الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

صلح الحسن بن علي مع معاوية (رضي الله عنهما)؛ المراحل والسياقات

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة: الثالثة و الأربعون

رجب 1441 ه/ مارس 2020م

بويع الحسن رضي الله عنه بيعة عامة، وبايعه الأمراء الذين كانوا مع والده، وكل الناس الذين بايعوا لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وباشر سلطته كخليفة، فرتب العمال وأمّر الأمراء وجند الجنود وفرق العطايا، وزاد المقاتلة في العطاء مائة مائة؛ فاكتسب بذلك رضاءهم ، وكان في وسعه أن يخوض حربًا لا هوادة فيها ضد معاوية، وكانت شخصيته الفذة من الناحية السياسية، والعسكرية، والأخلاقية، والدينية تساعد على ذلك مع وجود عوامل أخرى، كوجود قيس بن سعد بن عبادة، وحاتم بن عدى الطائى وغيرهما من قادة المسلمين الذين لهم من القدرات القيادية الشيء الكثير، إلا أن الحسن بن على مال إلى السلم والصلح لحقن الدماء، وتوحيد الأمة، ورغبة فيما عند الله وزهده في الملك، وغير ذلك من الأسباب التى سيأتي بيانها وتفصيلها، وقد قاد الحسن بن على مشروع الإصلاح الذي توّج بوحدة الأمة، وظل زمام الموقف في جانبه وبيده ويد أنصاره، وكانت جبهته العسكرية قوية كما جاء في رواية البخارى، وقد عبر عن ذلك عمرو بن العاص عندما قال: إنى لأرى كتائب لا تولى حتى تقتل أقرانها ، وقال الحسن ابن على: كانت جماجم العرب بيدى تحارب من حاربت وتسالم من سالمت ، ولو لم يكن الحسن مرهوب الجانب لما احتاج معاوية رضي الله عنه إلى أن يفاوضه ويوافق على ما طلب من الشروط والضمانات، ولكان عرف ضعف جانب الحسن وانحلال قوته عن طريق عيونه، ولدخل الكوفة من غير أن يكلف نفسه مفاوضة أحد أو ينزل على شروطه، ومطالبه.
وتفوق جانب معاوية على الحسن لا مراء فيه فهل صالح الحسن معاوية لهذا السبب ؟، قال ابن تيمية في منهاج السنة: فقد كان بمقدور الحسن أن يقاتل معاوية بمن كان معه وإن كان أقل ممن كان مع معاوية صنيع الذين قاتلوا خصومهم على قلة من كان معهم من الأعوان والأنصار، ولكن الحسن كان ذا خلق يجنح إلى السلم وكراهة الفتنة ونبذ الفرقة، جعل الله به رأب الصدع، وجمع الكلمة .
وكان رضي الله عنه يملك رؤية إصلاحية واضحة المعالم، خضعت لمراحل، وبواعث، وتغلبت على العوائق وكتبت فيها شروط، وترتبت عليها نتائج، وأصبح هذا الصلح من مفاخر الحسن بن علي رضي الله عنهما على مر العصور وتوالى الأزمات، حتى قال الدكتور خالد الغيث حفظه الله: كان الحسن رضوان الله عليه في صلحه مع معاوية رضى الله عنه، وحقنه لدماء المسلمين، كعثمان في جمعه للقرآن، وكأبى بكر في الردة ، ولا أدل على ذلك في كون هذا الفعل من الحسن يعد علمًا من أعلام النبوة، والحجة في ذلك ما أخرجه البخارى من طريق أبي بكرة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، والحسن بن على إلى جنبه -وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: "إن ابنى هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" . إن صلح الحسن مع معاوية رضى الله عنه من الأحداث العظام في تاريخ الأمة الإسلامية، وقد أسهم في تبوُّؤ هذا الحدث لهذه المنزلة عدة أسباب منها:
1 - كونه علمًا من أعلام النبوة.
2 - إن من ثمار هذا الصلح حقن دماء المسلمين وجمع كلمتهم على إمام واحد بعد سنوات من الفرقة.
