سيرة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه): حكم وعِبر
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
الحلقة: الثانية و الأربعون
رجب 1441 ه/ مارس 2020م
- ما سمعت بأعجب من هذا:
خرج عبد الله بن جعفر حاجًا حتى إذا كان ببعض الطريق تقدم ثقله على راحلة له، فانتهى إلى أعرابية جالسة على باب الخيمة، فنزل عن راحلته ينتظر أصحابه، فلما رأته قد نزل، قامت إليه، فقالت: إلىّ بوَّاك بن مساكن الأبرار، قال: فأعجب بمنطقها، فتحول إلى باب الخيمة، فألقت إليه وسادة من أدم، فجلس عليها، ثم قامت على عنيزة لها في كسر الخيمة، فما شعر حتى قدمت منها عضوًا فجعل ينهش وأقبل أصحابه فلما رأوه نزلوا، فأتتهم بالذى بقى عندها من العنز، فطعموا وأخرجوا سفرهم، فقال عبد الله: ما بنا إلى طعامكم حاجة سائر اليوم. فلما أراد أن يرتحل دعا مولاه الذي كان يلى نفقته فقال: هل معك من نفقتنا شيء؟ قال: نعم، قال: وكم هو؟ قال: ألف دينار، قال: أعطها خمس مائة واحتبس لنفقتك باقيها، قال: فدفعه إليها، فأبت أن تقبل، فلم يزل عبد الله يكلمّها وهى تقول: أى والله أكره عذل بعلى ، فطلب إليها عبد الله حتى قبلت فودّعها وارتحل هو وأصحابه، فلم يلبث أن استقبله أعرابي يسوق إبلاً له، فقال عبد الله: ما أراه إلا المحذور، فلو انطلق بعضكم فعلم لنا علمه ثم لحقنا، فانطلق بعض أصحابه راجعًا متنكرًا حتى نزل قريبًا منه، فلما أبصرت المرأة الأعرابى مقبلاً قامت إليه تفداه وتقول: بأبى أنت وأمى
توسمته لما رأيت مهابة ... عليه فقلت: المرء من آل هاشم
وإلا فمن آل المرار فإنهم ... ملوكُ ملوكٍ من ملوك أعاظم
فقمت إلى عنز بقيت أعنز ... فأذبحها فعل امرئ غير نادم
يعوضنى منها غنان ولم يكن ... يساوى لُحيم العنز خمس دراهم
فأظهرت له الدنانير، وقصت عليه القصة، فقال: بئس لعمر بن معقل الأضياف كنت، أبعت معروفك بما أرى من الأحجار؟ قال: إنى والله قد كرهت ذلك، خفت العذْلَ، قال: وهذه لم تخافى العار، وخفت العذْلَ؟ كيف أخذ الركب؟ فأشارت إلى الطريق، قال: وهذا يعنى الرجل الذي أرسله عبد الله فقال: أسرجى لي فرسى، قالت: تصنع ماذا؟ قال: ألحق القوم، فإن سلموا لي معروفى وإلا حاربتهم، قالت: أنشدك بن أن تفعل فتسوءهم، فأقبل عليها ضربًا، وقال: ركنت إلى إمحاق المعروف؟ قال: وركب فرسه، وأخذ رمحه، فجعل الرجل صاحب عبد الله يسير معه ويقول له: ما أراك تدرك القوم، فقال: والله لآتينهم ولو بلغوا كذا وكذا، فلما رأى الرجل أنه غير منته قال: على رسلك، أُدرك لك القوم وأخبرهم خبرك، فتقدم الرجل، فأخبر ابن جعفر، وقصّ عليه القصة، فقال عبد الله: قد كانت حذرة من المشؤوم، فقال: فرهقهم، فسلّم عليه ابن جعفر وأخبره بحسن صنيع المرأة، فقال: والله ما رأيت ذلك بتمّامه، فلم يزل يكلمّه، وسأله، فأبى الأعرابى إلا ردّها، فلما رأى عبد الله ذلك قال: لننظر ما عنده، ما نحبّ أن يرجع إلينا شيء قد أمضيناه، قال: فقام من بين يديه، فتنحى، فصلّى ركعتين ثم قام فركب فرسه، وأخرج قوسه، ونبله، فقال له عبد الله: ما هاتان الركعتان؟ قال: استخرت فيها ربى عز وجل في محاربتكم، وقال: فعلى ما عزم لك من ذلك؟ قال: عزم لي عليه رشدًا أو ترجعون أحجاركم وتسلمون لنا معروفنا، فقال له عبد الله: نفعل فأمر بالدنانير فقُبضت، فولّى الأعرابى منصرفًا، فقال له عبد الله: ألا نزودك طعامًا؟ قال: الحيّ قريب فهل من حاجة؟ قال: نعم قال: وما هى؟ قال: المرأة تخبرها بسوء فعلك، فاستضحك الأعرابي، وولّى منصرفًا، فقدم عبد الله بن جعفر بعد ذلك على يزيد بن معاوية، فحدّثه حديث الأعرابى، فقال يزيد: ما سمعت بأعجب من هذا .
