الأحد

1446-06-21

|

2024-12-22

فتوحات الشام زمن الصِّدِّيق؛ معركة اليرموك...التفاصيل والتداعيات

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة السادسة والأربعون

 

عادت بواكير النَّصر من وقعة أجنادين بعد الانتصار الكبير؛ الَّذي حققه المسلمون في هذه الوقعة، وهزيمة الروم، واطمأن المسلمون إلى ما حقَّقوه من نصرٍ في أجنادين، واجتمعت جيوش المسلمين في اليرموك تنفيذاً لأمر الخليفة الصِّدِّيق، وتحركت جيوش الرُّوم بقيادة تيودور، ونزلت في منزلٍ واسع الطَّعن، واسع المطَّرد، ضيق المهرب، فسارت حشود الرُّوم حتَّى نزلوا الواقة قريباً من اليرموك.

ـ قوات الطَّرفين:

المسلمون أربعون ألف مقاتل، وقيل: خمسة وأربعون ألفاً بقيادة خالد بن الوليد.

الرُّوم: يقدر عدد الروم بمئتين وأربعين ألفاً بقيادة تيودور.

ـ قبل المعركة:

المسلمون: وصل المسلمون بقيادة خالد بن الوليد اليرموك، فعسكروا بها حتَّى اجتمعت الرُّوم مع أمرائها على الضِّفَّة الجنوبيَّة للنَّهر، وقال عمرو بن العاص:(أبشروا أيُّها النَّاس! فقد حُصِرَت والله الرُّوم! وقلَّما جاء محصور بخير).

وخرج خالد بن الوليد بأسلوبٍ جديد لم يستخدمه العرب من قبل ذلك، فاستخدم أسلوباً جديداً، وهو الفراديس، فخرج في ستةٍ وثلاثين كردوساً إِلى أربعين، ورتَّب جيشه التَّرتيب الآتي:

ـ فرقاً، وفيها من عشرة إِلى عشرين كردوساً ولها قائدٌ وأمير.

ـ كرادي: ألف مقاتل، وله قائدٌ، وأمير.

ـ وقسَّم جيشه إِلى أربعين كردوساً، كما يلي:

فرقة القلب: مؤلفةٌ من ثمانية عشر كردوساً بقيادة أبي عبيدة بن الجراح، ومعه عكرمة بن أبي جهل، والقعقاع بن عمرو.

فرقة الميمنة: مؤلفةٌ من عشرة كرادي بقيادة عمرو بن العاص، ومعه شرحبيل ابن حسنة.

فرقة الميسرة، مؤلفةٌ من عشرة كرادي بقيادة يزيد بن أبي سفيان.

فرقة الطليعة(المقدِّمة) من الخيالة، والمخافر الأماميَّة، ومهمتها المراقبة، والاستطلاع، والاحتفاظ على التَّماس مع العدوِّ، ولذلك تكون فرقةً صغيرة، وخفيفة.

فرقة المؤخِّرة: مؤلفةٌ من خمسة الاف مقاتل(خمسة كرادي) بقيادة سعيد ابن زيد، ومهمَّتها قيادة الظَّعن(الأمور الإِدارية) وكان القاضي(أبو الدَّرداء) وعلى القباض عبد الله بن مسعودٍ، مهمَّته تأمين الأمور الإِداريَّة، والإِعاشة، وجمع الغنائم، والقارئ المقداد بن الأسود، وكان يدور على النَّاس، ويقرأ سورة الأنفال، وآيات الجهاد لرفع المعنويات، وخطيب الجيش أبو سفيان بن حرب، وهو يطوف على الصُّفوف يحثُّ الجند على القتال، والقائد العام خالد ابن الوليد في الوسط وحوله كبار الصَّحابة، وأعد الجيش الإِسلامي بقيادة خالد بن الوليد في الوسط لكلِّ شيءٍ عدَّته، وأخذ كلُّ قائد من القوَّاد يمرُّ على جنده، ويحثُّهم على الجهاد، والصَّبر، والمصابرة، ورأى قادة المسلمين: أنَّ هذه المعركة هي معركةٌ يتوقَّف عليها نتائج كبرى، وأنَّها الحاسمة، وكان خالد يعلم: أنَّه: إِن ردَّ الروم إِلى خندقهم فسيظل يردُّهم، وإِن هزموه فلن يفلح بعدها . أي: أنَّ هزيمة الرُّوم في هذه المعركة تعني هزيمتهم في أرض الشَّام كلِّها، وتفتح أبواب الشَّام على مصراعيها للمسلمين دون حواجز، ولا عراقيل، والانطلاق منها إِلى مصر، فاسيا، وأوربة.

