من أخبار عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الهاشمي (رضي الله عنه): سيرة من الحكم والعبر
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة: الحادية و الأربعون
رجب 1441 ه/ مارس 2020م
كان عبد الله بن جعفر جوادًا، ظريفًا، حليمًا، عفيفًا، سخيًا يسمى بحر الجود ، وكان يقال له: قطب السخاء ، ويقال: إنه لم يكن في الإسلام أسخى منه -أي في عصره- ويقولون: إن أجود العرب في الإسلام عشرة، فأجواد أهل الحجاز عبد الله بن جعفر، وعبيد الله بن عباس بن عبد المطلب، وسعيد بن العاص، وأجود أهل الكوفة عتاب بن ورقاء أحد بنى رباح بن يربوع، وأسماء بن خارجة بن حصن الفزارى وعكرمة بن ربعى الفياض أحد بنى تيم الله ابن ثعلبة، وأجواد أهل البصرة عمرو بن عبيد بن معمر، وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعى ثم أحد بنى مليح وهو طلحة الطلحات، وعبيد الله بن أبي بكرة، وأجواد أهل الشام خالد بن عبد الله بن خالد بن أسد بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، وليس في هؤلاء كلهم أجود من عبد الله بن جعفر، ولم يكن مسلم يبلغ مبلغه في الجود، وعوتب في ذلك فقال: إن الله عودنى عادة، وعودت الناس عادة، فأنا إن قطعتها قطعت عنى ، وعن على بن حسين عن الحسين رضى الله عنه قال: علمنا عبد الله بن جعفر السخاء ، وهذا تواضع الحسين رضي الله عنه وإلا فله ولأخيه الحسن القدح المعلى في الجود والكرم والإنفاق، وإليك بعض أخبار جود عبد الله بن جعفر في الكرم والجود.
1 - ما عندنا ما نصلك ولكن عليك ابن جعفر:
ذكر أن أعرابيًا وقف في الموسم على مروان بالمدينة، فسأله فقال: ما عندنا ما نصلك، ولكن عليك بابن جعفر، فأتاه الأعرابي فإذا ثقُلُه قد سار، وراحلة بالباب عليها متاعها وسيف معلق فخرج عبد الله، فأنشأ الأعرابى يقول:
أبو جعفر من أهل بيت نبوة ... صلاتهم للمسلمين طهور
أبا جعفر ضن الأمير بماله ... وأنت على ما في يديك أمير
أبا جعفر يا بن الشهيد الذي له ... جناحان في أعلى الجنان يطير
أبا جعفر ما مثلك اليوم أرتجى ... فلا تتركنى بالغلاة أدور
فقال: يا أعرابى سار الثقل، فعليك الراحلة، وإياك أن تُخدع عن السيف، فإنى أخذته بألف دينار .
2 - وهل أعطيناه إلا ما يبلى ويفنى وأعطانا مدحًا يروى وثناء يبقى:
مدحه نُصيب -أحد الشعراء- فأعطاه إبلاً وخيلاً وثيابًا ودنانير ودراهم، فقيل له: تعطى لهذا الأسود مثل هذا؟ فقال: إن كان أسود فشعره أبيض، ولقد استحق بما قال أكثر مما نال، وهل أعطيناه إلا ما يبلى ويفنى، وأعطانا مدحًا يروى وثناء يبقى. وقد قيل إن هذا الخبر إنما جرى لعبد الله بن جعفر مع عبيد الله بن قيس الرقيات ، ومن شعره في عبد الله بن جعفر:
وما كنت إلا كالأغر بن جعفر ... رأى المال لا يبقى فأبقى له ذكرًا
ومن شعره أيضاً في عبد الله بن جعفر:
نفدت بي الشهباء نحو ابن جعفر ... سواء عليها ليلها ونهارُها
يزور امْرأ قد يعلم الله أنه ... تجود له كف قليل غرارها
فوالله لولا أن تزور ابن جعفر ... لكان قليلاً في دمشق قرارُها
أتيتك أثنى بالذى أنت أهله ... عليك كما أثنى على الروض جارُها
ذكرتك إذا فاض الفرات بأرضنا ... وجلل أعلا الرقتين بحارُها
فإن متّ لم يوصل صديق ولم تقم ... طريق من المعروف أنت منارُها
وقال مصعب بن عبد الله: قال عبد الملك بن مروان: أي ويحك يا ابن قيس أما اتقيت حين تقول في ابن جعفر:
أنت رجلاً قد يعلم الله أنه ... يجود له كف قليل غرارها
ألا قلت: قد يعلم الناس، ولم يقل: قد يعلم الله، قال له ابن قيس: قد والله علمه بن وعلمته، وعلمه الناس .
