حقوق الله، والقادة، من خلال وصايا الصِّدِّيق... حكمٌ سياسية و إدارية مفيدة
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الثامنة والأربعون
1ـ حقوق الله:
بيَّن الخليفة في توجيهاته للقادة والجنود حقوق الله تعالى، كمصابرة العدو، وإِخلاص قتالهم لله، وأداء الأمانة، وعدم الممالأة، والمحاباة في نصرة دين الله.
(أ) مصابرة العدوِّ:
حين وجَّه أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ عكرمة بن أبي جهلٍ ـ رضي الله عنه ـ إِلى عُمَان؛ كان ممَّا أوصاه به قوله: واتَّق الله، فإِذا لقيت العدوَّ؛ فاصبر، كما قال الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ لهاشم بن عتبة بن أبي وقَّاص عندما وجَّهه مدداً لجند الشَّام: إِذا لقيت عدوَّك؛ فاصبر، وصابر، واعلم: أنَّك لا تخطو خطوةً، ولا تنفق نفقة، ولا يصيبك ظمأٌ، ولا مخمصةٌ في سبيل الله إِلا كتب الله لك به عملاً صالحاً {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ *} [التوبة: 120] .
(ب) أن يقصدوا بقتالهم نصرة دين الله:
فقد جاء في خطاب الصِّدِّيق لخالدٍ حين أمره بالذَّهاب للشَّام ما يفيد هذا المعنى، حيث ذكَّره بأن يجتهد، ويخلص النِّيَّة لله وحده، وحذَّره من العجب بالنَّفس، والزُّهوِّ، والفخر، فذلك حظُّ النَّفس الذي يفسد العمل على العامل، ويردُّه في وجهه، كما حذَّره أن يُدِلَّ، ويمنَّ على الله بالعمل الَّذي يعمله، فإِنَّ الله هو المانُّ به؛ إِذ التَّوفيق بيده سبحانه. وهذا بعض ما جاء في تلك الرِّسالة: ... فليهنئك أبا سليمان النِّيَّة، والحظوة، فأتمم يتمَّ الله لك، ولا يَدخلنَّك عجبٌ، فتخسر، وتخذل، وإِيَّاك أن تُدِلَّ بعملٍ، فإِنَّ الله له المنُّ وهو ولي الجزاء.
(جـ) أداء الأمانة:
وقد كانت توجيهات الصِّديق لأمرائه وجنوده واضحةً في وجوب أن يؤدُّوا الأمانة فيما حاذوه من الغنائم، ولا يغلَّ أحدٌ منهم شيئاً، بل يُحمل جميعه إِلى المغنم؛ ليقسم بين جميع الغانمين ممَّن شهدوا الواقعة، وكانوا على العدوِّ يداً واحدةً، وعلى سبيل المثال ما جاء في وصية الصِّدِّيق ليزيد بن أبي سفيان في النَّهي عن الغلول. هذه بعض توجيهات الصِّدِّيق ممَّا يتعلَّق ببعض حقوق الله على القادة والجنود.
2ـ حقوق القائد:
وقد بيَّن الخليفة الصِّدِّيق حقوق القادة على الجنود والرَّعية، كالتزام طاعته، والمسارعة إِلى امتثال أمره، وعدم منازعته في شيءٍ من قسمة الغنائم وغير ذلك.
(أ) التزام طاعته:
فعندما تولَّى أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ بعد أن تولَّى الخلافة كان أوَّل شيءٍ نبَّه المسلمين إِليه في خطاب التَّولية: أنَّه سائرٌ على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذكَّر بالطَّاعة حيث قال: واعلموا: أنَّ ما أخلفتم لله من أعمالكم؛ فطاعةٌ أتيتموها. وألزم قادته بالطَّاعة لبعضهم، فمن ذلك ما كتبه إِلى المثنَّى بن حارثة الشَّيباني بقوله: إِنِّي قد بعثت إِليك خالد بن الوليد إِلى أرض العراق، فاستقبله بمن معك من قومك، ثمَّ ساعده، ووازرة، وكاتفه، ولا تعصينَّ له أمراً، ولا تخالفوا له رأياً، فإِنَّه من الَّذين وصف الله تبارك وتعالى في كتابه فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: 29] كذلك أخذ أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ يوصي في خلافته جيوش المسلمين المتَّجهة لفتح بلاد الشَّام بالطَّاعة، فقال لهم: أيُّها الناس! إِنَّ الله قد أنعم عليكم بالإِسلام وأكرمكم بالجهاد، وفضَّلكم بهذا الدِّين عن كلِّ دينٍ، فتجهَّزوا عباد الله إِلى غزو الرُّوم بالشَّام، فإِنِّي مؤمِّرٌ عليكم أمراء، وعاقدٌ لكم ألويةً، فأطيعوا ربَّكم، ولا تخالفوا أمراءكم، لتحسن نيَّتكم، وأشربتكم، وأطعمتكم، فـ{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ *} [النحل: 128] . فكان جوابهم له بقولهم: أنت أميرنا، ونحن رعيَّتُك، فمنك الأمر، ومنَّا الطَّاعة، فنحن مطيعون لأمرك، وحيثما تُوَجِّهنا نتوجَّه.