التعبئة الإِيمانيَّة:

ولما تراءى الجمعان، وتبارز الفريقان؛ وعظ أبو عبيدة المسلمين، فقال: عباد الله! انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، فإِنَّ وعد الله حقٌّ، يا معشر المسلمين! اصبروا فإِنَّ الصبر منجاةٌ من الكفر، ومرضاةٌ للرَّبِّ، ومدحضةٌ للعار، ولا تبرحوا مصافَّكم، ولا تخطوا إِليهم خطوةً، ولا تبدؤوهم بالقتال، وأشرعوا الرِّماح، واستتروا بالدُّرق، والزموا الصَّمت إِلا من ذكر الله في أنفسكم، حتَّى امركم إِن شاء الله تعالى.

وخرج معاذ بن جبل على النَّاس، فجعل يذكِّرهم، ويقول: يا أهل القران! ومستحفظي الكتاب، وأنصار الهُدَى، وأولياء الحقِّ إِنَّ رحمة الله لا تنال، وجنَّته لا تُدخل بالأماني، ولا يؤتي الله المغفرة، والرَّحمة الواسعة إِلا الصادق المصدِّق، ألم تسمعوا لقول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ليستحلفنهم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55] فاستحيوا رحمكم الله من ربِّكم أن يراكم فُرَّاراً من عدوِّكم؛ وأنتم في قبضته، وليس لكم ملتحدٌ من دونه، ولا عزٌّ بغيره.

وقال عمرو بن العاص: يا أيها المسلمون! غضُّوا الأبصار، واجثوا على الرُّكب، وأشرعوا الرِّماح، فإِذا حملوا عليكم؛ فأمهلوهم حتَّى إِذا ركبوا الأسنَّة فثبوا إِليهم وثبة الأسد، فوالدي يرضى الصِّدق، ويثيب عليه، ويمقت الكذب، ويعاقب عليه، ويجزي بالإِحسان إِحساناً! لقد سمعت: أنَّ المسلمين سيفتحونها كَفْراً كَفْراً، وقَصْراً قَصْراً، فلا يهولنَّكم جموعهم، ولا عددهم، فإِنَّكم لو صدقتموهم الشَّدة تطايروا تطاير أولاد الحجل. وقال أبو سفيان: يا معشر المسلمين! إِنَّكم قد أصبحتم في دار العجم منقطعين عن الأهل، ناءين عن أمير المؤمنين، وأمداد المسلمين، وقد والله أصبحتم بإزاء عدوٍّ كثيرٍ عدده، شديدٍ عليكم حَنَقُه، وقد وترتموهم في أنفسهم، وأولادهم، ونسائهم، وأموالهم، وديارهم، والله لا ينجِّيكم من هؤلاء القوم، ولا يبلغ بكم رضوان الله غداً إِلا بصدق اللِّقاء والصَّبر في المواطن المكروهة، فامتنعوا بسيوفكم، وتعاونوا، ولتكن هي الحصون. ثم ذهب إِلى النِّساء فصواهن ثمَّ عاد، فنادى: يا معشر أهل الإِسلام! حضر ما ترون فهذا رسول الله والجنَّة أمامكم، والشَّيطان والنَّار خلفكم. ثمَّ سار إِلى موقفه رحمه الله .