وقال الشماخ بن ضرار يمدح عبد الله بن جعفر:
إنك يا ابن جعفر نعم الفتى ... ونعم مأوى طارق إذا أتى
ورب ضيف طرق الحى سُرى ... صادف زادًا وحديثًا ما اشتهى
وجاء أعرابى إلى عبد الله بن جعفر وهو محموم، فأنشأ يقول:
كم لوعة للندى وكم قلق ... للجود والمكرمات من قلقك
ألبسك بن منه عافية ... في نومك المعترى وفى أرقك
أخرج من جسمك السقام كما ... أخرج ذم الفعال من عنقك
فأمر له بمائة ألف دينار.
وذات يوم كان عبد الله بن جعفر في سفر له فمر بفتيان يوقدون تحت قدر لهم فقام إليه أحدهم فقال:
أقول له حين ألفيته ... عليك السلام أبا جعفر
فوقف وقال: عليك السلام ورحمة الله، فقال:
وهدى ثيابي قد أخلقت ... وقد عفّنى زمن منكر
قال: فهذى ثيابى مكانها، وعليه جبة خز ويعينك على زمنك، فقال:
فأنت كريم بنى هاشم ... وفى البيت منها الذي يذكر
قال: يا ابن أخى، ذاك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وكتب رجل إلى عبد الله بن جعفر رقعة فجعلها في ثنى وسادة التى يتكئ عليها، فقلب عبد الله الوسادة، فنظر بالرقعة، فقرآها فردها في موضعها، وجعل مكانها كيسًا فيه خمسة آلاف دينار فجاء الرجل فدخل عليه، فقال: اقلب المرفقة فانظر ما تحتها فخذه، فأخذ الرجل الكيس وخرج وأنشأ يقول:
زاد معروفك عندي عظمًا ... أنه عندك مستور حقير
تتناساه كأنه لم تأته ... وهو عند الله مشهور كبير
3 - ديون الزبير بين عبد الله بن الزبير وعبد الله بن جعفر:
أسلف عبد الله بن جعفر الزبير ألف ألف، فلما توفى قال ابن الزبير لعبد الله ابن جعفر: إنى وجدت في كتب أبي أن له عليك ألف ألف درهم، قال: هو صادق، فاقبضها إذا شئت، ثم لقيه بعد فقال: إنما وهمت عليك، المال لك عليه، قال: فهو له، قال: لا أريد ذلك . قال الذهبى: هذه الحكاية من أبلغ ما بلغنا في الجود ، وجاء في رواية ابن عساكر عندما قال عبد الله بن الزبير لعبد الله بن جعفر: لا أريد ذاك، قال ابن جعفر: فاختر إن شئت فهو له، وإن كرهت ذلك فلك فيه نظرة ما شئت، فإن لم ترد ذلك فبعنى من ماله ما شئت، قال: أبيعك، ولكنى أقوِّم، فقوم الأموال ثم أتاه فقال: أحب أن لا يحضرنى وإياك أحد، فقال له ابن جعفر: يحضرنا الحسن والحسين فيشهدان لك، قال: ما أحب أن يحضرنا أحد، قال: انطلق فمضى معه، فأعطاه خرابًا وسباخًا لا عمارة له، وقومه عليه حتى إذا فرغ، قال عبد الله لغلامه: ألق لي في هذا الموضع مصلى، فألقى له في أغلظ موضع من تلك المواضع مصلى، فصلى ركعتين وسجد، فأطال السجود يدعو، فلما قضى ما أراد من الدعاء قال لغلامه: احفر في موضع سجودى، فحفر، فإذا عين، فملأ نبطها فقال له ابن الزبير: أقلنى، قال: أما دعائى وإجابة الله إياى فلا أقيلك فصار ما أخذ منه أعمر مما في يدى ابن الزبير .
4 - لئن والله وعدنا نعيم الآخرة، فقد عجلت نعيم الدنيا :
عن محمد بن عبيد الله بن أبي مليكة، عن أبيه، عن جده، قال: دخل ابن أبي عمار -وهو يومئذ فقيه أهل الحجاز- على نخاس يعترض منه جارية، فعرض عليه جارية بأكثر مما كان معه من الثمن، وكانت حسنة الوجه جدًا، فعلق بها، وأخذه أمر عظيم، ورآه النخاس فتباعد عليه في الثمن، واستُهْتر بذكرها فمشى إليه عطاء وطاوس ومجاهد يعذلونه، فكان جوابه أن قال:
يلومنى فيك أقوام أجالسهم ... فما أبالى أطار اللوم أوقعا
قال: فبلغ خبره عبد الله بن جعفر، فبعث إلى مولى الجارية، فاشتراها منه بأربعين ألف درهم، وأمر قيّمة جواريه أن تزينها وتحيها ففعلت، وقدم المدينة، فجاءه الناس يسلمون عليه، وجاءه جلة أهل الحجاز فقال: ما لى لا أرى ابن أبي عمار زائرًا؟ فأخبر الشيخ، فأتاه، فلما أراد أن ينهض استجلسه فقال له ابن جعفر: ما فعل حبك فلانة، قال: في اللحم والدم والمخ والعصب والعظم، فقال له: أتعرفها إن رأيتها؟ قال: جعلت فداك، هى مصورة في نصب عينى عند كل خطرة وفكرة، قال: والله ما نظرت إليها منذ ملكتها، يا جارية أخرجيها، فأخرجت ترفل في الحلى والحلل فقال: هى هذه؟ فأنشأ يقول:
هى التى هام قلبى من تذكرها ... والنفس مشغولة أيضاً بذكراها قال: فشأنك بها، فخذها، فبارك الله لك فيها، قال: جعلت فداك، لقد تفضلت بشيء ما كان يتفضل به إلا الله -على حذر عنها- فلما ولى بها قال: يا غلام احمل معها مائة ألف درهم، كي لا يهتم بها، ولا تغنم به، فبكى ابن أبي عمار سرورًا، ثم قال: الله يعلم حيث يجعل رسالاته، والله جعلت فداك، لئن كان الله وعدنا نعيم الآخرة، فقد عجلت نعيم الدنيا .
5 - ما غلبنا بالسخاء إلا الشيخ العُذرى:
عن بُديح مولى عبد الله بن جعفر قال: خرجت مع عبد الله بن جعفر في بعض أسفاره، فنزلنا إلى جانب خباء من شعر قال: وإذا صاحب الخباء رجل من بنى عذرة، قال: فبينا نحن كذلك، إذا نحن بأعرابى قد أقبل بسوق ناقة حتى وقفت علينا ثم قال: أى قوم أبغونى شفرة، فناولناه الشفرة، فوجأ في لُبتها وقال: شأنكم بها، قال: وأقمنا اليوم الثانى، وإذا نحن بالشيخ العُذرى، يسوق ناقة أخرى، فقال: أى قوم أبغونى شفرة، قال: فقلنا: إن عندنا من اللحم، قال: فقال: أبحضرتى تأكلون الغاب ، ناولنى الشفرة، فوجأ في لبتها، ثم قال شأنكم بها، وبقينا اليوم الثالث، فإذا نحن بالعذرى يسوق أخرى حتى وقف علينا، فقال: أى قوم أبغونى شفرة، قال: فقلنا: إن معنا من اللحم ما ترى، قال: أبحضرتى تأكلون الغاب، إنى لأحسبكم قومًا لئامًا، ناولونى الشفرة، فوجأ في لبتها ثم قال: شأنكم بها، قال: وأخذنا في الرحيل، فقال ابن جعفر لجارية، ما معك؟ قال رزمة ثياب وأربع مائة دينار، قال: اذهب بها إلى الشيخ العُذرى، قال: فذهب بها، فإذا جارية في الخباء، فقال: يا هذه خذى هدية ابن جعفر، قالت: إنا قوم لا نقبل على قرى أجرًا، قال: فجاء إلى بن جعفر، فأخبره، فقال: عُد إليها فإن هى قبلت وإلا فارم بها على باب الخيمة فعاودها فقالت: اذهب عنا بارك الله فيك، فإنا قوم لا نقبل على قرانا أجرًا، فوالله لئن جاء شيخى فرآك ها هنا لتلقانا منه أذى، قال: فرمى بالرزمة والصرّة على باب الخباء ثم ارتحلنا، فما سرنا إلا قليلاً حتى إذا نحن بشخص يرفعه السراب مرة ويضعه أخرى، فلما دنا منا إذا نحن بالشيخ العذرى ومعه الصرة والرزمة، فرمى بذلك إلينا ثم ولى مدبرًا، فجعلنا ننظر في قفاه هل يلتفت فهيهات قال: فكان ابن جعفر يقول: ما غلبنا بالسّخاء إلا الشيخ العُذرى .
يمكنكم تحميل كتاب: خامس الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين
الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - شخصيته وعصره
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد محمد الصلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book06.pdf