وعندما عيَّن الصديق خالد بن الوليد لفطنته وعلمه بالحرب، ولمَّا وصل خالد ابن الوليد للشَّام طلب من أبي عبيدة بن الجراح بأن يبعث إِلى أهل كلِّ رايةٍ، ويأمرهم أن يطيعوه، فدعا أبو عبيدة الضَّحَّاك بن قيسٍ، فأمره بذلك، فخرج الضَّحَّاك يسير في النَّاس طالباً منهم طاعة القائد الجديد لجيوش الشَّام خالد بن الوليد فيما يأمرهم به، فأجاب النَّاس بالسَّمع والطَّاعة.
(ب) أن يفوضوا أمرهم إِلى رأيه:
قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً *} [النساء: 83]. جعل الله تفويض الرَّعية الأمر إِلى وليِّ الأمر سبباً لحصول العلم، وسداد الرأي، فإِنْ ظهر لهم صوابٌ خفي عليه؛ بيَّنوه له، وأشاروا به عليه، ولذلك ندب إِلى المشاورة؛ ليرجع بها إِلى الصَّواب، وفي خلافة الصِّدِّيق نرى أبا بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ كلَّف أمراءهُ، وقادة جيوشه بالتوجُّه إِلى الشَّام، وفوَّض لهم أمر الجيوش، حيث قال لهم: يا أبا عبيدة! وياء معاذ! وياء شرحبيل! أنتم من حماة هذا الدِّين وقد فوَّضت إِليكم أمر هذه الجيوش، فاجتهدوا في الأمر، واثبتوا، وكونوا يداً واحدةً في مواجهة عدوِّكم. ثمَّ أمر القادة بمراعاة أحوال الجنود، وتقديم الإِخلاص والاتِّحاد حتَّى لا تختلف آراؤهم، وأضاف الصِّدِّيق قائلاً: فإِذا قدِمتم البلد، ولقيتم العدوَّ، واجتمعتم على قتالهم؛ فأميركم أبو عبيدة بن الجرَّاح، وإِن لم يلقكم أبو عبيدة، وجمعتكم حربٌ؛ فأميركم يزيد ابن أبي سفيان.
وهكذا فوَّض خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إدارة العسكر إِلى رأي أحد قادته، ووكَّله إِلى تدبيره، حتَّى لا تختلف آراؤهم، وأكَّد على ذلك عندما قال لعمرو بن العاص: أنت أحد أمرائنا هناك، فإِن جمعتك حربٌ؛ فأميركم أبو عبيدة بن الجرَّاح.
وكان ذلك رأيه أيضاً مع قادة العراق، حيث قال للمثنَّى بن حارثة: إِنِّي بعثت إِليك خالد بن الوليد إِلى أرض العراق ... فما أقام معك؛ فهو الأمير، فإِن شخص عنك؛ فأنت على ما كنت عليه، والسَّلام عليك.
(ج) المسارعة إِلى امتثال أمره:
ففي حروب الرِّدة كتب أبو بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ إِلى خالد بن الوليد في أمر مسيلمة الكذاب، فقد أمره بالمسير إِليه، فجمع خالد بن الوليد أصحابه، وقرأ عليهم الكتاب، وسألهم الرَّأي، فأجابوه بقولهم: الرأي رأيك، وليس فينا أحدٌ يخالف أوامرك، كما كتب الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ لخالد بن الوليد أثناء مقامه بالعراق بالخروج في شطر النَّاس إِلى الشَّام، وأن يخلِّف على الشَّطر الباقي المثنَّى ابن حارثة، وقال له: لا تأخذ نجداً إِلا خلفت له نجداً . فامتثل خالد للأمر، وقسم الجند نصفين، وكتب إِلى عمرو بن العاص بالسَّير من بلاد قضاعة إِلى يرموك، ففعل، وبعث بأبي عبيدة ويزيد وأمرهما بالإِغارة، وألا يوغلوا في بلاد الشام حتَّى لا يكون وراءهم أحدٌ من العدوِّ، وقد استجاب القادة، والجنود لتوجيهاته، وأوامر الصِّدِّيق رضي الله عنه.
(د) عدم منازعته في شيءٍ من قسمة الغنائم:
سار أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ في خلافته على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم في تقسيم الغنائم، فبعد انتهاء خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ من معركة اليمامة كتب إِلى الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ يخبره بما فتح الله عليه، وما أغنمه منهم، فكتب إِليه أبو بكر قائلاً: اجمع الغنائم والسَّبي وما أفاء الله عليك من مال بني حنيفة، فأخرجْ من ذلك الخمس، ووجِّه به إِلينا؛ ليقسم فيمن بحضرتنا من المسلمين، وادفع إِلى كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، والسَّلام. وهذا ما كان يفعله جميع قادة أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ في إِدارتهم العسكريَّة في قسمة الغنائم، ولم ينازعهم الجند في شيء من قسمتها والتَّسوية بينهم فيها.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي