فتوحات الشام زمن الصِّدِّيق... التوجيهات الأساسية ونصر جديد في معركة أجنادين
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الخامسة والأربعون
كانت قيادة الجيوش الإِسلامية بالشَّام تتابع تطوُّر حركة الجيوش الرومانيَّة، وشعر القادة بخطورة الموقف، فعقدوا مؤتمراً بالجولان، وكتب أبو عبيدة إِلى الخليفة يشرح له الموقف، وفي الوقت نفسه قرَّروا الانسحاب من جميع الأراضي الَّتي تمَّ فتحها، وتجمَّعوا في مكانٍ واحدٍ ليتمكنوا من إِحباط خطَّة الرُّومان، وإِجبارهم على خوض معركةٍ فاصلةٍ تخوضها الجيوش الإِسلاميَّة، وكان عمرو بن العاص أشار على القادة أن يكون التجمُّع باليرموك، وجاء رأي الصِّدِّيق مطابقاً لرأي عمرو بن العاص في اختيار مكان التجمُّع، واتَّفقوا أن يتمَّ الانسحاب مع تجنُّب الاشتباك مع العدوِّ، فانسحب أبو عبيدة من حمص، وانسحب شرحبيل بن حسنة من الأردن، وانسحب يزيد بن أبي سفيان من دمشق، وأخذ عمرو بن العاص في الانسحاب تدريجيّاً من فلسطين، ولكنَّه لم يستطع الانسحاب منها حتَّى نجده خالد بن الوليد قبل اليرموك، فظلَّ يناور في بئر السَّبع لمتابعة الرُّوم له، وبذلك شنَّ المسلمون هجوماً مضادّاً، فكانت معركة أجنادين.
عندما تسلم الصِّدِّيق رسالة أبي عبيدة، وشرح له فيها الموقف؛ أمره بالانسحاب إِلى اليرموك، والتجمُّع هناك، وقال له: بث خيلك في القرى، والسَّواد، وضيِّق عليهم بقطع الميرة والمادَّة، ولا تحاصروا المدائن حتَّى يأتيك أمري، فإِنْ ناهضوك، فانهد لهم، واستعن بالله عليهم، فإِنَّه ليس يأتيهم مدد إِلا أمددناك بمثلهم. وجاء في رواية: إِنَّ مثلكم لا يؤتى من قلَّة إِنَّما يؤتى العشرة الآلاف إِذا أُتُوا من تلقاء الذُّنوب، فاحترسوا من الذُّنوب، واجتمعوا باليرموك متساندين، ولْيُصَلِّ كلُّ رجل منكم بأصحابه. وكان توجيه الصِّدِّيق للجيوش بأن يجتمعوا، ويكونوا عسكراً واحداً، وأن يلقوا زحوف المشركين بزحف المسلمين، وقال لهم: بأنَّكم أعوان الله، والله ناصر من نصره، وخاذل من خذله.
ونرى من خلال رسائل الصِّدِّيق بأنَّه وضع أساس النَّصر للجيوش بطاعتها لله أوَّلاً، فالخذلان يأتي بالمعاصي والذُّنوب، وعمل الصِّدِّيق على تجميع الجيوش في مكانٍ واحدٍ حتَّى لا يستغلَّ العدوُّ فترة انتشارهم في البلاد لينهك قواهم الواحد بعد الآخر، كما أنَّ تعيينه لليرموك دالٌّ على دراسة الصِّدِّيق لجغرافية الأرض في عصره، وإِدراكه لمواقعها، وهذا مبدأٌ حربيٌّ عظيمٌ وفَّقه الله عزَّ وجلَّ له، وقرَّر الصِّدِّيق أن ينقل خالد بن الوليد بجيشه إِلى الشَّام، وأن يتولَّى قيادة الجيوش بها، فالأمر بالشَّام يحتاج إِلى قائدٍ يجمع بين قدرة أبي عبيدة، ودهاء عمرو، وحنكة عكرمة، وإِقدام يزيد، وأن يكون صاحب قدرةٍ عسكريَّةٍ فائقةٍ مع قدرةٍ على حسم الأمور، وصاحب دهاءٍ، وحيلةٍ، وإِقدامٍ، وصاحب حنكةٍ، ودرايةٍ مع دقَّةٍ في تقدير المواقف، وصاحب تجربةٍ طويلةٍ في المعارك.
فوقع اختيار الصِّدِّيق على خالد بن الوليد، فكتب إِليه بالعراق، ونفَّذ ابن الوليد تعاليم الخليفة، ووصل بجيشه إِلى الشام بعد رحلة عبر الصحراء لم يذكر التَّاريخ شبيهاً لها، وقد بيَّنتُ ذلك، فكانت إِمدادات الصديق تتواصل على الشَّام، ويضع الخطط المتطوِّرة، ويردُّ على أساليب الأعداء التَّكتيكيَّة، والمعنويَّة، والمادِّيَّة؛ الَّتي هدفها إِشغال الصِّدِّيق عن هدفه، حتَّى قال قادة الرُّوم: والله لنغلن أبا بكر عن أن يورد الخيول إِلى أرضنا! وكان ردُّ الصِّدِّيق: والله لأشغلن النَّصارى عن وساوس الشَّيطان بخالد بن الوليد!
وقد حقَّقت توجيهات الصِّدِّيق عدَّة أمورٍ منها: توحيد جيش المسلمين في الشَّام، وتوحيد قيادة هذا الجيش بإِمرة خالد، وتحديد موقع اللِّقاء، وهذا يؤكِّد وضوح الرُّؤية عند الخليفة أبي بكرٍ في تحريك الجيوش، فكان عندما أرسلها من المدينة خرجت في طرق متباعدةٍ نسبياً، فكانت على شكل رؤوس حراب أو على شكل مروحة وهو عادةً ما يعرف بحركة الانتشار في الجيوش الحديثة، وعندما حان وقت الاشتباك واللِّقاء الفاصل جمعها مع بعضها في موقع اختياره لها، فقد ظهرت قدرته البارعة في استعمال الجيوش، وهو ما اتُّفق على تسميته(بالاستراتيجيَّة) في العلم العسكريِّ الحديث.
وكان الصِّدِّيق كقائدٍ عامٍّ للجيوش الإِسلاميَّة يحرص على حضوره المعنويِّ في ميدان القتال بالأوامر، مع ما كانت تتميَّز به تلك الأوامر من تبصُّرٍ، وبُعْد نظرٍ، ونفاذ في البصيرة، وبداهةٍ في فهم الوضع العسكريِّ على أرض المعركة، وبالتَّالي سرعته في تحريك القوى وفقاً لهذا الوضع، وبما يلائمه تمام الملاءمة، وحسن اختياره للقادة؛ الَّذين كانوا بفعل الثِّقة المتبادلة بينه وبينهم يقرؤون أفكاره، ويحسُّون برغباته ونواياه، فتتجسَّد في مخيلته فكرة المناورة الَّتي يعتزم تنفيذها، ويقومون بتنفيذها، كما لو كان الخليفة ينفِّذها، وبواسطة هذه الوسائل كان الخليفة يدير المعارك على الجبهات المختلفة كأنَّما هو حاضرٌ في كلٍّ منها، بحيث يحسُّ الجيش ـ قادةً، وجنوداً ـ كأنَّ الخليفة نفسه معهم، يقودهم، ويوجِّههم، فيأتي عملهم مطابقاً تمام المطابقة لما يريد، ويرغب، ووفقاً لأوامره، وتوجيهاته.
وعندما أرسل الصِّدِّيق إِلى خالد يأمره بالتَّوجُّه إِلى الشَّام وتولِّي الجيوش هناك، قام الصِّدِّيق بإِرسال رسالة إِلى أبي عبيدة يخبره فيها بتولية خالدٍ عليه ويأمره فيها بالسَّمع، والطَّاعة، وبيَّن فيها سبب تولية خالدٍ: أمَّا بعد: فإِني قد وليت خالداً قتال الرُّوم بالشَّام، فلا تخالفه، واسمع له، وأطع أمره، فإِنِّي ولَّيته عليك وأنا أعلم أنَّك خيرٌ منه، ولكن ظننت أنَّ له فطنةً في الحرب ليست لك، أراد الله بنا وبك سبيل الرَّشاد، والسَّلام عليك ورحمة الله وبركاته. وكانت رسالة خالدٍ إِلى أخيه أبي عبيدة قد قطعت المسافات من العراق إِلى الشَّام، واستقرَّت في قلبه الغنيِّ بالإِيمان، والزُّهد في هذه الدُّنيا الفانية، وهذا نصُّها:
لأبي عبيدة بن الجرَّاح من خالد بن الوليد، سلامٌ عليك، فإِنِّي أحمد إليك الله الَّذي لا إِله إِلا هو، أمَّا بعد: فإِنِّي أسأل الله لنا ولك الأمن يوم الخوف، والعصمة في دار الدُّنيا، فقد أتاني كتاب خليفة رسول الله يأمرني فيه بالمسير إِلى الشَّام، وبالمقام على جندها والتَّولِّي على أمرها، والله ما طلبت ذلك، ولا أردته، ولا كتبت إِليه فيه، وأنت رحمك الله! على حالك الَّذي كنت به، لا تُعصَى في أمرك، ولا يخالف رأيك، ولا يقطع أمرٌ دونك، فأنت سيِّدٌ من سادات المسلمين، لا ينكر فضلُك، ولا يستغنى عن رأيك، تمَّم الله ما بنا وبك من نعمة الإِحسان، ورحمنا وإِيَّاك من عذاب النَّار، والسَّلام عليك ورحمة الله.
وكان مع حامل الرِّسالة خطابٌ من خالد موجهاً إِلى المسلمين بالشَّام جاء فيه:
أما بعد: فإِنِّي أسأل الله الَّذي أعزَّنا بالإِسلام، وشرَّفنا بدينه، وأكرمنا بنبيِّه محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وفضَّلنا بالإِيمان رحمةً من ربِّنا لنا واسعةً، ونعمةً منه علينا سابغةً أن يتمَّ ما بنا وبكم من نعمته، واحمدوا الله عباد الله يزدكم، وارغبوا إِليه في تمام العافية يُدمْها لكم، وكونوا له على نعمه من الشاكرين.
وإِنَّ كتاب خليفة رسول الله أتاني يأمرني بالمسير إِليكم، وقد شمَّرت، وانكمشت، وكأنَّ خيلي قد أطلَّت عليكم في رجالٍ، فأبشروا بإِنجاز موعود الله، وحسن ثوابه! عصمنا الله، وإِيَّاكم بالإِيمان، وثبَّتنا وإِيَّاكم على الإِسلام، ورزقنا وإِيَّاكم حسن ثواب المجاهدين! والسَّلام عليكم.
فلمَّا قدِم حامل الرِّسالتين عمرو بن الطُّفيل بن عمرو الأزديُّ على المسلمين، وقرأ عليهم خطاب خالد بن الوليد، وهم بالجابية، دفع إِلى أبي عبيدة كتابه، فلمَّا قرأه قال: بارك الله لخليفة رسول الله فيما رأى، وحيَّا الله خالداً بالسَّلام.
إِنَّ هذا التَّعامل الرفيع بين هذين العظيمين يكشف لنا عن معاني الأخوَّة المنبثقة عن التَّوحيد الصَّحيح، والمحفوفة بسياج الأخلاق الحميدة، الَّتي كان يتَّصف بها صحابة رسول الله، فإِنَّ خالداً لم تتغيَّر نفسه، أو يشعر بعلوٍّ على إِخوانه بسبب فتوحاته في العراق، وثقة الخليفة به، بل يعترف بالفضل لأهله ويعلن طاعته لأبي عبيدة بن الجراح الَّذي ولِّيَ الأمر من بعده، وفي مقابل ذلك نجد أبا عبيدة بن الجراح الذي يبارك هذا الأمر، ويُحَيِّي خالداً. وهذا يدلُّ على تجرُّد خالدٍ، وأبي عبيدة من حظوظ النَّفس، وإِيثارهم لمصلحة الأمَّة، وإِرادتهم وجه الله في أعمالهم، وفي هذا درسٌ عظيمٌ لأبناء الأمَّة على مستوى الحكومات، والحركات، والشُّيوخ، والدُّعاة، والقادة، والزُّعماء في التَّعامل فيما بينهم عند التَّعيين، أو العزل، أو الفصل .
1ـ معركة أجنادين:
وصل خالدٌ إِلى الشَّام وفتح بصرى، واجتمع بقادة المسلمين أبي عبيدة، وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان، ودرس الموقف العسكري، واطَّلع على أدقِّ تفاصيله، كما اطَّلع على موقف عمرو بن العاص الذي كان ينسحب بمحاذاة ضفَّة نهر الأردن لكي يلتقي بجيوش المسلمين الأخرى، ومحذرا الاشتباك بالجيش الرُّومي الذي كان يتعقَّبه، وقد حاول قائد هذا الجيش أن يجرَّ جيش عمرو للاشتباك معه في معركةٍ فاصلةٍ، إِلا أنَّ عَمْراً كان على تمام اليقظة والحذر، وعلى علمٍ تامٍّ بأنَّه ليس من مصلحته الاشتباك في مثل هذه المعركة، لأنَّ جيشه لم يكن يتجاوز السَّبعة الاف، بينما كان جيش الرُّوم يقارب السَّبعين ألفاً، وبعد أن درس خالد الموقف العسكريَّ رأى أنَّ أمامه خيارين، فإِمَّا أن يسرع وينضم إِلى جيش عمرٍو، ويخوض وإِيَّاه معركةً فاصلةً، فيقضي على قوَّة الروم الكبيرة فيتعزَّز الموقف العسكري للجيش الإِسلامي ويصون خط رجعته، ويحمي جناحه الأيسر، ويثبت أقدام المسلمين في فلسطين، وإِمَّا أن يقف مكانه، ويوعز إِلى عمرو بالانضمام إِليه، ثمَّ ينتظر قوات الرُّوم الَّتي كانت تزحف نحوه من دمشق؛ ليخوض معها معركةً فاصلةً.
وقد فضَّل خالدٌ أن يأخذ بالخيار الأول؛ لأن التغلُّب على جيش الرُّوم في فلسطين وتشتيته يحفظ للمسلمين خطَّ رجعتهم، ويعزِّز مركزهم، ويجعلهم في موقفٍ يستطيعون معه تهديد الجيش الرُّومي، ويجعلونه يتوقَّع حصول حركة التفافٍ من خلفه، فيضطرُّ للأخذ بتدابير خاصَّة للحماية تشغل جانباً من قوَّاته فيصبح بذلك مدافعاً بعد أن كان مهاجماً، فانحدر من اليرموك إِلى سهل فلسطين بعدما أصدر أمره إِلى عمرو بأن ينسحب مستدرجاً جيش الرُّوم حتَّى يصل جيش خالد فيطبقان عليه، فارتدَّ عمرو إلى أجنادين.
وعندما وصلت قوات خالد أصبح جيش المسلمين بحدود ثلاثين ألف مقاتل، وكان وصول خالد في الوقت المناسب، فما أن اصطدمت قوات عمرو بالرُّوم حتَّى انقض خالدٌ بقواته الرَّئيسة، وجرت معركةٌ عنيفةٌ، وكان لمهارة القائدين خالد، وعمرو العسكريَّة دورٌ كبيرٌ في تحقيق النَّصر الحاسم، حيث تمَّ توجيه قوَّةٍ اقتحاميه اخترقت صفوف العدو حتَّى وصلت إِلى قائد الروم، فقتلوه، وبمقتل القائد انهارت مقاومة الرُّوم، وهربوا في اتِّجاهاتٍ مختلفةٍ.
وقد كانت أجنادين أولى المعارك الكبيرة في بلاد الشام بين المسلمين والرُّوم، فلمَّا انتهى خبر الهزيمة إِلى قيصر الرُّوم هرقل وهو في حمص؛ شعر بمدى الكارثة.
وكتب خالد بن الوليد إِلى أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ بفتح الله عزَّ وجل عليه، وعلى المسلمين: لعبد الله أبي بكرٍ خليفة رسول الله من خالد بن الوليد سيف الله المصوَّب على المشركين، أمَّا بعد: سلامٌ عليكم، فإِنِّي أحمد إِليك الله الَّذي لا إِله إِلا هو، أما بعد: فإِنِّي أخبرك أيُّها الصِّدِّيق أنَّا التقينا نحن والمشركون، وقد جمعوا لنا جموعاً جمَّةً كثيرة بأجنادين، وقد رفعوا صُلُبهم، ونشروا كتبهم، وتقاسموا بالله لا يفرُّون حتَّى يُصيبونا، أو يخرجونا من بلادهم، فخرجنا إِليهم واثقين بالله، متوكِّلين على الله، فطاعنَّاهم بالرِّماح، ثمَّ صرنا إِلى السُّيوف، فقارعناهم في كلِّ فجٍّ، وشعبٍ، وغائطٍ، فأحمد الله على إِعزاز دينه، وإِذلال عدوِّه، وحسن الصُّنع لأوليائه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته . فلمَّا وصل الكتاب إِلى أبي بكرٍ ـ رحمة الله عليه ـ فرح به، وأعجبه. وقال: الحمد لله الَّذي نصر المسلمين، وأقرَّ عيني بذلك!
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي