ملامح من سيرة معاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه)
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
الحلقة: السادسة و الأربعون
رجب 1441 ه/ مارس 2020م
إن تسليم الحسن بن علي الخلافة إلى معاوية مع أن معه أكثر من أربعين ألفًا بايعوه على الموت، فلو لم يكن أهلاً لها لما سلمها السبط الطيب إليه، ولحاربه ، فمعاوية رضى الله عنه لم يتزعم أهل الشام من فراغ، فقد ذكر المترجمون لهذا الصحابى الكريم فضائل جمة، وإليك شيئًا منها:
1 - من القرآن الكريم:
اشترك معاوية رضى الله عنه فى غزِوة حنين، قال تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 26].
ومعاوية رضى الله عنه من الذين شهدوا غزوة حنين، وكان من المؤمنين الذين أنزل الله سكينته عليهم مع النبى - صلى الله عليه وسلم - .
2 - من السنة:
دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمعاوية رضى الله عنه، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم اجعله هاديًا مهديًا ، واهد به" . وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم علِّم معاوية الكتاب، والحساب، وقه العذاب" . وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أول جيش من أمتى يغزون البحر قد أوجبوا" . قالت أم حرام: قلت: يا رسول الله أنا فيهم؟ قال: أنت فيهم. ثم قال النبى - صلى الله عليه وسلم -: "أول جيش من أمتى يغزون مدينة قيصر مغفور لهم". فقلت -أى أم حرام-: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: "لا" . قال المهلب : فى هذا الحديث منقبه لمعاوية؛ لأنه أول من غزا البحر .
3 - نظرات أهل العلم على معاوية رضى الله عنه:
أ- ثناء عبد الله بن عباس رضى الله عنهما:
قيل لابن عباس رضى الله عنهما: هل لك فى أمير المؤمنين معاوية، فإنه ما أوتر إلا بواحدة، قال: إنه فقيه .
ب- ثناء عبد الله بن المبارك على معاوية رضى الله عنه:
قال عبد الله بن المبارك: معاوية عندنا محنة، فمن رأيناه ينظر إليه شزرًا اتهمناه على القوم، يعنى: الصحابة .
ج- ثناء أحمد بن حنبل:
سئل الإمام أحمد -رحمه الله:- ما تقول رحمك الله فيمن قال: لا أقول إن معاوية كاتب الوحى، ولا أقول: إنه خال المؤمنين، فإنه أخذها بالسيف غصبًا؟ قال أبو عبد الله: هذا قول سوء رديء، تجانبون هؤلاء القوم، ولا يجالسون، ونبين أمرهم للناس .
د- ثناء القاضى ابن العربى على معاوية رضى الله عنه:
تحدث ابن العربى عن الخصال التى اجتمعت فى معاوية رضى الله عنه، فذكر منها: قيامه بحماية البيضة، وسد الثغور، وإصلاح الجند، والظهور على العدو، وسياسة الخلق ، وقد علق محب الدين الخطيب على هذا النص بقوله: وقد بلغ من همته -يعنى معاوية- وعظيم عنايته بذلك أن أرسل يهدد ملك الروم وهو فى معمعة القتال مع على فى صفين، وقد بلغه: أن ملك الروم اقترب من الحدود فى جنود عظيمة ، وفى ذلك يقول ابن كثير: وطمع فى معاوية ملك الروم بعد أن كان قد أخشاه، وأذله، وقهر جنده، ودحاهم، فلما رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب عليّ تدانى إلى بعض البلاد فى جنود عظيمة، وطمع فيه، فكتب معاوية إليه: والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين، لأصطلحن أنا وابن عمى عليك، ولأخرجنك من جميع بلادك، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت؛ فعند ذلك خاف ملك الروم، وبعث يطلب الهدنة .
هـ- ثناء ابن تيمية على معاوية رضى الله عنه:
قال عنه ابن تيمية: "فإن معاوية ثبت بالتواتر: أنه أمَّره النبى - صلى الله عليه وسلم -، كما أمَّر غيره، وجاهد معه، وكان أمينًا له بالوحى، وما اتهمه النبى - صلى الله عليه وسلم - فى كتابة الوحى، وولاه عمر بن الخطاب الذى كان من أخبر الناس بالرجال، وقد ضرب الله الحق على لسانه وقلبه، ولم يتهمه فى ولايته وثناء ابن كثير عليه قال عنه ابن كثير: وأجمعت الرعايا على بيعته فى سنة إحدى وأربعين ... فلم يزل مستقلاً بالأمر فى هذه المدة إلى هذه السنة التى كانت فيها وفاته، والجهاد فى بلاد العدو قائم، وكلمة الله عالية، والغنائم ترد إليه من أطراف الأرضي، والمسلمون معه فى راحة وعدل، وصفح، وعفو، وقال أيضًا: كان حليمًا ، وقورًا، رئيسًا، سيدًا فى الناس، كريمًا، عادلاً، شهمًا . وقال عنه أيضًا: كان جيد السيرة، حسن التجاوز، جميل العفو، كثير الستر رحمه الله تعالى .