وقد وعظ النَّاسَ أبو هريرة، فجعل يقول: سارعوا إِلى الحور العين، وجوار ربِّكم عزَّ وجلَّ في جنَّات النَّعيم، ما أنتم إِلى ربِّكم في موطنٍ بأحبَّ إِليه منكم في مثل هذا الموطن، ألا وإِنَّ للصَّابرين فضلهم. وجعل أبو سفيان يقف على كلِّ كردوسٍ، ويقول: الله، الله! إِنَّكم ذادة العرب، وأنصار الإِسلام، وإِنَّهم ذادة الرُّوم، وأنصار الشِّرك، اللَّهُمَّ إِنَّ هذا يومٌ من أيَّامك! اللَّهُمَّ أنزل نصرك على عبادك! قال رجل من نصارى العرب لخالد بن الوليد: ما أكثر الرُّوم وأقلَّ المسلمين!! فقال خالد: ويلك! أتخوِّفني بالرُّوم؟ إِنما تكثر الجنود بالنَّصر، وَتقلُّ بالخلان، لا بعدد الرِّجال، والله لوددت أنَّ الأشقر برأ من توجِّيه، وأنَّهم أضعفوا في العدد! وكان فرسه قد حفيَ، واشتكى في مجيئه من العراق.

وجعل معاذ بن جبل كلَّما سمع أصوات القسِّيسين، والرُّهبان يقول: اللَّهمَّ زلزل أقدامهم، وأرعب قلوبهم، وأنزل علينا السَّكينة، وألزمنا كلمة التَّقوى، وحبِّب إِلينا اللقاء، وأرضنا بالقضاء!

ـ الرُّوم:

أقبلت الرُّوم في خيلائها، وفخرها، وقد سدَّت أقطار تلك البقعة سهلَها، ووعرَها، كأنَّهم غمامة سوداء يصيحون بأصواتٍ مرتفعة، ورهبانهم يتلون الإِنجيل، ويحثُّونهم على القتال، ونزلت الرُّوم الواقة قريباً من اليرموك، وصار الوادي خندقاً عليهم، وتعبأ الرُّوم باستخدام أسلوب الفراديس في خطَّين، كلُّ خمسةٍ في دائرة يفصل بينهما وبين الخمسة الأخرى فاصلٌ، ثمَّ يأتي الخطَّ الثَّاني وراء فريات الخطِّ الأوَّل، واتَّبع الرُّوم في قتالهم التَّرتيب التَّالي:

ـ الرُّماة في المقدمة. واجبهم أن ينشبوا القتال، ثمَّ الانسحاب إلى الوراء والأجنحة.

ـ الخيالة بالجناحين. واجبهم حماية الرُّماة حتَّى انسحابهم إِلى الخلف.

ـ الفراديس(المشاة) واجبهم الاقتحام.

ـ قائد المقدِّمة: جرجة.

ـ قائد الجناحين: ماهان، والدارج.

المفاوضات قبل القتال:

ولمَّا تقارب النَّاس تقدَّم أبو عبيدة، ويزيد بن أبي سفيان نحو جيش الروم ومعهما ضرار بن الأزور، والحارث بن هشام، ونادوا إِنَّما نريد أميركم لنجتمع به، فأذن لهم في الدُّخول على تذارف، وإِذا هو جالسٌ في خيمةٍ من حرير. فقال الصَّحابة: لا نستحلُّ دخولها، فأمر لهم بفراشٍ بسط من حرير، فقالوا: ولا نجلس على هذه، فجلس معهم حيث أحبُّوا، وتفاوضوا على الصُّلح، ورجع عنهم الصَّحابة بعدما دعوهم إِلى الله عزَّ وجل، فلم يتمَّ ذلك.

وذكر الوليد بن مسلم: أنَّ باهان طلب خالداً ليبرز إِليه فيما بين الصَّفَّين، فيجتمعا في مصلحةٍ لهم. فقال باهان: إِنَّا قد علمنا أنَّ ما أخرجكم من بلادكم الجَهْدُ، والجوعُ، فلموا إِلى أن أعطي كلَّ رجلٍ منكم عشرة دنانير، وكسوةً، وطعاماً، وترجعون إِلى بلادكم فإِذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها. فقال خالد: إِنَّه لم يخرجنا من بلادنا ما ذكرت، غير أنَّا قومٌ نشرب الدِّماء، وأنَّه بلغنا أنَّه لا دم أطيب من دم الرُّوم، فجئنا لذلك. فقال أصحاب باهان: هذا والله ما كنا نحدَّث به عن العرب!

إِنشاب القتال:

لمَّا تكامل الاستعداد، ولم تنجح المفاوضات، تقدَّم خالد إِلى عكرمة بن أبي جهل، والقعقاع بن عمرو ـ وهما على مجنبتي القلب ـ أن ينشبا القتال، فبدرا يرتجزان، ودعوا إِلى البِراز، وتنازل الأبطال، وتجاولوا، وحميت الحرب، وقامت على ساقٍ.

هذا وخالد مع كردوس من الحماة الشُّجعان الأبطال بين يدي الصُّفوف والأبطال يتصاولون بين يديه، وهو ينظر، ويبعث إِلى كلِّ قومٍ من أصحابه بما يعتمدونه من الأفاعيل ويدبِّر أمر الحرب أتمَّ التَّدبير.

إِسلام أحد قادة الرُّوم في ميدان المعركة:

وخرج جَرجَة أحد الأمراء الكبار من الصَّفِّ، واستدعى خالد بن الوليد، فجاء إِليه حتَّى اختلفت أعناق فرسيهما فقال جرجة: يا خالد! أخبرني، فأصدقني، ولا تكذبني، فإِنَّ الحرَّ لا يكذب، ولا تخادعني فإِنَّ الكريم لا يخادع المسترسل بالله: هل أنزل الله على نبيِّكم سيفاً من السَّماء فأعطاه، فلا تسلَّه على أحد إِلا هزمتهم؟ قال: لا ! قال: فبم سميت سيف الله؟ قال: إِنَّ الله بعث فينا نبيَّه، فدعانا، فنفرنا منه، ونأينا عنه جميعاً، ثمَّ إِن بعضنا صدَّقه، وتابعه، وبعضنا كذَّبه، وباعده، فكنت فيمن كذَّبه، وباعده، ثمَّ إِنَّ الله أخذ بقلوبنا، ونواصينا، فهدانا به، فقال لي: « أنت سيف من سيوف الله، سلَّه على المشركين ». ودعا لي بالنَّصر، فسمِّيت سيف الله بذلك، فأنا أشدُّ المسلمين على المشركين، فقال جَرجَة: يا خالد! إِلامَ تدعون؟ قال: إِلى شهادة أن لا إِله إِلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، والإِقرار بما جاء به من عند الله عزَّ وجل. قال: فمن لم يجبكم؟ قال: فالجزية، ونمنعهم. قال: فإِن لم يعطها؟ قال: نؤذنه بالحرب، ثم نقاتله. قال: فما منزلة من يجيبكم، ويدخل في هذا الأمر اليوم؟ قال: منزلتنا واحدةٌ فيما افترض الله علينا شريفنا، ووضيعنا، وأولنا، واخرنا. قال جَرجَة: فلمَنْ دخل فيكم اليوم من الأجر مثل ما لكم من الأجر، والذُّخر؟ قال: نعم، وأفضل. قال: وكيف يساويكم، وقد سبقتموه؟ فقال خالد: إِنَّا قبلنا هذا الأمر عنوةً، وبايعنا نبيَّنا، وهو حيٌّ بين أظهرنا تأتيه أخبار السَّماء، ويخبرنا بالكتاب، ويرينا الآيات، وحُقَّ لمن رأى ما رأينا، وسمع ما سمعنا أن يسلم، ويبايع، وإِنَّكم أنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج، فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة، ونيَّةٍ كان أفضل منَّا. فقال جَرجَة: بالله لقد صدقتني ولم تخادعني؟ قال: تالله لقد صدقتك! وإن الله وليُّ ما سألت عنه. فعند ذلك

قلب جَرجَة الترس ومال مع خالد، وقال: علِّمني الإِسلام! فمال به خالد إِلى فسطاته فَسَنَّ عليه قربة من ماء ثمَّ صلَّى به ركعتين. وحملت الرُّوم مع انقلابه إِلى خالد، وهم يرون أنَّها منه حَمْلةٌ، فأزالوا المسلمين عن مواقفهم إِلا المحامية عليهم عكرمة بن أبي جهل، والحارث بن هشام.