- إن الله لا يحب المسرفين:
جاءت امرأة إلى عبد الله بن جعفر بدجاجة مسموطة في مكتل فقالت: بأبي أنت، هذه الدجاجة كانت مثل بُنيتى أكل من بيضها وتونسنى، فآليت ألا أدفنها إلا في أكرم موضع أقدر عليه، ولا والله ما في الارض موضع أكرم من بطنك، قال: خذوها منها، واحملوا إليها من الحنطة كذا، ومن التمر كذا، وأعطوها من الدّراهم كذا، فعدد شيئًا، فلما رأت ذاك قالت: بأبى أنت، إن بن لا يحب المسرفين
- كساد سلعة مجلوبة إلى سوق المدينة:
جلب رجل من أهل البصرة سكرًا إلى المدينة، فكسد عليه، فذكر لعبد الله، فأمر قهرمانه ، أن يشتريه فيدعو الناس فينهبهم إياه ، وفى رواية قالوا للرجل: ائت عبد الله بن جعفر، فأتاه فاشتراه منه، وقال: من شاء أخذ، فقال الرجل: آخذ معهم؟ قال: خذ .
- إنفاقه مالاً وصله من يزيد بن معاوية:
وجَّه يزيد بن معاوية إلى عبد الله بن جعفر مالاً جليلاً هدية، ففرَّقه في أهل المدينة، ولم يُدخل منزله منه شيئًا، وفى ذلك يقول عبيد بن قيس الرقيّات:
وما كنت إلا كالأغر بن جعفر ... رأى المال لا يبقى فأبقى له ذكرًا
وعندما وفد عبد الله بن جعفر على يزيد، أمر له بألفى ألف ، وعلق الذهبى فقال: ما ذاك بكثير، جائزة ملك الدنيا لمن هو أولى بالخلافة منه .
- دعاء أعرابى لعبد الله بن جعفر رضي الله عنه:
قال أعرابى لعبد الله بن جعفر: لا ابتلاك الله ببلاء يعجز عنه صبرك، وأنعم الله عليك نعمة يعجز عنها شكرك .
- ذاك مالى جدت به:
رُئى عبد الله بن جعفر (يماكس) في درهم، فقيل له: تماكس في درهم وأنت تجود من المال بكذا أو كذا؟ فقال: ذاك مالى جُدت به، وهذا عقلى بخلت به .
12 - هذا رجل أراد أن يبخل الناس، أمطر المعروف مطرًا:
ذكر بعض أهل العلم، أن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه أنشد:
إنّ الصنيعة لا تكون ضيعة ... حتى يصاب بها طريق المقنع
فقال محمد بن عبد الله المهرانى: هذا رجل أراد أن يبخل الناس، أمطر المعروف مطرًا، فإن صادفت موضعًا فذاك ما أردت، وإلا رجع إليك .
- إنما الجوادُ الذي يبدئ المعروف:
قال عبد الله بن جعفر ذى الجناحين: ليس الجواد الذي يعطى بعد المسألة، لأن الذي يبذل السائل من وجهه وكلامه أفضل مما يبذل من نائله، وإنما الجواد الذي يبدئ المعروف .
- إنا لا نأخذ على المعروف ثمنًا:
روى أن دُهقانا من أهل السواد كلم بن جعفر فى أن يكلم أمير المؤمنين عليًا في حاجة، فكلّمه فيها، فقضاها له، فبعث إليه الدُّهقان أربعين ألفًا، فقالوا: أرسل الدُّهقان الذي كلمّت له، فقال للرسول: قل له، إنّا أهل بيت لا نبيع المعروف ، وفى رواية: إنا لا نأخذ على المعروف ثمنًا .
- هو والناس في ماله شركاء:
قيل لمعاوية بن عبد الله بن جعفر: ما بلغ من كرم عبد الله بن جعفر؟ قال: كان ليس له مادون الناس، هو والناس في ماله شركاء، كان من سأله أعطاه، ومن استمنحه شيئًا منحه، لا يرى أنه يقتصر فيقتصر، ولا يرى أنه يحتاج فيدخر .
- من أخبار عبد الله بن جعفر مع معاوية:
كان عبد الله بن جعفر يفد على معاوية، وعلى عبد الملك، وكان كبير الشأن كريمًا، جوادًا، يصلح للإمامة ، وكانت علاقته بمعاوية متميزة وقوية، حتى أنه سمّى أحد أولاده بمعاوية وعن أبان بن تغلب، قال: ذكر لنا أن عبد الله بن جعفر قدم على معاوية وكانت له وفادة في كل سنة، يُعطيه ألف ألف درهم، ويقضى له منه حاجة ، وقد ذكرت كتب الأدب والتاريخ روايات بين معاوية، وابن جعفر لا تثبت ولا تصح وهى كثيرة، منها: ما قال يحيى بن سعيد بن دينار: بينما عبد الله ابن جعفر ذات ليلة عند معاوية بالخضراء بدمشق إذ ورد على معاوية كتاب غمّه من الحسين بن على، فضرب به الأرض، ثم قال: من يعذرنى من ابن أبي تراب، والله لهممت أن أفعل به وأفعل. قال: فجعل عبد الله بن جعفر يجيبه بنحو مما يشتهى ويداريه حتى قام، فانصرف، قال: وكانت بينهما خوخة، فلما صار إلى منزله دعا برواحله فقعد عليها وخرج من ساعته متوجهًا إلى المدينة قال: ودخل معاوية على امرأته بنت قرظة مغتمًا فقال: ماذا صنعت الليلة بابن جعفر ففحشت عليه وأسمعته في ابن عمه ما يكره، وحال ابن جعفر حاله وحبه لنا ومودته إيانا، فقالت: بئس والله ما صنعت ما أقبح ما أتيت إليه؛ فبات ليلته مغتمًا يتذكر صنيعه به ولا يأخذه النوم حتى أسحر، فقام فتوضأ وقال: والله لا ينبهه من فراشه غيرى، فمشى إليه، فدخل فإذا ليس فيه أحد فسأل عنه فقيل له: رحل إلى المدينة ساعة من عندك، فبعث في إثره، وقال: أدركوه فردوه ولو دخل منزله، فلحقوه فردوه إليه، فجعل معاوية يعتذر إليه منه تلك الليلة، وقال: قد أقطعتك ووهبت لك كل شيء مررت به في مسيرك، قال: وقد كان، بإبل وغنم كثيرة لمعاوية فأمر بها فقبضها وذهب ما كان في نفسه . هذا الخبر لا يصح لأن إسناده ضعيف منقطع، فيحيى بن سعيد بن دينار السعدى، شيخ للواقدى، مجهول ، فهذا الأثر على سبيل المثال لا الحصر، وتذكر كتب التاريخ والأدب مساجلات شعرية بين معاوية وعبد الله بن جعفر منها؛ عن يونس بن ميسرة بن حلبس يقول: بلغ معاوية أن عبد الله بن جعفر أصابه خفقٌ وجهد هذا أو نحوه، فكتب إليه ببيتين من شعر:
لمال المرء يصلحه فيغنى ... مفاقره أعفّ من القنوع
يسد به نوائب تعتريه ... من الأيام كالنهر الشروع
وكتب إليه يأمره بالقصد ويرغبه فيه وينهاه عن السَّفر ويعيبه عليه، قال: فأجابه عبد الله بن جعفر:
سلى الطارق المعتر يا أم خالد ... إذا ما أتانى بين نارى ومجزرى
أأبسط وجهى أنه أول القرى ... وأبذل معروفى بهم دون مُنكرى
وقد أشترى عرضى بمالى وما عسى ... أخوك إذا ما ضيع العرض يشترى
يؤدى إلى الليل إتيان ماجد ... كريم ومالى سارح مال مقتر
فأعجب معاوية ما كتب إليه، وبعث بأربعين ألف دينار عونًا له على دينه .
- عبد الله بن جعفر وسماع الغناء:
نسبت كثير من كتب التاريخ والأدب إلى عبد الله بن جعفر سماعه للغناء، وانشغاله بالجوارى وهذا لا يصح، ولا يثبت، وإنما جاءت روايات ضعيفة، فقد ذكر ابن عساكر رواية مطولة، عن جماعة من مشايخ قريش من أهل المدينة قالوا: وذكر فيها قصة المغنية عمّارة، وأنه كان يجد بها وجدًا شديدًا ، وذكر ابن كثير القصة بصيغة قيل ، وقال أبو عمر بن عمر عبد البر: ويقال: .. وكان لا يرى بسماع
الغناء بأسًا ، وأما الذهبى فلم يذكر في تقريره أى إسناد يعتمد عليه ، فهذه أقوال لا سنام لها ولا خطام، وبعضها مشكوك في أصله وعليه لا يمكننى التسليم بأن عبد الله بن جعفر كان يستمع لغناء الجوارى وكان له معهن قصص من الحب والغرام، كما تزعم الروايات.
- وفاته:
توفى عبد الله بن جعفر سنة ثمانين وهو عام الجحاف نسبة إلى السيل الجحاف بمكة، لأنه جحف على كل شيء مرّ به، وحمل الحجّاج من بطن مكة والجمال بما عليها، والرجال والنساء لا يستطيع أحد أن يُنقذهم منه، وبلغ الماء إلى الحجون ، وغرق خلق كثير، وقيل: إنه ارتفع حتى كاد أن يُغطى البيت ، وقيل: إنه توفى سنة أربع أو خمس وثمانين، وهو ابن ثمانين سنة، ورجح ابن عبد البر وفاته عام 80هـ وصلّى عليه أبان بن عثمان وهو يومئذ أمير المدينة ، في عهد عبد الملك بن مروان، وقد وضع على قبره بيتين من الشعر جاء فيها:
مقيم إلى أن يبعث بن خلقه ... لقاؤك لا يُرجى وأنت قريب
تزيد بلى في كل يوم وليلة ... وتُنسى كما تُبلى وأنت حبيب
يمكنكم تحميل كتاب: خامس الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين
الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - شخصيته وعصره
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد محمد الصلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book06.pdf