دولة الصديق ...بين معالم السياسية الخاريجة وأساليب التخطيط الحربي
دروسٌ مستفادةٌ وعبرٌ تركها السلف للخلف
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة السابعة والأربعون
أولاً: من معالم السِّياسة الخارجيَّة في دولة الصِّدِّيق:
رسمت خلافة الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ أهدافاً في السِّياسة الخارجيَّة للدَّولة الإِسلاميَّة، والتي كان من أهمها:
1ـ بذر هيبة الدَّولة في نفوس الأمم الأخرى:
فقد حقَّقت سياسة الصِّدِّيق هذا الهدف بطرقٍ عديدةٍ، منها:
(أ) وصول أخبار الانتصارات الَّتي أيَّد الله بها الأمَّة المسلمة في حروب الردَّة، ممَّا ساعد على وأد هذه الفتنة، وتثبيت أركان الدَّولة، ومثل هذه الأخبار تصل إِلى الدُّول المجاورة، وبخاصةٍ إِذا كانت تُتابع أنباء الدَّولة الإِسلاميَّة، وترقب حركتها، وترى فيها خطراً جديداً يهدِّدها، وللفرس، والرُّوم في ذلك الوقت قدرةٌ على معرفة الحوادث والأمور، فلمَّا وصلت أنباء المرتدِّين، وثبات النَّاس على الدِّين أدركت الدَّولتان: أنَّ بنيان هذه الأمَّة الجديدة يستعصي على المؤامرات، ويتجاوز المحن والابتلاءات، وهذا له وَقْعُهُ في نشر هيبة دولة الإِسلام .
(ب) جيش أسامة: ظهر لجيش أسامة الَّذي أنفذه الصِّدِّيق أثرٌ بالغٌ في نشر هيبة الدَّولة الإِسلاميَّة، وقد جعل الرُّوم يتساءلون عن الجيش الَّذي حاربهم، وعاد منتصراً إِلى عاصمة دولته، فامتلأت قلوبهم فزعاً، حتَّى حشد هرقل عشرات الألوف من جيشه على الحدود، فقد نُقِلت تلك الأخبار إِلى بلاد كسرى، وتناقلها النَّاس ممَّا كان له الأثر في نشر هيبة المسلمين في قلوب هذه الدُّول.
2ـ مواصلة الجهاد الَّذي أمر به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:
قام الصِّدِّيق بمواصلة الجهاد لتأمين الدَّعوة، ووصولها للنَّاس، فجهَّز الجيوش، وندب النَّاس للخروج إِلى الجهاد في سبيل الله، لنشر دعوة الحقِّ، وإِزاحة الطَّواغيت الَّذين رفضوا دعوة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لهم بالإِسلام، وصمَّموا على حجب نور الحقِّ عن شعوبهم، وقد خرج النَّاس يلبُّون هذه الدَّعوة الحبيبة إِلى النُّفوس تحت لواء قادة أصحاب بلاءٍ، وجهادٍ في سبيل الله، أمثال خالدٍ، وأبي عبيدة، وعمرٍو، وشرحبيل، ويزيد ـ رضي الله عنهم ـ اختارهم خليفةٌ محنَّكٌ، مجرِّبٌ، ذو ملكة عسكريَّة عجيبة، صقلتها الظُّروف الَّتي أحاطت به، والأزمات الخطيرة الَّتي أحدقت بأمَّته، ممَّا دفعه إِلى العناية بهذه النَّاحية، فاختار القوَّاد أحسن اختيار، وأمدَّهم بتوجيهاته، وإِرشاداته، ففتحوا الشَّام، والعراق في أقصر وقتٍ ممكنٍ وبأقلِّ كلفةٍ متاحةٍ .