3 - كون الحسن رضي الله عنه أول خليفة يتنازل عن منصبه ويخلع نفسه طواعية، وبدون ضغوط، ومن مركز قوة لا من مركز ضعف، من أجل إصلاح ذات بين المسلمين.
4 - كون الحسن رضي الله عنه آخر خلفاء مرحلة النبوة من هذه الأسباب وغيرها امتلأت كتب العقيدة والسنة والتاريخ والأدب وغيرها من المصادر بأخبار صلح الحسن مع معاوية رضي الله عنهما، والقارئ لتلك المصادر -بما فيها تاريخ الطبرى- يلاحظ كثرة روايات الصلح وتضاربها مع بعضها واختلاط ضعيفها بصحيحها وتشابه بعض أحداثها، يضاف إلى ذلك عدم مراعاة المصادر للترتيب الزمنى لوقوع الحدث، مع أن التسلسل الزمنى لمجريات الصلح يعد بالغ الأهمية لفهم الحدث ، ولقد قام الأخ الكريم الدكتور خالد الغيث بجهد كبير في دراسة تلك المصادر واستخراج الروايات الصحيحة منها، واعتمدها في ترتيب أحداث الصلح ترتيبًا زمنيًا، كما استفاد من بعض الروايات الضعيفة المتوافقة مع الروايات الصحيحة وفقًا للمنهج الذي بيَّنه في رسالته المعروفة، بمرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبرى من أجل استكمال تفاصيل الحدث ، ولقد استفدت من ذلك الجهد الرائع، والترتيب المبدع، والتسلسل الجميل لمجريات الصلح.
- أهم مراحل الصلح:
المرحلة الأولى:
دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - للحسن بأن يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، فتلك الدعوة المباركة التى دفعت الحسن رضى الله عنه إلى الإقدام على الصلح بكل ثقة وتصميم ، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن ابنى هذا سيد، ولعل الله يصلح به بين فئتين عظميتين من المسلمين" ، فلم تكن نبوءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الحسن بن على أنه سيصلح الله به بين فئتين من المسلمين مجرد نبأ يسمعه الحسن والمسلمون ويصدقونه كالنبوءات النبوية الأخرى، بل كانت الكلمة الموجهة الرائدة للحسن بن علي رضي الله عنهما في اتجاهاته وتصرفاته ومنهج حياته، لابدّ أنها حلّت في قرارة نفسه، واستولت على مشاعره، وامتزجت بلحمه ودمه، واعتبرها كوصيّة من الرسول - صلى الله عليه وسلم -وهو نبيه وجدُّه- يتكلم بهذه الكلمات رأى السرور في أسارير وجهه، والبريق في عينيه - صلى الله عليه وسلم -، فتمسك بها كهدف من أهداف حياته، وكالمثل الأعلى له في مستقبله.
وقد ظهرت آثار هذه النبوءة في جميع حركاته وسكناته، حتى في الحديث مع والده الكبير الذي يحبه حبّ الأبناء البررة للآباء العظام الذين خصهم الله بمواهب ومناقب، قلّما يشاركهم فيها أفراد الأمة، وكان من أعرف الناس بها بحكم البنوة والصحبة، ويجلّه إجلال العارفين والمعجبين، وقد أشار على أبيه علىّ بن أبي طالب بعد مقتل عثمان أن يعتزل الناس إلى حيث شاء من الأرض حتى تثوب إلى العرب عوازب أحلامها، وقال له: لو كنت في جُحر ضبّ لاستخرجوك منها فبايعوك دون أن تعرض نفسك لهم، ولما عزم علىّ على قتال أهل الشام، وعزم على التجهّز، وخرج من المدينة وهو عازم على أن يقاتل بمن أطاعه من عصاه، جاء إليه الحسن بن على وقال: يا أبت دع هذا فإن فيه سفك دماء المسلمين ووقوع الاختلاف بينهم ، ولكن عليًا لم يقبل ما أشار به الحسن ولم يكن ليترك الناس في فتنة دون أن يؤدى ما يدين الله به من أمر بمعروف ونهى عن منكر، وردّ الأمر إلى نصابه، والحقّ إلى أصحابه ولكلٍّ وجهة هو موليها ، وكان على رضى الله عنه مصيبًا في رأيه.
ْوقد ظهرت المعجزة النبوية، وبلغت ذروتها بتربية الحسن بن على التربية الإسلامية الربانية، من كون هذا الإمام الفذ سيدًا جليلاً، وليست السيادة بالقهر وسفك الدماء، أو إهدار الأموال والحرمات، بل السيادة بصيانتها وإزالة البغضاء والشحناء، فصلحه وحقنه لدماء المسلمين بلغ فيه ذروة السيادة، التى لا يستطيعها من فكر بالقوة وهو يملك طرفًا منها، وقد صالح الحسن معاوية وحوله الألوف فيهم من هو طامع مدسوس ولكن فيهم الكثير الكثير من المخلصين الأوفياء، فما أراد أن تراق بسببه قطرة دم، أو يخدش مسلم في هذا السبيل، وإن الرئاسة للأقوام إن لم تكن لصيانتها، وحياطتها وحفظها، وترقيتها فهى نوع من الطاغوت الأعمى والتهور الأحمق، والمغامرة والمقامرة التى تجلب معها الدمار والخراب، والإذلال والسباب وينتهى أصحابها إلى غضب الله، ولعنة التاريخ، وهل تدافع أمواج الدماء البشرية عبر العصور والقرون إلا من الحرص على الرئاسة والسلطان والتكالب على الدنيا؟! .
لقد كان الحسن زاهدًا في الدنيا والملك والرئاسة، ولو أرادها لأدار الحرب الطحون سنين وسنين ولكنه كان ينظر إلى الدار الآخرة، ويريد حفظ دماء أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال الحسن البصرى: فلما ولى الحسن ما أهريق في سببه محجمة دم ، وكان يعلنها صريحة ويفتخر بذلك ويعتز بتنفيذه للوصية النبوية، وسلوكه مسلك التربية الإيمانية ، فقد أصلح بن بالحسن بين أهل العراق والأمة كلها، فجعل النبى - صلى الله عليه وسلم - الإصلاح من فضائل الحسن، مع أن الحسن نزل عن الأمر وسلم الأمر إلى معاوية، فلو كان القتال هو المأمور به دون ترك الخلافة ومصالحة معاوية لم يمدحه النبى - صلى الله عليه وسلم - على ترك ما أمر به وفعل ما لم يؤمر به، ولا مدحه على ترك الأولى وفعل الأدنى، فعلم أن الذي فعله الحسن هو الذي كان يحبه الله ورسوله لا القتال .
المرحلة الثانية:
شرط البيعة الذي وضعه الحسن رضي الله عنه أساسًا لقبوله مبايعة أهل العراق له، ذلك الشرط الذي نص على أنهم يسالمون من يسالم ويحاربون من يحارب ، فعن ميمون ين مهران، قال: إن الحسن بن على بن أبي طالب بايع أهل العراق بعد علىّ على بيعتين، بايعهم على الإمرة، وبايعهم على أن يدخلوا فيما دخل فيه ويرضوا بما رضى به ، وفى رواية أخرى، من طريق خالد بن مصرَّب، قال: سمعت الحسن بن على يقول: والله لا أبايعكم إلا على ما أقول لكم، قالوا: ما هو؟ قال: تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت . ويستفاد من الروايتين ابتداء الحسن رضي الله عنه في تبييته لنية الصلح قبل استخلافه، وذلك تحقيقًا منه لنبوءة المصطفى ، وأدخل الحسن رضي الله عنه بشرطه في عقلية العراقيين بأن خيار السلم قابل للنقاش والأخذ والعطاء، وليس فيه إرادة السلم على الحرب، فهو يشتمل عليهما معًا، وإن كان يوحى بالسلم وهذا دليل على عبقريته وحسن قيادته، ومعرفته بالأمور، كما أنه رضي الله عنه تقدم للخلافة لما كانت مصلحة الإسلام والمسلمين في ذلك.
المرحلة الثالثة:
وقوع المحاولة الأولى لاغتيال الحسن رضي الله عنه بعد أن كشف عن نيته في الصلح مع معاوية رضي الله عنه، وهذه المحاولة يبدو إنها قد جرت بعد استخلافه بقليل، وهو ما أشارت إليه الروايات التالية: ما أخرجه ابن سعد في طبقاته من طريق أبي جميلة : أن الحسن بن على لما استخلف حين قتل على، فبينما هو يصلى إذا وثب عليه رجل فطعنه بخنجر -وزعم حصين بن عبد الرحمن السلمي أنه بلغه أن الذي طعنه رجل من بنى أسد- والحسن ساجد، قال حصين: وعمى أدرك ذلك، قال: فيزعمون أن الطعنة وقعت في وركه فمرض منها أشهرًا ثم برئ، فقعد على المنبر فقال: يا أهل العراق اتقوا الله فينا، فإنا أمرِاؤكمِ وضيفانكم، أهل البيت الذين قال الله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]، قال: فما زال يقول ذلك حتى ما رُئى أحد من أهل المسجد إلا وهو يخن بكاء . وما أخرجه ابن سعد في طبقاته من طريق هلال بن يساف ، قال: سمعت الحسن بن على وهو يخطب وهو
يقول: يا أهل الكوفة، اتقوا بن فينا، فإنا أمراؤكم وإنا أضيافكم، ونحن أهل البيت الذين قال بن: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] قال: فما رأيت يومًا قط أكثر باكيًا من يومئذ .
المرحلة الرابعة:
خروج الحسن رضي الله عنه بجيش العراق من الكوفة إلى المدائن، وإرساله للقوة الضاربة من الجيش وهى شرطة الخميس إلى مسكن بقيادة قيس بن سعد بن عبادة ، وقد أشار ابن سعد في طبقاته إلى ذلك في الرواية التى أخرجها من طريق الشعبى، قال: بايع أهل العراق بعد على بن أبي طالب الحسن بن على، ثم قالوا له: سر إلى هؤلاء القوم الذين عصوا الله ورسوله، ارتكبوا العظيم وابتزوا الناس أمورهم، فإنا نرجو أن يمكن بن منهم، فسار الحسن إلى أهل الشام، وجعل على مقدمته قيس بن سعد بن عبادة في اثنى عشر ألفًا، وكانوا يسمون شرطة الخميس .
من خلال الرواية السابقة يتضح أن أهل العراق هم الذين دفعوا الحسن رضى الله عنه إلى الخروج لقتال أهل الشام من غير رغبة منه، وهذا الأمر قد أشار إليه ابن كثير رحمه الله بقوله: ولم يكن في نية الحسن أن يقاتل أحدًا، ولكن غلبوه على رأيه، فاجتمعوا اجتماعًا عظيمًا لم يُسمع بمثله، فأمّر الحسن بن على، قيس ابن سعد بن عبادة، على المقدمة في اثنى عشر ألفًا بين يديه، وسار هو بالجيوش في أثره قاصدًا يلاد الشام، فلما اجتاز بالمدائن نزلها وقدم المقدمة بين يديه ، وقد أشهر الحسن حنكة كبيرة دلت على سعهَ أفقه ودهائه وبصيرته، عندما لم يشأ أن يواجه أهل العراق من البداية بميله إلى مصالحة معاوية وتسليمه الأمر لأنه يعرف خفتهم وتهورهم، فأراد أن يقيم من مسلكهم الدليل على صدق نظرته فيهم، وعلى سلامه ما اتجه إليه، فوافقهم على المسير لحرب معاوية وعبأ جيشه ، وكان
خروج الحسن بن على من الكوفة إلى المدائن على ما رجحه الدكتور خالد الغيث في شهر صفر من السنة التالية وهى سنة 41هـ .
المرحلة الخامسة:
خروج معاوية رضي الله عنه من الشام وتوجه إلى العراق بعد أن وصل خبر خروج الحسن من الكوفة إلى المدائن بجيوشه، يقول ابن سعد في طبقاته: وأقبل معاوية في أهل الشام يريد الحسن حتى نزل جسر منيح ، ثم أضاف قائلاً: فأقبل من جسر منيح إلى مسكن في خمسة أيام وقد دخل يوم السادس ، وقد تأخر خروج معاوية وكان ذلك بعد سماعه لخروج الحسن بجيوشه، وكان معاوية قد أضيب إصابة بليغة من جراء محاولة الاغتيال التى تعرض لها من قِبَلْ الخارجى البرك بن عبد الله التميمى، حين خرج لصلاة الفجر، وهى المحاولةَ التى نفذت في نفس فجر اليوم الذي اغتيل فيه على رضي الله عنه، وهو فجر يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان سنة 40هـ على الصحيح المشهور من الأقوال ، وقد أشار الخلاَّل إلى شدة إصابة معاوية رضي الله عنه في الرواية التى أخرجها من طريق جندب قال: كنا مع سعد بن أبي وقاص في ركب فنزل سعد ونزلت واغتنمت نزوله قال: فجعلت أمشى إلى جانبه فحمدت الله وأثنيت عليه وقلت: إن معاوية طعن طعنًا بينًا لا أراها إلا قاتلته، وإن الناس قاتلون بقية أصحاب الشورى، وبقية أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنشدك بن إن وليت شيئًا من أمرهم، أو تشق عصاهم وأن تفرق جمعهم، أو تدعوهم إلى أمر مهلكة، فحمد سعد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فوالله لا أشق عصاهم ولا أفَرِّقهم جمعهم، ولا أدعهم إلى أمر هلكة حتى يأتونى بسيف يقول: يا سعد هذا مؤمن فدعه، وهذا كافر فاقتله .
وبينما الحسن في المدائن، إذ نادى منادٍ من أهل العراق إن قيسًا قد قتل فسرت الفوضى في الجيش، وعادت إلى أهل العراق طبيعتهم في عدم الثبات، فاعتدوا على سرادق الحسن ونهبوا متاعه حتى أنهم نازعوه بساطًا كان تحته، وطعنوه وجرحوه، وهنا حدثت حادثهَ لها دلالة كبيرة، فقد كان والى المدائن من قبل على، سعد بن مسعود الثقفى، فأتاه ابن أخيه المختار بن أبي عبيد بن مسعود، وكان شابًا، فقال له: هل لك في الغنى والشرف؟ قال: وماذاك؟ قال: توثق الحسن، وتستأمن به إلى معاوية، فقال له عمه: عليك لعنة الله، أثبت على ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأوثقه، بئس الرجل أنت ، فلما رأى الحسن صنع أصحابه أيقن أنه لا فائدة منهم، ولا نصر يرجى على أيديهم، وهذه كانت قناعته من البداية ، فدفعه ذلك إلى قطع خطوات أوسع والاقتراب أكثر من الصلح.
المرحلة السادسة:
تبادل الرسل بين الحسن ومعاوية، ووقوع الصلح بينهما رضوان بن عليهما، فقد سجل الإمام البخارى رحمه الله في صحيحه تلك اللحظات الحرجة من تاريخ الأمة المسلمة حين التقى الجمعان، جمع أهل الشام وجمع أهل العراق، وذلك في الرواية التى أخرجها من طريق الحسن البصرى، قال: استقبل -والله- الحسن بن على معاوية بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص: إنى لأرى كتائب لا تولى حتى تقتل أقرانها، فقال له معاوية -وكان والله خبر الرجلين: أى عمرو، وإن قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء، من لي بأمور الناس، مَنْ لي بنسائهم، من لي بضيعتهم ؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بنى عبد شمس- عبد الرحمن ابن سمرة، وعبد الله بن عامر بن كريز فقال: اذهبا إلى هذا الرجل فأعرضا عليه وقولا له واطلبا إليه. فأتياه، فدخلا عليه، فتكلما، وقالا له، وطلبا إليه، فقال لهما الحسن بن على: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال ، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها، قالا: فإنه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك ويسألك، قال: فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به ، فما سألهما إلا قالا: نحن لك به، فصالحه، فقال الحسن أى البصرى: ولقد سمعت أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر -والحسن بن على إلى جنبه- وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: "إن ابنى هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" ، وقد تحدث ابن حجر رحمه الله عن الفوائد المستنبطة من رواية الصلح فقال:
1 - وفى هذه القصة من الفوائد علم من أعلام النبوة.