ميسرة الروم تحمل على ميمنة المسلمين:

تقدَّمت صفوف الرُّوم، وأقبلت كقطع الليل للقيام بهجومٍ عامٍّ على الجيش الإِسلاميِّ، وحملت ميسرتهم على ميمنة المسلمين، فانكشف قلب الجيش الإِسلاميِّ من ناحية الميمنة، واستطاع الرُّوم إِحداث ثغرةٍ في صفوف المسلمين، والتسلُّل إِلى مؤخِّرتهم، فصاح معاذ بن جبل: يا عباد الله المسلمين! إِنَّ هؤلاء شدُّوا للشَّدِّ عليكم، ولا والله لا يردُّهم إِلا صدق اللقاء، والصَّبر في البلاء. ثمَّ نزل عن فرسه، وقال: من أراد أن يأخذ فرسي، ويقاتل عليه فليأخذه، واثر بذلك أن يقاتل راجلاً مع المشاة.

وثبتت قبائل الأزدي، ومذحي، وحضرموت، وخولان حتَّى صدُّوا أعداء الله، ثم ركبهم من الرُّوم أمثال الجبال، فزال المسلمون من الميمنة إِلى القلب وانكشف طائفةٌ من الناس إِلى العسكر، وثبت سُورٌ من المسلمين عظيمٌ يقاتلون تحت راياتهم، ثمَّ تنادوا، فتراجعوا حتَّى نَهْنَهوا من أمامهم من الرُّوم، وأشغلوهم عن اتباع من انكشف من النَّاس، واستقبل النِّساء من انهزم من سَرعان النَّاس يضربْنهم بالخشب، والحجارة. فتراجعوا إِلى مواقفهم.

فقال عكرمة بن أبي جهل: قاتلت رسول الله في مواطن، وأفرُّ منكم اليوم؟ ثمَّ نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه عَمُّه الحارث بن هشام، وضرار بن الأزور في أربعمئةٍ من وجوه المسلمين، وفرسانهم، فقاتلوا قدَّام فسطاط خالد حتى أُثْبِتُوا جميعاً جراحاً، وقتل منهم خلقٌ منهم ضرار بن الأزور رضي الله عنه.

وقد ذكر الواقديُّ وغيره أنَّهم لما صُرعوا من الجراح استسقوا ماءً فجيء إِليهم بشربة ماء، فلمَّا قرِّبت إِلى أحدهم نظر إِليه الآخر، فقال: ادفعها إِليه، فلما دفعت إِليه نظر إِلى الآخر فقال: ادفعها إِليه، فتدافعوها كلُّهم من واحدٍ إِلى واحدٍ حتَّى ماتوا جميعاً، ولم يشربها أحدٌ منهم رضي الله عنهم أجمعين.

ويقال: إِنَّ أوَّل من قتل من المسلمين يومئذٍ شهيداً رجل جاء إِلى أبي عبيدة، فقال: إِنِّي قد تهيَّأت لأمري فهل لك حاجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم تقرئه عنِّي السَّلام، وتقول: يراسل الله! إِنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقّاً. قال: فتقدَّم هذا الرَّجل حتَّى قُتل رحمه الله. وثبت كلُّ قومٍ على رايتهم حتَّى صارت الرُّوم تدور كأنَّها الرحاب، فلم تر يوم اليرموك إِلا مُخّاً ساقطاً، ومعصماً نادراً، وكفّاً طائرةً من ذلك الموطن.

ميمنة الرُّوم تحمل على ميسرة المسلمين:

حملت ميمنة الرُّوم بقيادة قناطر على ميسرة المسلمين حملةً شديدةً، وكانت في ميسرة المسلمين قبائل كنانة، وقيس، وخثعم، وجذام، وقضاعة، وعاملة، وغسَّان فأزيلت عن مواضعها، فانكشف قلب المسلمين من ناحية الميسرة وركب الرُّوم أكتاف من انهزم من المسلمين، وتبعوهم حتَّى دخلوا معسكر المسلمين، فاستقبلتهم نساء المسلمين بالحجارة وأعمدة الخيام يضربنهم على وجوههم، ويقلن لهم: أين عزُّ الإِسلام، والأمَّهات، والأزواج؛ أين تفرُّون وتدعوننا للعلوج؟ فإِذا زجرنهم خجل أحدُهم من نفسه، ورجع إِلى القتال، وقتلوا من الرُّوم خلقاً كثيراً، واستشهد في المرحلة سعيد بن زيد، وحاولت ميسرة الرُّوم مرَّة أخرى بشنِّ الهجوم على ميمنة المسلمين: فشدُّوا على عمرو بن العاص، وجنده في محاولة اختراق الصُّفوف لكي يقوموا بعملية التَّطويق، وقاتل عمرو، وجنده عن مواضعهم إِلا أنَّ الرُّوم تمكَّنوا من دخول معسكرهم، ونزلت المسلمات من التلِّ، وأخذن يضربن وجوه الرجال المتراجعين، وقالت ابنة عمرو: قبَّح الله رجلاً يفرُّ عن حليلته! وقبَّح الله رجلاً يفرُّ عن كريمته! وقالت أخريات: لستم بعولتنا إِن لم تمنعونا! وبذلك ارتدَّت إِلى المسلمين عزائمهم، ودخلوا القتال مرَّةً أخرى، وحمل المسلمون على الرُّوم من جديدٍ حتَّى أزاحوهم عن المواضع الَّتي كسبوها.

الحركة الإخراجية والقضاء على مشاة الرُّوم:

حمل خالد بمن معه من الخيالة على الميسرة الَّتي حملت على ميمنة المسلمين فأزالوهم إِلى القلب، فقتل من الرُّوم في حملته هذه ستة الاف، ثمَّ قال: والذي نفسي بيده لم يبقَ عندهم من الصَّبر والجَلَد غير ما رأيتم، وإِنِّي لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم. ثمَّ اعترضهم، فحمل بمئة فارسٍ معه على نحو من مئة ألف فما وصل إِليهم حتى انقضَّ جميعهم، وحمل المسلمون عليهم حملة رجلٍ واحدٍ، فانكشفوا، وتبعهم المسلمون لا يمتنعون منهم، وقامت ميمنة المسلمين بإِغلاق المنافذ، والثغرات في وجوه الرُّوم، وحصروا بين وادي اليرموك ونهر الزَّرقاء، ودارت رحى المعركة، وأبلى المسلمون بها بلاءً حسناً، واستطاع المسلمون أن يفصلوا فرسان الرُّوم عن مشاتهم، فحملوا على الرُّوم وركبوا أكتافهم حتَّى أرهقوهم، وبذلك أراد فرسان الرُّوم مخرجاً لهم للفرار منه، وبذلك أمر خالد عمرو بن العاص بفسح المجال لهم في طريق الهرب، ففعل ذلك، وهرب فرسان الروم، وبذلك تحرَّك مشاة الرُّوم دون غطاء من خيالتهم، فجاء المشاة إِلى الخنادق وهم مقيَّدون بالسَّلاسل حتَّى صاروا كأنَّهم حائط، وقد هدم، وجاءهم المسلمون إِلى خندقهم في ظلام الليل، وأخذ معظمهم ينهار بالوادي فإِذا منهم شخصٌ قُتل سقط معه الجميع الذين كانوا مقيَّدين معه، وقتل منهم المسلمون في هذه المرحلة خلقاً كثيراً قدر عددهم بمائة ألف وعشرين ألفاً، والنَّاجون منهم قد انسحب منهم إِلى فحلٍ، والقسم الآخر إِلى دمشق داخل بلاد الشام.

