأمن في عصرنا أهمية بالغة في زوال واستمرار الدول والحضارات ، وضعف وقوة الأمم والشعوب ، والجماعات والمؤسسات والمنظمات ، وأصبحت له مدارسه الخاصة وتقنياته المتقدمة ، وأساليبه ووسائله المتطورة ، وأجهزته المستقلة ، وميزانياته ذات الأرقام الكبيرة ، وأضحت المعلومات عامة ، والمعلومات الأمنية تباع بأغلى الأثمان ، ويضحَّى في سبيل الحصول عليها بالنفس إذا لزم الأمر ، وما دام الأمر كذلك فعلى المسلمين الاهتمام بالناحية الأمنية حتى لا تصبح قضايانا مستباحة للأعداء ، وأسرارنا في متناول أيديهم.

يمكن النظر في كتاب أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره
على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book161C.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022