2 - ومنقبة للحسن بن على، فإنه ترك الملك لا لقلة، ولا لذلة، ولا لعلة، بل لرغبته فيما عند الله لما رآه من حقن دماء المسلمين، فراعى مصلحة الأمة.
3 - وفيها رد على الخوارج الذين كانوا يكفرون عليًا ومت معه، ومعاوية ومن معه، بشهادة النبى - صلى الله عليه وسلم - بالطائفتين بأنهم من المسلمين.
4 - وفيها فضيلة الإصلاح بين الناس، ولاسيما في حقن دماء المسلمين.
5 - ودلالة على رأفة معاوية بالرعية، وشفقته على المسلمين، وقوة نظره في تدبير الملك، ونظره في العواقب.
6 - وفيه ولاية المفضول الخلافة مع وجود الأفضل، لأن الحسن ومعاوية ولى كل منهما الخلافة، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد في الحياة وهما بدريان.
7 - وفيه جواز خلع الخليفة نفسه، إذا رأى في ذلك صلاحًا للمسلمين، والنزول عن الوظائف الدينية والدنيوية بالمال، وجواز أخذ المال على ذلك وإعطائه، بعد استيفاء شرائطه، بأن يكون المنزول له أولى من النازل، وأن يكون المبذول من مال الباذل، فإن كان في ولاية عامة وكان المبذول من بيت المال اشترط أن تكون المصلحة في ذلك عامة .
كما أخرج ابن سعد -رحمه الله- رواية لا تقل أهمية عن رواية البخارى في الصلح، وتعد مكملة لها، وهى من طريق عمرو بن دينار : إن معاوية كان يعلم أن الحسن أكره الناس للفتنة، فلما توفى على بعث إلى الحسن، فأصلح الذي بينه وبينه سرًا، وأعطاه معاوية عهدًا إن حدث به حدث والحسن حى لَيُسَمَيّنًّه ، وليجعلن هذا الأمر إليه، فلما توثق منه الحسن، قال ابن جعفر ، والله إنى لجالس عند الحسن إذ أخذت لأقوم فجذب بثوبى وقال: اقعد يا هناه ، وأجلس، فجلست قال: إنى قد رأيت رأيًا وأحب أن تتابعنى عليه قال: قلت: ما هو؟ قال: قد رأيت أن أعمد إلى المدينة فأنزلها وأخلى بين معاوية، وبين هذا الحديث، فقد طالت الفتنة، وسقطت فيها الدماء، وقطعت فيها الأرحام، وقطعت السبل، وعُطلت الفروج -يعنى الثغور- فقال ابن جعفر: جزاك الله عن أمة محمد، فأنا معك على هذا الحديث، فقال الحسن: ادع لي الحسين، فبعث إلى الحسين فأتاه فقال: يا أخى قد رأيت رأيًا وإنى أحب أن تتابعنى عليه. قال: ما هو؟ قال: فقص عليه الذي قال لابن جعفر قال الحسين: أعيذك بالله أن تكذب عليًا في قبره وتصدق معاوية. قال الحسن: والله ما أردت أمرًا قط إلا خالفتنى إلى غيره، والله لقد هممت أن أقذفك في بيت فأطينه عليك حتى أقضى أمرى. قال: فلما رأى الحسين غضبه قال: أنت أكبر ولد على، وأنت خليفته، أمرنا لأمرك تبع، فافعل ما بدا لك . ويلاحظ على روايتى البخارى وابن سعد اتفاقهما على أن معاوية رضي الله عنه كان صاحب المبادرة في الاتصال بالحسن رضي الله عنه وعرض الصلح عليه .


يمكنكم تحميل كتاب: خامس الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين
الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - شخصيته وعصره
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد محمد الصلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book06.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022