أهم أسباب الصلح بين الحسن ومعاوية (رضي الله عنهما)
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة: الخامسة و الأربعون
رجب 1441 ه/ مارس 2020م
أهم أسباب ودوافع الصلح:
كانت هناك عوامل وأسباب متعددة ساهمت في دفع أمير المؤمنين الحسن للصلح مع معاوية رضي الله عنه فمنها:
أولاً: الرغبة فيما عند الله وإرادة صلاح هذه الأمة:
قال الحسن بن على رضى الله عنهما ردًا على نفير الحضرمى عندما قال له: إن الناس يزعمون أنك تريد الخلافة. فقال: كانت جماجم العرب بيدى، يسالمون من سالمت، ويحاربون من حاربت، فتركتها ابتغاء وجه الله ، وقال في خطبته التى تنازل فيها لمعاوية: .. إما كان حقًا لي تركته لمعاوية إرادة صلاح هذه الأمة .
إن استحضار الحسن رضي الله عنه وإرادة وجه الله وتقديم ذلك، والحرص على إصلاح ذات البين من أسباب الصلح ودوافعه عند الحسن بن علي رضي الله عنه، فمكانة الصلح في الإسلام عظيمة، وهو من أجل الأخلاق الاجتماعية، إذ به يرفع الخلاف وينهى المنازعة التى تنشأ بين المتعاملين ماديًا أو اجتماعيًا، ويعود بسببه الود والإخاء بين المتنازعين لكونه يرضى طرفى النزاع ويقطع دابر الخصام، ولذلك كان الصلح من أسمى المطالب الشرعية لتتحقق به الأخوة التى ينشدها لهم ويصفهم بها، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]
وهى الأخوة التى يذهبها الخلاف والتنازع فيما بينهم ولذلك اعتنى القرآن الكريم بالصلح كثيرًا، أمرًا به، وترغيبًا فيه، وتنويهًا به وبأهله، وإليك البيان.
1 - الأمر بالإصلاح:
ففى مثل قوله سبحانه وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1].
وقوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 9، 10] فترى أن الله تعالى أمر عباده بأن يصلحوا ذات بينهم لما بينهم من الإخاء كما صرح به في آية الحجرات حيث قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] إذ بينت هذه الآية علّيَّة الأمر بالإصلاح بين المؤمنين بصيغة القصرَ، المفيدة لحصر حالهم في حال الأخوة، مبالغة في تقرير هذا الحكم بين المسلمين، لما بينهم من انتساب إلى أصل واحد وهو الإيمان الذي هو منشأه البقاء الأبدى في الجنات، فأشارت جملة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} إلى وجوب الإصلاح بين المؤمنين ومن هذه الأوامر القرآنية يُعلم أن الإصلاح بين الناس ليس من نافلة القول، بل هو تكليف إلهى للقادرين عليه، حتى لا تفسد أواصر الأخوة الإيمانية بين المؤمنين، وهو مع ذلك من التعاون على البر والتقوى، ومن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الذين أمر الله تعالى بهما في غير آية، ومعلوم أن هذا من الواجبات الشرعية التكليفية على المؤمنين في علاقتهم الاجتماعية، فكل هذه الأمور تحتم على المسلم القيام بالإصلاح بين المسلمين بل وبين الناس عامة، ولتستقر الحياة الاجتماعية عامرة بالود والإخاء ، كانت هذه الأوامر دافعة للحسن بن على رضى الله عنه للسعى في الإصلاح.
2 - الترغيب في القيام بالإصلاح:
ولقد رتب الله تعالى على القيام به فضلاً كبيرًا وأجرًا عظيمًا، يناله القائم بذلك ابتغاء مرضاة الله تعالى كما قال الله جل شأنه: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114]. ووعد القائمين به مغفرة ورحمة، كما يفيده قول الله جل ذكره: {وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 129] فإن في هذه الآية إشارة إلى مغفرة بن ورحمته للمصلحين، كَما أذن به ختم الآية بصفتى المغفرة والرحمة لله سبحانه وتعالى ، ومثل هذه الآية قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 182]، فإن فيها من الإشارة إلى مغفرته ورحمته سبحانه للمصلح ما في سابقتها، بدلالة نفى الإثم، وتذييلها بصفتى المغفرة والرحمة، وهى إشارة جلية وقد وصف سبحانه نفسه بقوله: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170].
3 - التنويه بالصلح والقائمين عليه:
وتكرار هذا الوعد يدل على علو شأن الإصلاح بين الناس عند الله تعالى، ولذلك أجزل للقائم به تلك المثوبة الكريمة والأجر العظيم، وقد دل على ذلك أيضاً تنويه الله تعالى به بمثل قوله سبحانه: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] فإن وصفه بالخيرية دليل على علو منزلته عند الله تعالى، وذلك لما له من عظيم الأثر في إصلاح ذات البين بين الناس، الذي طالما تشوف الشارع الحكيم إليه في المجتمعات الإنسانية، ولما له من دلالة على كريم أخلاق القائم به أو الراضى عنه، ولهذا كان من أبرز أخلاق الرسل عليهم الصلاة والسلام كما قال الله تعالى على لسان شعيب عليه السلام: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود: 88]، كما قال على لسان موسى وهو يخاطب أخاه هارون رضي الله عنه: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142] إلى غير ذلك من الآيات، والإصلاح في مثل هاتين الآيتين عام فيشمل الإصلاح في الدين والدنيا، ومنه الإصلاح بين الناس عند حدوث المقتضى لذلك من نزاع ونحوه لا يخلو منه مجتمع من المجتمعات البشرية . فهذا المقصد القرآنى الكريم، كان دافعًا للحسن بن على في الصلح، وقد تتبع خطوات جده - صلى الله عليه وسلم - في الحرص على الصلح، فقد كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يجهد نفسه في الإصلاح ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فقد حدث ذات يوم أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: "اذهبوا بنا نصلح بينهم" ، فانظر كيف أن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يتوان عن الذهاب للإصلاح بين المسلمين حينما بدر الشقاق بينهم ليحسم الخلاف، ويعيد الوئام قبل أن يستفحل الأمر ويتسع الخرق على الراقع .
ولأهمية الصلح بين الناس وفضله أجاز الإسلام الكذب فيه إذا كان القصد من ذلك الإصلاح بين المتخاصمين، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمى خيرًا أو يقول خيرًا" ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل الكذب إلا في ثلاث: الرجل يحدت امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس" ، وما ذلك إلا لعظم خطر الخلاف بين المسلمين وفساد ذات بينهم كما بينه - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم وسوء ذات البين فإنها الحالقة" أى: الخصلة التى من شأنها أن تحلق، أراد أنها خصلة سوء تذهب الدين كما تذهب الموسى الشعر ، ولقد بين عليه الصلاة والسلام ما للصلح من أجر عظيم بقوله: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ " قالوا: بلى يا رسول الله قال: "إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هى الحالقة" . ولذلك كان من أمله الكبير ورجائه العظيم في نسله المبارك الحسن السبط -رضي الله عنه- أن يصلح الله به فساد ذات البين الذي أعلمه الله بحدوثه في أمته بعد وفاته، فمن حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر، والحسن بن على إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: "إن بنى هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" ، فرغبة الحسن بن علي رضي الله عنه في الأجر والمثوبة وإرادته للإصلاح دفعته لهذا الصلح المبارك.
ثانيًا: إن ابنى هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين:
إن دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين دفعت الحسن إلى التخطيط والاستعداد النفسى للصلح والتغلب على العوائق التى في الطريق، فقد كان هذا الحديث الكلمة الموجهة الرائدة للحسن في اتجاهاته وتصرفاته ومنهج حياته، فقد حلت في قرارة نفسه واستولت على مشاعره وأحاسيسه واختلطت بلحمه ودمه، ومن خلال هذا التوجيه واستيعابه وفهمه له بنى مشروعه الإصلاحى، وقسم مراحله وكان متيقنًا من نتائجه، فالحديث النبوى كان دافعًا أساسيًا وسببًا مركزيًا في اندفاع الحسن للإصلاح.
ثالثًا: حقن دماء المسلمين:
قال الحسن رضي الله عنه: ... خشيت أن يجىء يوم القيامة سبعون ألفًا، أو أكثر أو أقل، كلهم تنضح أوداجهم دمًا، كلهم يستعدى الله فيما هُريق دمه ؟ وقال رضي الله عنه: ألا إن أمر الله واقع إذ ليس له دافع وإن كره الناس، إنى ما أحببت أن لي من أمة محمد مثقال حبة من خردل يهراق فيه محجمة من دم، قد علمت ما ينفعنى مما يضرنى ألحقوا بطيتكم ، وقال في خطبته التى تنازل فيها لمعاوية عن الخلافة وتسليمه الأمر إليه: ... إما كان حقًا لي تركته لمعاوية إرادة صلاح هذه الأمة وحقن دمائهم .
تلحظ من كلام سيدنا الحسن رضي الله عنه شدة خوفه من الله تعالى ذلك الخوف الذي دفعه إلى الصلح، وقد مدح بن أنبياءه عليهم السلام وأولياءه بمخافتهم الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد: 21] فالخوف المحمود من الله يحث على العلم، ويكدر جميع الشهوات، ويزعج القلب عن الركون إلى الدنيا، ويدعوه إلى التجافى عن دار الغرور، دون الحديث النفسى الذي لا يؤثر في الكف عن المعاصى والحث على فعل الطاعات، ودون الوصول إلى اليأس الموجب للقنوط . فالحسن بن علي رضي الله عنه أراد أن يحقن دماء المسلمين قربة إلى الله عز وجل، وخشى على نفسه من حساب الله يوم القيامة في أمر الدماء، ولو أدى به الأمر إلى ترك الخلافة، فكان ذلك دافعًا له نحو الصلح، فالحسن بن على رضي الله عنه يعلم خطورة سفك الدماء بين المسلمين، لأن ذلك من أخطر الأمور التى تهز كيان البشرية، ولذلك ورد تحريمه والوعيد عليه، وتحديد عقوبته في كثير من نصوص الكتاب والسنة، والقتل أول ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة مما يدل على عظم شأن قتل النفس والاعتداء على حرمة الإنسان، فقد روى البخارى عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: قال النبى - صلى الله عليه وسلم -: "أول ما يقضى بين الناس في الدماء" ، فأمر الدماء عظيم يوم القيامة، والعمل على حفظها في الدنيا من مقاصد الشريعة ولذلك حرص الحسن على الصلح حفظًا لدماء المسلمين، لقد عنيت الشريعة الإسلامية التى فهمها واستوعبها الحسن -رضي الله عنه- بالنفس عناية فائقة، فشرعت من الأحكام ما يجلب المصالح لها، ويدفع المفاسد عنها، وذلك مبالغة في حفظها وصيانتها، ودرء الاعتداء عليها لأنه بتعرض الأنفس للضياع والهلاك يُفقد المكلف الذي يتعبد الله سبحانه وتعالى وذلك بدوره يؤدى إلى ضياع الدين، والمقصود من الأنفس التى عنيت الشريعة بحفظها هى الأنفس المعصومة بالإسلام الجزية أو الأمان ، ولهذا لما قيل للحسن من بعض المعترضين على الصلح: يا عار المؤمنين! قال: للعار خير من النار ، وفى رواية ابن سعد: إنى اخترت العار على النار ، ونلحظ أن الحسن بن على كان يناقش أتباعه ويبين، لهم دوافعه ويرتقى بهم نحو قناعته، ولم يكن ممن تقوده الجماهير، وهمه ما يطلبه المستمعون، وإنما شق طريقه وفق تصوراته وفهمه لحقائق الأمور، ونأى بنفسه أن يتأثر بضغط عوام الناس ما دامت الخطوات التى يسير بها فيها رضا الله، ومصلحة المسلمين، وهذا درس كبير لكثير من القيادات الإسلامية، في كون القائد هو الذي يقود عامة الناس ويرتقى بهم نحو أهدافهم، وفى مثل ظروف الحسن عادة يكون الزعماء بين أمور:
أ- ما تطلبه الجماهير.
ب- من لا يهتم ولا يرد على أحد.
ج- عمل الصواب والحق والارتقاء بالجماهير. ونرى الحسن بن على اختار الطريق الثالث وهو عمل الصواب والحق والارتقاء بالجماهير نحو الأهداف السامية التى رسمها، ولذلك قام بتقديم رؤية واضحة وخطوات تنفيذية عبر مراحل وتمهيدات ووضع شروط وتغلب على العوائق، واهتم بإقناع المخالفين لوجهة نظره وهذا هو الصواب والله أعلم.
رابعًا: حرصه على وحدة الأمة:
قام الحسن بن على خطيبًا رضي الله عنه في إحدى مراحل الصلح فقال: أيها الناس، إنى قد أصبحت غير محتمل على مسلم ضغينة ، وإنى ناظر لكم كنظرى لنفسى، وأرى رأيًا فلا تردوا علىَّ رأيي، إن الذي تكرهون من الجماعة أفضل مما تحبون من الفرقة . وقد تحقق بفضل الله ثم حرص الحسن على وحدة الأمة ذلك المقصد العظيم، فقد ارتأى رضي الله عنه أن يتنازل عن الخلافة حقنًا لدماء المسلمين، وتجنبًا للمفاسد العظيمة التى ستلحق الأمة كلها في المآل إذا بقى مصرًا على موقفه، من استمرار الفتنة، وسفك الدماء، وقطع الأرحام، واضطراب السبل، وتعطيل الثغور وغيرها، وقد تحققت -بحمد الله- وحدة الأمة بتنازله عن عرض زائل من أعراض الدنيا حتى سمى ذلك العام عام الجماعة . وهذا يدل على فقه الحسن في معرفته لاعتبار المآلات ومراعاته نتائج التصرفات، ولهذا الفقه مظاهره في كتاب الله وشواهده، فقد رتب المولى عز وجل الحكم على مقتضى النتائج والشواهد ومثال ذلك:
1 - النهى عن سب المشركين:
قال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]. رغم أن سب آلهة المشركين أمر جائز لما فيه من إهانة الباطل ونصرة الحق إلا أن الشارع الحكيم لم يقف نظره واعتباره عند هذه الغاية القريبة، بل نظر إلى نتيجة هذا العمل المشروع، وما سينجر عنه من آثار غير مشروعة، ثم قضى بعدم سب آلهة المشركين سدًا لذريعة سبهم لله تعالى انتقامًا لآلهتهم، وانتصارًا لباطلهم، إذ إن المصلحة التى ستحصل من إهانة آلهتهم أهون بكثير من مفسدة سبهم لرب العالمين، والمفسدة إذا أربت على المصلحة قدم درء المفسدة على جلب المصلحة .
2 - النهى عن الجهر والمخافتة في القراءة:
قال تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110] حيث نهى المولى عز وجل نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن الجهر بالقراءة في الصلاة؛ التفاقًا إلى مآل ذلك إذا سمع المشركون قراءته، فيحملهم ذلك على سب الله تعالى وشتم دينه وكلامه ، يقول ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول هذه الآية: إن الكفار -يعنى بمكة حين كان مختفيًا- كانوا إذا سمعوا القرآن سبوه ومن أنزله، ومن جاء به، فقال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} أى بقراءتك فيسمعِ المشركون فيسبوا القرآن، {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} عن أصحابك فلا يسمعون، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} .
3 - خرق الخضر للسفينة:
قال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79]. الاعتداء على ملك الغير بغير حق من الأمور المحظورة على وجه القطع في الشرع، لكننا رأينا الخضر عليه السلام يهوى على السفينة بالخرق الذي هو في ظاهر الحال تعييب، وإلحاق الخسارة بأهلها، ولما أنكر عليه موسى عليه السلامِ فعله، وقرره بالجميل الذي أسداه إليهما أهل السفينة حين أركبوهما بغير أجرة؛ بيَّن له أن المفسدة لم ترتكب إلا لما فيها من دفع مفسدة أعظم وهى غصب السفينة وذهابها جملة؛ حيث إن وراءهم ملكًا يأخذ كل سفينة سالمة من العيوب غصبًا، ولا شك أن ارتكاب ضرر يسير في الحال إذا كان فيه دفع لمفسدة أعظم في المآل، يعتبر أمرًا محمودًا، والشريعة جارية على ملاحظة النتائج ودفع المفاسد العظيمة المتوقعة في الآجل، حتى وإن كان ذلك بارتكاب مفاسد أقل منها في الحال، ثم إن مفسدة خرق السفينة وتعييبها يمكن تداركها بالإصلاح، بينما ذهاب ذات السفينة إذا تحقق؛ لم يتعلق بعودتها أمل .
4 - ومن مظاهر اعتبار المآل في السنة النبوية وشواهده، دفع أعظم المفسدتين بأدناهما، منها كالامتناع عن قتل المنافقين، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال الأنصارى: يا للأنصار وقال المهاجرى: يا للمهاجرين؛ فسمعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما هذا؟ " فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الله، فقال الأنصارى: يا للأنصار؛ وقال المهاجرى: يا للمهاجرين؛ فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: "دعوها فإنها منتنة"، قال جابر: وكانت الأنصار حين قدم النبى - صلى الله عليه وسلم - أكثر، ثم كثر المهاجرون بعد؛ فقال عبد الله بن أبي: أو قد فعلوا؟ والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعنى يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق؛ قال النبى - صلى الله عليه وسلم -: "دعه لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه" ، إن قتل المنافقين واستئصالهم فيه مصلحة ظاهرة للمسلمين، وتطهير لصفهم من أن تندس إليه عناصر التخذيل والإفساد؛ لكن لما كان في ذلك هز الثقة بالمسلمين وزرع لقالة السوء عنهم بحيث ينتشر في الناس أن النبى - صلى الله عليه وسلم - يعامل الذين يعتنقون دينه بالقتل والتصفية الجسدية، فإن الأمر يتغير، وأصبح التغاضى عن قتلهم مصلحة أعلى وأولى من الصالح الأخرى التى تتأتى من استئصالهم، ورغم أن بقاء المنافقين فيه من المفاسد المحققة ما لا ينكره عاقل، إلا أن في القضاء عليهم مفسدة تفوق مفسدة بقائهم؛ لذا اقتضت حكمة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أن تدفع المفسدة العظمى بالمفسدة الصغرى .
ومن هدى النبى -صلى الله عليه وسلم- في اعتبار المآلات ومراعاة نتائج التصرفات، ترك تجديد الكعبة على قواعد إبراهيم وهو ما ثبت من حديث أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لولا حداثة عهد قومك بالكفر، لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم، فإن قريشًا حين بنت البعت استقصرت؛ ولجعلت لها خلفًا" . لما كانت الكعبة المشرفة تمثل مهوى أفئدة المؤمنين، ومجلى تاريخ النبواب الأولى، كان الأصل أن تبقى على ما تركها عليه الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، لكن قريشًا حين أرادت تجديد بنائها في الجاهلية، لم يكن معها من المال الحلال ما يكفى لإعادة البناء إلى ما كان عليه، فانتهت لها الاستطاعة إلى تشييدها على النحو الذي كانت عليه في عهد المصطفى، وقد كانت نفس النبى - صلى الله عليه وسلم - تستشرف إلى تدارك ما قصرت عنه نفقة قريش، غير أنه ترك المصلحة المحققة في إعادة بناء البيت على قواعده الأصلية التى أسسها إبراهيم عليه السلام، خشية اهتزاز حرمة البيت من النفوس، وخوف نفور الناس من الإسلام لاعتقادهم أن ذلك جرأة على الكعبة واعتداء على حرمتها .إن الحسن بن على رضى الله عنه فى فهمه العميق لفقه اعتبار المآلات ومراعاة التصرفات، كان نتيجة طبيعة لتربيته على القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين، فقد كان مستوعبًا لمقاصد الشريعة قادرًا على التطبيق بين هدى الشريعة والواقع الفعلى الذى عاشه، فكانت اجتهاداته فريدة، فى مجال السياسة الشرعية، فتحت للمسلمين آفاق رحبة فى تحقيق وحدة الأمة وتلاحم صفها، وقوة شوكتها، وإعادة دورها الحضارى، وهذا الفقه الدقيق والفهم العميق نحن فى أشد الحاجة لفهمه والعمل به فى حياتنا المعاصرة. فالحسن بن على يعلمنا أضلاً عظيمًا من أعظم أصول الإسلام؛ المحافظة على الجماعة؛ وهو الاعتصام بحبل الله جميعًا وأن لا يتفرقوا، وهو من أعظم أصول الإسلام، ومما عظمت وصية الله تعالى به فى كتابه، ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم، ومما عظمت به وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى مواطن عامة وخاصة . فقد قام الحسن بن على بمحاربة التفرق والاختلاف، وعملٍ بالتوجيهات القرآنية الهادفة لتوحيد الأمة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران: 102 - 106].
خامسًا: مقتل أمير المؤمنين على رضى الله عنه:
ومن الأسباب التى دعت أمير المؤمنين الحسن بن على إلى الصلح ما رُوع به من مقتل أبيه، فقد ترك ذلك فراغًا كبيرًا فى جبهة العراق وأثر اغتياله على نفسية الحسن رضى الله عنه فترك فيها حزنًا وأسى شديدًا، فقد قتل هذا الإمام العظيم بدون وجه حق، ولم يرع الخوارج سابقته فى الإسلام ولا فضائله العظيمة، ولا خدماته الجليلة التى قدمها للإسلام، فقد كانت حياته حافلة بالقيم والمثل والعمل على تكريس أحكام الشريعة على مستوى الدولة والشعب، لقد كان علىّ رضى الله عنه معلمًا من معالم الهدى وفارقًا بين الحق والباطل، فكان من الطبيعى أن يتأثر المسلمون لفقده ويشعروا بالفراغ الكبير الذى تركه، فقد كان وقع مصيبة مقتله على المسلمين عظيمًا، فجللهم الحزن، وفاضت مآقيهم بالدموع، ولهجت ألسنتهم بالثناء والترحم عليه رضى الله عليه، وكان مقتله سببًا فى تزهيد الحسن فى أهل العراق أولئك الذين غمرتهم مكارم أخلاق أمير المؤمنين. وشرف صحبته فأضلتهم الفتن والأطماع، وانحرفوا عن الصراط المستقيم، ونستثنى من أولئك الصادقين المخلصين لدينهم وخليفتهم الراحل العظيم رضى الله عنه وأرضاه، فقد كان مقتله ضربة قوية وجهت لعهد الخلافة الراشدة وكانت من أسباب زوالها فيما بعد.
يمكنكم تحميل كتاب: خامس الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين
الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - شخصيته وعصره
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد محمد الصلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book06.pdf