4 - روايته للحديث:
يعد معاوية رضى الله عنه من الذين نالوا شرف الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومرد ذلك إلى ملازمته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد فتح مكة، لكونه صهره، وكاتبه، هذا وقد روى معاوية رضى الله عنه مائة وثلاثة وستون حديثًا عن رسول الله، اتفق له البخارى ومسلم على أربعة أحاديث، وانفرد البخارى بأربعة، ومسلم بخمسة.
وكانت سيرة معاوية رضى الله عنه مع الرعية فى ولايته من خير سير الولاة مما جعل الناس يحبونه، وقد ثبت فى الصحيح عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: خيار أئمتكم- حكاوكم- الذين "تحبونهم، ويحبونكم وتصلون عليهم -تدعون لهم- ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم، ويبغضعونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم" .
5 - قول أمير المؤمين على بن أبى طالب على إمارته:
عن سفيان بن الليل قال: قلت للحسن بن على لما قدم الكوفة إلى المدينة: يا مذل المؤمنين، قال: لا تقل ذلك، فإنى سمعت أبى يقول: لا تذهب الأيام والليالى حتى يملك معاوية، فعلمت أن أمر الله واقع، فكرهت أن تراق بينى وبينه دماء المسلمين . وفى رواية، عن على رضى الله عنه، قال: لا تكرهوا إمارة معاوية، فوالله لئن فقدتموه لترون رؤوسًا تندر عن كواهلها كأنها الحنظل .
فهذه آثار تشير إلى قدرة معاوية على الإمارة، كما أن أسلوب معاوية فى التفاوض والتعامل مع الحسن أوجد قواسم مشتركة للوصول إلى الإصلاح، وإن كان المهندس الفعلى لمشروع الإصلاح هو الحسن بن على، إلا أن شخصية معاوية وسعة أفقه ورحابة صدره، وما أبداه من المرونة ساعد على نجاح الصلح، وقد كان رضى الله عنه يتأدب إلى الحسن ويكرمه ويروى فضائل أهل البيت، فهذا يدل على إيثاره الحق مع المنازعة والمخاصمة التى سبقت بقدر الحق سبحانه ، وقد أخرج أحمد فى مسنده عن معاوية قال: كان رسول الله يمص لسان الحسن وشفتيه وأنه لن يعذب الله لسانًا أو شفة مصها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وكان رضى الله عنه صريحًا مع نفسه معترفًا بذنوبه، طالبًا مغفرة ربه، وطامعًا فى رحمته وحلمه، فعن ابن شهاب، عن عروة أن المسور أخبره أنه قدم على معاوية، فقال: يا مسور ما فعل طعنك على الأئمة؟ قال: دعنا من هذا، وأحسن فيما جئنا له. قال: لتكلمنى بذات نفسك مما تعيب علىَّ؟ قال: فلم أترك شيئًا إلا بينته، فقال: لا أبرأ من الذنب فهل تعد لنا مما نلى من الإصلاح فى أمر العامة، أم تعد الذنوب، وتترك الإحسان؟ قلت: نعم. قال: فإنا نعترف لله بكل ذنب، فهل لك من ذنوب فى خاصتك تخشاها؟ قال: نعم. فما يجعلك الله برجاء المغفرة أحق منى، فوالله ما آلى من الإصلاح أكثر مما تلى، ولا أُخيَّر بين الله وبين غيره إلا اخترت الله على سواه، وإنى لعلى دين يقبل فيه العمل، ويجزى فيه الحسنات، قال: فعرفت أنه قد خصمنى، قال عروة: فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلى عليه -أى دعا له- والحديث عن معاوية بالتفصيل سوف يأتى بإذن الله تعالى، إن أعطانا الله القوة ويسر الأسباب بمنه وكرمه وجوده فى حديثنا عن الدولة الأموية، ومع هذه النية المبيتة للحديث عن معاوية رضى الله عنه بالتفصيل، فلا يمنع من ذكر هذه القصة التى تبين خوفه وخشيته من الله تعالى، فعندما كان يروى فى مجلسه حديث أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، من أمة محمد القارئ المرائى، والمنفق المرائى، والمجاهد المرائى، وبيَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك وقال لأبى هريرة: "يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة" ، فكان معاوية يقول عندما يسمع الحديث: فقد فعل هؤلاء هذا فكيف بمن بقى من الناس؟ فقال الراوى: ثم بكى معاوية بكاء شديدًا، حتى ظننا أنه هالك، ثم أفاق ومسحِ عن وجهه، وقال: صدق الله، ورسوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15، 16] .
إن شخصية معاوية رضى الله عنه وتاريخه فى خدمة الإسلام كان عاملاً مهمًا فى نجاح الصلح، ولا نزعم بأنه من طبقة الخلفاء الراشدين، المهديين، ولكنه من الملوك العادلين، كما أن سيرته غنية بالفقه السياسى والإدارى والعسكرى، والاقتصادى والاجتماعى، وهذا يحتاج إلى دراسة متأنية لعصره ونسأل الله أن يوفقنا إلى ذلك.
يمكنكم تحميل كتاب: خامس الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين
الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - شخصيته وعصره
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد محمد الصلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book06.pdf