3ـ العدل بين الأمم المفتوحة والرِّفق بأهلها:
كانت السياسة الخارجيَّة للصِّدِّيق قائمةً على بسط لواء العدل على الدِّيار المفتوحة، ونشر الأمن، والطُّمأنينة بين أهلها، حتَّى يحسَّ النَّاس بالفرق بين دولة الحقِّ، ودولة الباطل، وحتَّى لا يظنَّ النَّاس: أنَّه قد ذهب جبارٌ ظالمٌ ليحلَّ مكانه من هو أشدُّ منه، أو مثله في ظلمه، وجبروته، ووصَّى أبو بكر قوَّاده بالرَّحمة، والعدل، والإِحسان إِلى النَّاس، فإِنَّ المغلوب يحتاج إِلى الرأفة، وتجنُّب ما يثير فيه حميَّة القتال، وحافظ المسلمون الفاتحون على الإِنسان، والعمران، فشاهدت الشُّعوب المفتوحة خُلُقاً جديداً في ذوقٍ رفيعٍ، وإِنسانيَّةٍ صادقةٍ، فقام ميزان الشَّريعة بين الأمم المغلوبة بالقسط، وانتشر نور الإِسلام، فأخذ بعدله مجامع القلوب فسارعت الشُّعوب إِلى اعتناق هذا الدِّين، والانضواء تحت لوائه، وكان جند الأعاجم من الفرس، أو الرُّوم إِذا وطئوا أرضاً؛ دنَّسوها، ونشروا فيها الرُّعب، والفزع، وانتهكوا الحرمات، ممَّا قاسى منه النَّاس الويل، والثُّبور، وتناقلت الأجيال قصصه المرعبة والمفزعة جيلاً بعد جيلٍ، وقبيلاً إِثر قبيل، فلمَّا جاء الإِسلام، ودخل جنده هذه الدِّيار، فإِذا بالنَّاس يجدون العدل يبسط رداءه فوق رؤوسهم، ويعيد إِليهم ادميَّتهم الَّتي انتزعها الظُّلم والطُّغيان، وقد حرص الصِّدِّيق على هذه السِّياسة حرصاً عظيماً، وكان يقوِّم أيَّ عوجٍ يظهر، أو خطأ يقع.
روى البيهقيُّ: أنَّ الأعاجم كانوا إِذا انتصروا على عدوٍّ استباحوا كلَّ شيءٍ من ملكٍ، أو أميرٍ، وكانوا يحملون رؤوس البشر إِلى ملوكهم كبشائر للنَّصر، وإِعلانٍ للفخر، فرأى أمراء المسلمين في حروب الرُّوم أن يعاملوهم بنفس معاملتهم، فبعث عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة برأس(بنان) أحد بطارقة الشَّام إِلى أبي بكرٍ مع عُقبة بن عامر، فلما قدم عليه؛ أنكر ذلك، فقال له عقبة: يا خليفة رسول الله! إِنهم يصنعون ذلك بنا، فقال: أفَـنَسْتَنُّ بفارس، والرُّوم؟ لا يُحمل إِليَّ رأسٌ إِنَّما يكفي الكتاب، والخبر.
4ـ رفع الإِكراه عن الأمم المفتوحة:
من معالم السِّياسة الخارجيَّة عند الصِّدِّيق رضي الله عنه رفع الإِكراه عن الأمم المفتوحة، فلم يُكْرَهْ أحدٌ من الأمم أو الشُّعوب على دينه بالقوَّة، وهو في هذا ينطلق من قول الله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ *} [يونس: 99]. والمسلمون أرادوا من الفتوحات إِزالة الطُّغاة، وفتح الأبواب أمام الشُّعوب؛ لترى نور الإِسلام، أما وقد أزيل كابوس الظُّلم عن النَّاس؛ فليتركوا أحراراً، ولا يكرهوا على شيءٍ طالما حافظوا على عهدهم مع المسلمين، والَّذي كان يشمل في بنوده:
(أ) أن يؤدُّوا الجزية عن يدٍ، وهم صاغرون.
(ب) ألا يكون لهم مكانٌ في بعض الوظائف كالجيش.
(ج) ألا يُكَوِّنوا جهةً معاديةً للإِسلام في شعائره، أو عباداته، أو شريعته.
(د) إِذا غيَّر أحدهم دينه السَّابق؛ فلا يُقبل منه إِلا الإِسلام.
وتقوم دولة الإِسلام بتفسير الإِسلام لهم عمليّاً، ونظريّاً، بحيث يؤدِّي ذلك إِلى اقتناعهم بهذا الدِّين؛ ليدخلوا فيه عن رغبةٍ، فإِنَّ العقائد لا تستقرُّ بالإِكراه.
ثانياً: من معالم التَّخطيط الحربيِّ عند الصِّدِّيق:
إِنَّ المطالع للفتوحات في عهد الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ يمكن له أن يستنتج خطوطاً رئيسةً للخطَّة الحربيَّة الَّتي سار عليها، وكيف تعامل هذا الخليفة العظيم مع سنَّة الأخذ بالأسباب؟ وكيف كانت هذه الخطَّة المحكمة عملاً من عوامل نزول النَّصر، والتَّمكين من الله عزَّ وجلَّ للمسلمين، ومن هذه الخطوط ما يلي:
1ـ عدم الإِيغال في بلاد العدوِّ حتى تدين للمسلمين:
كان الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ حريصاً أشدَّ الحرص على عدم الإِيغال في بلاد العدوِّ حتَّى تدين للمسلمين، وقد كان ذلك واضحاً تمام الوضوح في جبهات العراق، والشَّام، ففي فتوح العراق أرسل الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ إِلى خالدٍ، وعياضٍ بتكليفهما بغزو العراق من جنوبه، وشماله، وجاء في الكتاب: وأيُّكما سبق إِلى الحيرة؛ فهو أمير على الحيرة، فإِذا اجتمعتما بالحيرة ـ إِن شاء الله ـ وقد فَضَضتُما مسالح ما بين العرب، وفارس، وأمنتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم؛ فليُقم بالحيرة أحدكما، وليقتحم الآخر على القوم، وجالدوهم عمَّا في أيديهم، واستعينوا بالله، واتَّقوه، واثروا أمر الآخرة على الدُّنيا؛ يجتمعا لكم، ولا تؤثروا الدُّنيا، فتسلبوهما، واحذروا ما حذَّركم الله بترك المعاصي، ومعاجلة التَّوبة، وإِيَّاكم والإِصرار، وتأخير التَّوبة.
وهذا الكتاب الجليل يدلُّ على فكر أبي بكرٍ العالي وتخطيطه الدقيق وقبل ذلك توفيق الله له، فقد جاء تخطيطه الحربي موافقاً تماماً لما اقتضته مصلحة الجيوش الإِسلاميَّة أثناء تطبيق هذه الخطَّة الحكيمة، وقد شهد ببراعة أبي بكرٍ في التَّخطيط الحربيِّ أخبر الناس بالحروب آنذاك، وهو خالد بن الوليد، فإِنَّه لما نهض للقيام بمهمَّة عياضٍ في فتح شمال العراق، ونزل بكربلاء، واشتكى إِليه المسلمون ما وقعوا فيه من التأذِّي بذُبابها الكثيف، قال لعبد الله بن وتيمة: اصبر فإِنِّي إِنَّما أريد أن أستفرغ المسالح الَّتي أُمِرَ بها عياض، فنُسْكِنها العرب، فتأمن جنود المسلمين أن يؤتوا من خلفهم، وتجيئنا العرب امنةً غير متعتعه، وبذلك أمرنا الخليفة، ورأيه يعدل نجدة الأمَّة، وقد سار على هذه الخطَّة بالعراق المثنَّى بن حارثة، حيث يقول ذلك القائد الفذُّ: قاتلوا الفرس على حدود أرضهم على أدنى حجرٍ من أرض العرب، ولا تقاتلوهم بعقر دارهم، فإِن يظهر الله المسلمين؛ فلهم ما وراءهم، وإِن كان الأخرى؛ رجعوا إِلى فئةٍ، ثمَّ يكونون أعلم بسبيلهم، وأجرأ على أرضهم، إِلى أن يردَّ الله الكرَّة عليهم، وأمَّا في فتوحات الشَّام فقد كانت الصَّحراء من خلف المسلمين حمايةً لهم، ومع هذا كان المسلمون يتأكَّدون أوَّلاً من أنَّ عدوَّهم قد انقطع أمله في مفاجأتهم من خلف ظهورهم، وأن يستولوا على ما يقع بيمينهم، وشمالهم من المدن والبلاد، وسدِّ كلِّ ثغرٍ بالمقاتلة، وقد كانت تلك القاعدة مرعيةً عندهم، يحرصون عليها أشدَّ الحرص.
2ـ التَّعبئة وحشد القوَّات:
عندما تولَّى الصِّدِّيق الخلافة وضع من خطوط الإِعداد الحربيِّ: التَّعبئة، وحشد القوَّات، وقد نادى المسلمين لحروب الردَّة، ثمَّ استنفارهم بعدها للفتوحات، وأرسل إِلى أهل اليمن كتابه المعروف في ذلك.
3ـ تنظيم عمليَّة الإِمداد للجيوش:
حينما تطوَّرت معارك الجبهة الشَّرقيَّة ووجد قائدا الجبهة ـ خالدٌ، والمثنَّى ـ أنَّهما في حاجة إِلى مددٍ بشريٍّ؛ لأنَّ الطَّاقة التي معهما لا تستطيع تلبية المعركة في متطلباتها وواجباتها، فكتبا إِلى الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ يلتمسان المدد فقال لهما: استنفرا مَنْ قاتل أهل الردَّة، ومن بقي على الإِسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يغزونَّ أحدٌ ارتدَّ حتَّى أرى رأيي. وشرع في إِمداد جبهات العراق والشَّام حتَّى اللحظات الأخيرة من حياته.
4ـ تحديد الهدف من الحرب:
وُضِعت هذه النقطة في خطَّة الحرب الإِسلاميَّة في الفتوحات؛ لتكون هدف العمليات الَّذي يسعى إِليه الجميع، وقد وضع الصِّدِّيق خطَّته في هذه القضيَّة على أساس أن يعلم كلُّ فردٍ مقاتلٍ: أنَّ هدف المسلمين من هذه الفتوحات: نشر الإِسلام، وتبليغه إِلى الشعوب، بإِزالة الطَّواغيت الَّذين يحرمون شعوبهم من هذا الخير العميم، فقد كان القادة يعرضون على عدوِّهم قبل المعركة واحدةً من ثلاث: الإِسلام، أو الجزية، أو الحرب.
5ـ إِعطاء الأفضليَّة لمسارح العمليَّات:
قاد الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ بنفسه أولى العمليات الحربيَّة ضدَّ المرتدِّين، ونظَّم الجيوش لحربهم، ولم يهمل بقيَّة المسارح، فوجَّه أسامة إِلى الشَّام، والمثنَّى إِلى العراق، وكرَّس جهود المسلمين في السَّنة الأولى للقضاء على الردَّة، وعندما تمَّت عملية إِعادة توحيد الجزيرة، وأصبح بالإِمكان الانطلاق من قاعدةٍ قويَّةٍ، ومأمونةٍ؛ وجَّه ثقل العمليات إِلى الجبهتين العراقيَّة والشَّاميَّة، وعندما احتاجت الجبهة الشَّاميَّة إِلى المدد نقل الصِّدِّيق محور ثقل الهجوم إِلى الشَّام، ووجَّه خالداً إِليه، وترك المثنَّى في الجبهة العراقية .
6ـ عزل ميدان المعركة:
عندما بدأ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ باستنفار القوَّات لحرب الرُّوم والفرس؛ أرسل خالد بن سعيد إِلى تبوك بمهمَّةٍ إِلى مناطق الحشد، ومحاور التقدُّم، وأمره أن يكون ردءاً للمسلمين، وعندما فشل في هذا الواجب، وتجاوزه؛ قام عكرمة بن أبي جهل به .
7ـ التطوُّر في أساليب القتال:
كتب الصِّدِّيق إِلى أبي عبيدة عندما بلغه تقدُّم جيوش الرُّوم، وانضمام أهل دمشق إِليهم ما يلي: بثَّ خيولك في القرى، والسَّواد، وضيِّق عليهم الميرة، والمادَّة، ولا تحاصرن المدائن حتَّى يأتيك أمري، وعندما دعمه بقواتٍ كافيةٍ؛ كتب له: فإِن ناهضوك، فانهد لهم، واستعن بالله عليهم، فإِنَّه ليس يأتيهم مددٌ إِلا أمددناك بمثلهم.
8ـ سلامة خطوط الاتِّصال مع القادة:
كانت خطوط الاتِّصال بين الصِّدِّيق وقادة المعارك منظمةً، ومنتظمة بحيث تصل المكاتبات من القادة في أمانٍ، وتصل ردود الخليفة في سرِّيَّة تامَّةٍ، وسرعة متقدِّمةٍ، لا تسمح للعدوِّ أن يفاجأ المسلمين بشيءٍ لا يتوقَّعونه، وهكذا كانت الخطط الحربيَّة عند المسلمين محكمةً، ودقيقةً، ممَّا كان عاملاً من عوامل دحر الأعداء، والتغلُّب عليهم بفضل الله في حركة الفتوح.
9ـ ذكاء الخليفة، وفطنته:
امتازت الخطط الحربيَّة الإِسلاميَّة في بداية الفتوحات بوجود العقل المدبِّر ذي الفطنة، والذَّكاء، والكياسة، والفراسة، وهو الصِّدِّيق، وقد ساعد أبو بكر على فهمه الواسع للتخطيط العسكري طول ملازمته للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقد تربَّى على تعليمه، وتوجيهاته، فكسب علوماً شتَّى، وخبراتٍ متنوِّعة، فقام بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام الخلافة خير قيام، فحمل البصيرة الواعية، وزوَّد الجيش بالنَّصائح الغالية، وأرسل الإِمدادات في أوقاتها تسعف المجاهدين، وتمدُّهم بالهمَّة، والعزيمة الماضية.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي