الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

مكانة الحسن بن علي في عهد الصديق رضي الله عنه: من تأثيرات فترة الخلافة الراشدة على تكوين شخصية الحسن بن علي

الحلقة العاشرة

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

رجب 1441 ه/ فبراير 2020م

كان للحسن والحسين بن علي رضي الله عنهما مكانة مرموقة لدي الصديق، وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم جميعاً، فقد كانوا يحبونهم ويتعاملون معهم بشكل خاص، فبينما كان أبو بكر وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما يمضيان بعد صلاة العصر فرأى أبو بكر رضي الله عنه الحسن يلعب مع الغلمان، فأخذه أبو بكر فحمله على عنقه وقال:
بأبي شبيه النبي ... ليس شبيهاً بعلي وعلي يبتسم . وقد تأثر الحسن بن علي بسيرة الصديق حتى أنه سمّى أحد أبنائه على أبي بكر، ولا يسمّى أحد من الناس أسماءً على شخص معين إلا نتيجة حب ومعرفة مفصلة بسيرته، وقد تعلم الحسن بن علي من عهد الصديق سواء في حياته أو بعد وفاة أبي بكر أموراً منها:
1 ـ هول فاجعة وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وموقف أبي بكر منها:
قال ابن رجب: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اضرب المسلمون، فمنهم من دُهش فخولط ومنهم من أقعد فلم يُطق القيام، ومن اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية ، وقال ابن إسحاق: ولما توفي رسول الله صلة الله عليه وسلم عظمت به مصيبة المسلمين فكانت عائشة فيما بلغني تقول لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب واشرأبت اليهودية، والنصرانية ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الثانية لفقد نبيهم ، وقال القاضي أبو بكر بن العربي: .. واضطربت الحال .. فكان موت النبي صلى الله عليه وسلم قاصمة الظهر، ومصيبة العمر، فأما علي فاستخفى في بيت فاطمة، وأما عثمان فسكت، وأما عمر فأهجر، وقال: ما مات رسول الله وإنما واعده ربه كما واعد موسى، وليرجعن رسول الله، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم ، ولما سمع أبو بكر الخبر أقبل على فرس من مسكنه بالسُّنح، حتى نزل، فدخل المسجد، فلم يكلِّم الناس، حتى دخل على عائشة فتيمَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُغشّى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكبَّ عليه فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي عليك فقد متها ،
وخرج أبو بكر وعمر يتكلم فقال: أجلس يا عمر، وهو ماضي في كلامه، وفي ثورة غضبه، فقام أبو بكر في الناس خطيباً بعد أن حمد الله وأثنى عليه، فقال: أما بعد فإن من كان يعبد محمداً فإن محمد قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا هذه الآية: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)) (آل عمران، آية: 144). فنشح الناس يبكون.
وبهذه الكلمات القلائل، واستشهاد الصديق بالقرآن الكريم خرج الناس من ذهولهم وحيرتهم ورجعوا إلى الفهم الصحيح رجوعاً جميلاً، فالله هو الحي وحده الذي لا يموت، وأنه وحده الذي يستحق العبادة، وأن الإسلام باق بعد موت محمد صلى الله عليه وسلم ، كما جاء في رواية من قول الصديق: إن دين الله قائم، وإن كلمة الله تامة وإن الله ناصر من نصره، ومعز دينه، وإن كتاب الله بين أظهرنا وهو النور والشفاء وبه هدى الله محمد صلى الله عليه وسلم وفيه حلال الله وحرامه، والله لا نبالي من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوف الله لمسلولة ما وضعناها بعد، ولنجاهدنّ من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله فلا يبغين أحد إلا على نفسه .
كان موت محمد صلى الله عليه وسلم مصيبة عظيمة، وابتلاءاً شديداً، ومن خلالها وبعدها ظهرت شخصية الصديق كقائد للأمة فذ لا نظير له ولا مثيل ، فقد أشرق اليقين في قلبه وتجلى ذلك في رسوخ الحقائق فيه، فعرف حقيقية العبودية، والنبوة، والموت، وفي ذلك الموقف العصيب ظهرت حكمته رضي الله عنه، فانحاز بالناس إلى التوحيد (من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت) وما زال التوحيد في قلوبهم غضاً طرياً، فما إن سمعوا تذكير الصديق لهم حتى رجعوا إلى الحق ، تقول عائشة رضي الله عنها: فوالله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر رضي الله عنه فتلقاها منه الناس، فما يسمع بشر إلا يتلوها . ولا شك أن هذه الحادثة أخذت مكانها الطبيعي في ذاكرة الحسن بن علي وأصبحت من ضمن ثقافته ومعرفته، فقد كان عمر الحسن عندما مضى رسول الله إلى الرفيق الأعلى سبع أو ثماني سنين وهو طور تنمو فيه مدارك الطفولة، وتكون فيه فكرة الطفل كالعدسة اللاقطة تنقل إلى ذاكرته كثيراً من المشاهدات والصور، والحسن من الأطفال الأذكياء وله من الاستعداد لأن يستوعب مجريات ذلك العهد ويفهم الغايات السامية والأعمال العظيمة، والمواقف المشهودة والقيم الكبرى التي قام بها الصديق، ولقد أثرت تلك الأعمال والمواقف على نفسية الحسن وتملك قلبه حب الصديق وسمّى أحد أبنائه عليه. ومن أهم الدروس التي تعلمها الحسن من وفاة النبي هي أن البقاء للمبادئ وليست للأشخاص وأهمية التعلق بالله وحده فهو الباقي وهو النافع والضار وهو على كل شئ قدير.
2 ـ سقيفة بني ساعدة:
لما علم الصحابة رضي الله عنهم بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة في اليوم نفسه وهو يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة، وتداولوا الأمر بينهم في اختيار من يلي الخلافة من بعده ، والتف الأنصار حول زعيم الخزرج سعد بن عبادة رضي الله عنه، ولما بلغ خبر اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة إلى المهاجرين وهم مجتمعون مع أبي بكر لترشيح من يتولى الخلافة ، قال المهاجرون لبعضهم: انطلقوا بنا إلى إخواننا من الأنصار، فإن لهم في هذا الحق نصيباً ، .. فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مزمِّل بين ظهرانيهم، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ قالوا: يُوعَك، فلما جلسنا قليلاً تشهَّد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم معشر المهاجرين رهط، وقد دفت دافة من قومكم ، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر ، فلما سكت أردت أن أتكلم ـ وكنت قد زوَّرتُ مقالتي أعجبتني أريد أقدّمها بين يدي أبي بكر وكنت أداري منه بعض الحدِّة، فلما أردتُ أن أتكلم قال أبو بكر: على رسلك.
فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر، فكان هو أحلم مني وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت، فقال: ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحيِّ من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم ـ فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا ـ فلم أكره مما قال غيرها، والله أن أقدّم فتضرب عنقي لا يُقرِّبني ذلك من إثم أحب إليَّ من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلا أن تُسوِّل إليَّ نفسي عند الموت شيئاً لا أجده الآن. فقال قائل من الأنصار: أنا جُذيلها المحكَّك، وعُذيقُها المرحَّب ، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش، فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، حتى فرقت من الاختلاف فقلت: أبسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده، فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار . وفي رواية أحمد .. فتكلم أبو بكر رضي الله عنه فلم يترك شيئاً في الأنصار ولا ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأنهم وإلا ذكره، وقال: ولقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار وادياً سلكت وادي الأنصار. ولقد علمت يا سعد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد: قريش ولاة هذا الأمر فَبَرُّ الناس تبع لبرِّهم، وفاجر الناس تبع لفاجرهم، قال فقال له سعد: صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء. .
وكان أبو بكر الصديق زاهداً في الإمارة وظهر زهده في خطبته التي اعتذر فيها من قبول الخلافة حيث قال: والله ما كنت حرصاً على الإمارة يوماً ولا ليلة قط ولا كنت فيها راغباً ولا سألتها الله عزَّ وجل في سر وعلانية، ولكني أشفقت من الفتنة، ومالي في الإمارة من راحة ولكن قلدت أمراً عظيماً مالي به طاقة ولا يد إلا بتقوية الله عز وجل، ولو وددت أن أقوي الناس عليها مكاني ، وقد قام بإستبراء نفوس المسلمين من أي معارضة لخلافته واستحلفهم على ذلك فقال: أيها الناس أذكر الله أيما رجل ندم على بيعتي لما قام على رجليه، فقال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، ومعه السيف، فدنا منه حتى وضع رِجلاً على عتبة المنبر، والأخرى على الحصى وقال: والله لا نقيلك ولا نستقيلك قدّمك رسول الله فمن ذا يؤخرك ، هذه هي الحقائق التي عرفها وتعلمها الحسن بن علي عن حادثة السقيفة لا كما يدعي مزورو التاريخ ولم يكن أبو بكر وحده الزاهد في أمر الخلافة والمسئولية، بل أنها روح العصر ـ ويمكن الرجوع إلى النصوص التي تمّ ذكرها بتوسع في كتابي الانشراح ورفع الضيق بسيرة أبي بكر الصديق ،ويمكن القول: إن الحوار الذي دار في سقيفة بني ساعدة لا يخرج عن هذا الاتجاه، بل يؤكد حرص الأنصار على مستقبل الدعوة الإسلامية واستعدادهم المستمر للتضحية في سبيلها، فما أن اطمأنوا على ذلك حتى استجابوا سراعاً لبيعة أبي بكر الذي قبل البيعة لهذه الأسباب، وإلا فإن نظرة الصحابة مخالفة لرؤية الكثير مما جاء بعدهم ممن خالفوا المنهج العلمي، والدراسة الموضوعية، بل كانت دراستهم متناقضة مع روح ذلك العصر، وآمال وتطلعات أصحاب رسول الله من الأنصار وغيرهم، وإذا كان اجتماع السقيفة أدي إلى إنشقاق بين المهاجرين والأنصار كما زعمه بعضهم ، فكيف قبل الأنصار بتلك النتيجة وهم أهل الديار وأهل العدد والعدة؟ وكيف انقادوا لخلافة أبي بكر ونفروا في جيوش الخلافة شرقاً وغرباً مجاهدين لتثبيت أركانها؟ لو لم يكونوا متحمسين لنصرتها؟ فالصواب اتضح من حرص الأنصار على تنفيذ سياسة الخلافة والاندفاع لمواجهة المرتدين، وأنه لم يتخلف أحد من الأنصار عن بيعة أبي بكر فضلاً عن غيرهم من المسلمين وأن أخوة المهاجرين والأنصار أكبر من تخيلات الذين سطروا الخلاف بينهم في رواياتهم المغرضة والتي زعموا أن حادثة السقيفة أثرت في نفسية الحسن بن علي لما رأى من التآمر والمكر والخديعة كما زعم صاحب كتاب حياة الإمام الحسن بن علي .
فالحقيقة التي يعرفها الحسن بن علي رضي الله عنه أنه لم يحدث أزمات لا بسيطة ولا خطيرة، ولم يثبت أي انقسام أو فرق لكل منها مرشح يطمع في الخلافة كما زعم بعض كتاب التاريخ الذين اعتمدوا على روايات الروافض، وكتب الأدب، وأكاذيب التاريخ، ولم يثبت النقل الصحيح تآمراً حدث بين أبي بكر وعمر وأبي عبيدة لاحتكار الحكم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهم كانوا أخشى لله وأتقى من أن يفعلوا ذلك.
إن الحسن رضي الله عنه حدثنا بأنه عقل الصلوات الخمس في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يتردد على مسجد رسول الله ولا شك في أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم أبا بكر على غيره أثناء مرضه صلى الله عليه وسلم، وقد علم ببيعة المسلمين لأبي بكر بعد جده، فمعتقد الحسن بن علي رضي الله عنه في خلافة أبي بكر، معتقد أهل السنة والجماعة القائل بصحة وشرعية خلافة أبي بكر الصديق بعد النبي صلى الله عليه وسلم لفضله وسابقته وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم إياه في الصلوات على جميع الصحابة وقد فهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مراد المصطفى عليه الصلاة والسلام من تقديمه في الصلاة، فأجمعوا على تقديمه في الخلافة ومتابعته ولم يختلف منهم أحد ولم يكن الرب جلا وعلا ليجمعهم على ضلالة فبايعوه طائعين وكانوا لأوامره ممتثلين ولم يعارض أحد في تقديمه ، فعندما سئل سعيد بن زيد متى بويع أبو بكر؟ قال: يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم: كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة ، وقد نقل جماعة من أهل العلم المعتبرين إجماع الصحابة ومن جاء بعدهم من أهل السنة والجماعة على أن أبا بكر رضي الله عنه أولى بالخلافة من كل أحد ، كالخطيب البغدادي وأبي الحسن الأشعري ، وعبد الملك الجويني وأبي بكر البقلاني ،
وقد استوعب الحسن بن علي رضي الله عنه أسس الخلافة الإسلامية الراشدة وبأنها تقوم على الشورى، والبيعة، وقد أجمع المسلمون على وجوب الخلافة، وأن تعيين الخليفة فرض على المسلمين يرعى شئون الأمة ويقيم الحدود ويعمل على نشر الدعوة الإسلامية وعلى حماية الدين والأمة بالجهاد وعلى تطبيق الشريعة وحماية حقوق الناس ورفع المظالم وتوفير الحاجات الضرورية لكل فرد .
هذا وقد قام أهل الحل والعقد في سقيفة بني ساعدة ببيعة الصديق خاصة ثم رشحوه للناس في اليوم الثاني وبايعته الأمة في المسجد البيعة العامة .
وقد تعلم الحسن رضي الله عنه مما دار في سقيفة بني ساعدة مجموعة من المبادئ منها، أن قيادة الأمة لا تقام إلا بالاختيار، وأن البيعة هي أصل من أصول الاختيار وشرعية القيادة، وأن الخلافة لا يتولاها إلا الأصلب ديناً والأكفأ إدارة، فاختيار الخليفة يكون وفق مقومات إسلامية، وشخصية، وأخلاقية، .. وأن الحوار الذي دار في سقيفة بني ساعدة قام على قاعدة الأمن النفسي السائد بين المسلمين حيث لا هرج ولا مرج، ولا تكذيب ولا مؤامرات ولا نقض للاتفاق، ولكن تسليم للنصوص التي تحكمهم حيث المرجعية في الحوار إلى النصوص الشرعية .
3 ـ بعض ملامح الحكم في عهد الصديق:
إن الحسن بن علي رضي الله عنه قد استوعب هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي الخلفاء الراشدين، ولذلك نجده عندما تنازل لمعاوية شرط عليه الالتزام بالكتاب والسنة ومنهج الخلفاء الراشدين، وهذا يدلنا على أنه على علم ودراية بعهد الصديق رضي الله عنهما، وخطة الصديق عندما تولى القيادة تعتبر من عيون الخطب الإسلامية على إيجازها وقد قرر فيها قواعد العدل والرحمة في التعامل بين الحاكم والمحكوم وركز على أن طاعة ولي الأمر مرتبة على طاعة الله ورسوله، ونص على الجهاد في سبيل الله لأهميته في إعزاز الأمة، وعلى اجتناب الفاحشة لأهميته ذلك في حماية المجتمع من الانهيار والفساد ، ومن خلال الخطبة، والأحداث التي تمت بعد وفاة رسول، تعلم الحسن بن علي ملامح نظام الحكم في بداية عهد الخلافة الراشدة والتي من أهمها:
أـ القرآن الكريم والسنة النبوية:، المرجعية العليا في دولة الصديق رضي الله عنه:
قال أبو بكر رضي الله عنه في خطبته: أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم .
ب ـ حق الأمة في مراقبة الحاكم ومحاسبته:
وجاء في خطبته: فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني
ت ـ إقرار مبدأ العدل والمساواة بين الناس:
وجاء في خطبته أيضاً: الضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله .
ث ـ الصدق أساس التعامل بين الحكم والمحكوم:
وجاء في خطبته أيضاً: الصدق أمانة والكذب خيانة . أن الصدق بين الحاكم والأمة هو أساس التعامل، في العهد الراشدي.
ج ـ إعلان التمسك بالجهاد وإعداد الأمة لذلك:
قال أبو بكر رضي الله عنه: وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا خذلهم الله بالذل ، وهذا ما فهمه الصديق من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا تبايعتم بالعينة، ,اخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه، حتى ترجعوا إلى دينكم .
ح ـ تطهير المجتمع من الفواحش:
قال أبو بكر رضي الله عنه: ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء ، والصديق هنا يذكر الأمة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا . هذه بعض الأهداف التي بينها الصديق في خطابه للأمة بعد البيعة العامة والذي رسم فيه سياسة الدولة فحدد مسئولية الحاكم ومدى العلاقة بينه وبين المحكومين وغير ذلك من القواعد المهمة في بناء الدولة وتربية الشعوب .
4 ـ مبايعة والد الحسن للصديق رضي الله عنهما:
جاءت روايات صحيحة السند تفيد بأن علياً والزبير رضي الله عنهما بايعا الصديق في أول الأمر وقد ذكرت تفاصيلها في كتابي أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وقد رأى الحسن والده في مواقفه الداعمة للصديق، فقد كان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لا يفارق الصديق في وقت من الأوقات ولم ينقطع عنه في جماعة من الجماعات، وكان يشاركه في المشورة، وفي تدبير أمور المسلمين، وكان رضي الله عنه لأبي بكر عيبة نصح له مرجحاً لما فيه مصلحة للإسلام والمسلمين على أي شئ آخر، ومن الدلائل الساطعة على إخلاصه لأبي بكر ونصحه للإسلام والمسلمين وحرصه على الاحتفاظ ببقاء الخلافة واجتماع شمل المسلمين ما جاء في موقفه من توجه أبي بكر رضي الله عنه بنفسه إلى ذي القصة، وعزمه على محاربة المرتدين، وقيادته للتحركات العسكرية ضدهم بنفسه، وما كان في ذلك من مخاطرة وخطر على الوجود الإسلامي ، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما برز أبو بكر إلى ذي القصة واستوى على راحلته أخذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟ أقول لك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: لم سيفك ولا تفجعنا بنفسك، وارجع إلى المدينة، فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبداً، فرجع ، فلو كان علي رضي الله عنه ـ أعاذه الله من ذلك ـ لم ينشرح صدره لأبي بكر، وقد بايعه على رغم من نفسه، فقد كانت هذه فرصة ذهبية ينتهزها علي، فيترك أبا بكر وشأنه، لعله يحدث به حدث فيستريح منه ويصفو له الجو، وإذا كان فوق ذلك ـ حاشاه الله ـ من كراهته له، وحرصه على التخلص منه، أغرى به أحداً يغتاله، كما يفعل السياسيون الانتهازيون بمنافسيهم، وأعدائهم ، وقد كان رأي علي رضي الله عنه مقالتة المرتدين وقال لأبي بكر لما قال لعلي، ما تقول يا أبا الحسن؟ قال أقول: إنك إن تركت شيئاً مما كان أخذه منهم رسول الله، فأنت على خلاف سنة الرسول، فقال: أما لئن قلت: ذاك لأقاتلنهم وإن منعوني عقالاً ، ولا شك أن الحسن بن علي سمع والده في مدحه لأبي بكر وعمر مثل قوله: لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفترى ، وقوله: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد أبي بكر وعمر ، وقد تواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: خير الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر. وقد روي هذا عنه من طرق كثيرة قيل أنها تبلغ ثمانين طريقاً ، وعن صلة بن زفر العبسي قال: كان أبو بكر إذا ذكر عند علي قال: السباق تذكرون والذي نفسي بيده ما استبقنا إلى خير قط إلا سبقنا إليه أبو بكر ،وقد كان علي رضي الله عنه يمتثل أوامر الصديق فعندما جاء وفد من الكفار إلى المدينة، ورأوا بالمسلمين ضعفاً وقلة لذهابهم إلى الجهات المختلفة للجهاد واستئصال شأفة المرتدين والبغاة الطغاة وأحس منهم الصديق خطراً على عاصمة الإسلام والمسلمين، أمر الصديق بحراسة المدينة وجعل الحرس على انقابها يبيتون بالجيوش، وأمر علياً والزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود أن يرأسوا هؤلاء الحراس، وبقوا ذلك حتى آمنوا منهم ، وللتعامل الموجود بينهم وللتعاطف والتوادد والوئام الكامل كان عليّ وهو سيد أهل البيت ووالد سبطي الرسول صلوات الله وسلامه عليه، يتقبل الهدايا والتحف داب الأخوة المتساورين ما بينهم والمتحابين كما قبل الصهباء الجارية التي سبيت في معركة عين التمر، وولدت له عمر ورقية ، وأيضاً منحه الصديق خولة بنت جعفر بن قيس التي أسرت مع من أسر في حرب اليمامة وولدت له أفضل أولاده بعد الحسن والحسين وهو محمد بن الحنفية، وكانت خولة من سبي أهل الردة وبها يعرف ابنها ونسب إليها محمد بن الحنفية ، يقول الأمام الجويني عن بيعة الصحابة لأبي بكر: وقد اندرجوا تحت الطاعة عن بكرة أبيهم لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ وكان علي رضي الله عنه سامعاً لأمره، وبايع أبا بكر على ملأ من الأشهاد، ونهض إلى غزو بني حنيفة ، ووردت روايات عديدة في قبوله هو وأولاده الهدايا المالية والخمس من الغنائم وأموال الفئ من الصديق رضي الله عنهم أجمعين وكان عليّ هو القاسم والمتولي في عهده على الخمس والفئ وكانت هذه الأموال بيد علي، ثم كانت بيد الحسن، ثم بيد الحسين، ثم الحسن بن الحسن ثم زيد بن الحسن ،
وكان علي رضي الله عنه يؤدي الصلوات الخمسة في المسجد خلف الصديق، راضياً بإمامته، ومظهراً للناس إتفاقه ووئامه معه وهذا ما عرفه الحسن بن علي في علاقة والده بالصديق، بالإضافة إلى المصاهرات بين الصديق وأهل البيت، وتسمية أهل البيت بعض أسمائهم باسم أبي بكر، فقد كانت صلة أبي بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعضاء أهل البيت، صلة ودية تقديرية تليق به وبهم، وكانت هذه المودة والثقة متبادلة وكانت من المتانة بحيث لا يتصور معها التباعد والاختلاف مهما نسج المسامرون الأساطير والأباطيل، فالصديقة عائشة بنت الصديق بنت أبي بكر كانت زوجة جد الحسن بن علي صلى الله عليه وسلم، ومن أحب الناس إليه مهما احترق الحساد ونقم المخالفون، فإنها حقيقة ثابتة وهي طاهرة مطهرة بشهادة القرآن مهما جحدها المبطلون وأنكرها المنكرون، ثم أسماء بنت عميس التي كانت زوجة لجعفر بن أبي طالب شقيق علي، فمات عنها وتزوجها الصديق وولدت له ولداً سماه محمداً الذي ولاه على مصر، ولما مات أبو بكر تزوجها علي بن أبي طالب فولدت له ولداً سماه يحي ،
وكان من حب أهل البيت للصديق والتوادد ما بينهم أنهم سموا أبنائهم بأسماء أبي بكر، وهذا دليل على حب ومؤاخاة وإعظام علي للصديق رضي الله عنهما، والجدير بالذكر أنه ولد له هذا الولد بعد تولية الصديق الخلافة والإمامة، بل بعد وفاته كما هو معروف بداهة، وعلي رضي الله عنه لم يسم ابنه بأبي بكر إلا متيمناً بالصديق، وإظهاراً له المحبة والوفاء وحتى بعد وفاته وإلا فلا يوجد في بني هاشم رجل قبل علي سمي ابنه بهذا الإسم، ثم لم يقتصر علي بهذا التيمن والتبرك وإظهار المحبة والصداقة للصديق بل بعده بنوه أيضاًُ مشوا مشيه ونهجوا نهجه، فالحسن والحسين سميا كل واحد منهم أحد أولادهما بأبي بكر، وحتى اليعقوبي والمسعودي ذكر ذلك، وهما من مؤرخي الشيعة ، واستمر أهل البيت يسمون من أسماء أولادهم بأبي بكر، ولا شك أن العلاقة المتينة بين أبي بكر وعلي رضي الله عنهما كان لها أثرها البالغ في نفسية وقلب الحسن بن علي مما ترتب عليه تقديره للصديق واحترامه ومعرفة فضله ومكانته في الإسلام.

يمكنكم تحميل كتاب: خامس الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين
الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - شخصيته وعصره
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد محمد الصلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book06.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022