وثبت يومئذٍ يزيد بن أبي سفيان، وقاتل قتالاً شديداً، وذلك: أنَّ أباه مرَّ به، فقال له: يا بنيَّ! عليك بتقوى الله، والصَّبر، فإِنَّه ليس رجل بهذا الوادي من المسلمين إِلا محفوفاً بالقتال، فكيف بك وبأشباهك الَّذين ولوا المسلمين؟ أولئك أحقُّ النَّاس بالصَّبر والنَّصيحة، فاتق الله يا بنيَّ! ولا يكونَنَّ أحدٌ من أصحابك بأغرب في الأجر، والصَّبر في الحرب، ولا أجرأ على عدوِّ الإِسلام منك. فقال: أفعل إِن شاء الله. فقاتل يومئذٍ قتالاً شديداً، وكان من ناحية القلب ـ رضي الله عنه ـ.

وقال سعيد بن المسيِّب عن أبيه، قال: هدأت الأصوات يوم اليرموك فسمعنا صوتاً يكاد يملأ المعسكر يقول: يا نصر الله اقترب! الثَّبات، الثبات، يا معشر المسلمين! قال: فنظرنا فإِذا هو أبو سفيان تحت راية ابنه يزيد، وأخَّر النَّاس صلاتي العشاء حتَّى استقرَّ الفتح، وأكمل خالدٌ ليلته في خيمة تذارف أخي هرقل ـ وهو أمير الرُّوم كلِّهم يومئذٍ ـ، وهرب فيمن هرب، وباتت الخيول تجول حول خيمة خالد يقتلون من مرَّ بها من الرُّوم حتَّى أصبحوا، وقُتِلَ تذارف، وكان له ثلاثون سرادقاً، وثلاثون رواقاً من ديباج بما فيها من الفرش والحرير، فلمَّا كان الصَّباح حازوا ما كان هنالك من الغنائم، وكان عدد شهداء المسلمين ثلاثة الاف بينهم من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وشيوخ المسلمين، وأقطابهم، وممَّن استشهد من هؤلاء عكرمة بن أبي جهل، وابنه عمرو، وسلمة بن هشام، وعمرو بن سعيد، وأبان بن سعيد، وغيرهم، وكان عدد قتلى الروم مئة وعشرين ألفاً، منهم ثمانون ألفاً مقيَّدون بالسَّلاسل، وأربعون ألفاً مطلقون سقطوا جميعهم في الوادي.

لقد فرح المسلمون بهذا النَّصر العظيم، وعكَّر ذلك الفرح وصول خبر وفاة الصِّدِّيق حيث حزنوا عليه حزناً شديداً، وعوَّضهم الله تعالى بالفاروق ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ، وقد كان البريد قد قدم بموت الصِّديق والمسلمون مصاف الرُّوم، فكتم خالد ذلك عن المسلمين لئلا يقع في صفوفهم وهنٌ أو ضعفٌ، فلمّا تم النصر وأصبحوا؛ أجلى لهم الأمر، وكان الفاروق قد عيَّن أبا عبيدة بن الجراح بدلاً من خالد بن الوليد على جيوش الشَّام، وتقبَّل خالد أمر الفاروق برحابة صدر، وعزَّى المسلمين في خليفة رسول الله، وقال لهم: الحمد لله الذي قضى على أبي بكرٍ بالموت وكان أحبَّ إِليَّ من عمر، والحمد لله الَّذي ولَّى عمر، وكان أبغض إِليَّ من أبي بكرٍ وألزمني حبَّه. وتولى أبو عبيدة القيادة العامَّة لجيوش الشَّام.

وممَّا قيل من الشعر في يوم اليرموك قول القعقاع بن عمرٍو:

ألمْ تَرنا على اليرموكِ فُزْنا كمَا فُزْنا بأيَّام العراق

وعذراء المدائنِ قَدْ فتَحْنَا ومرجَ الصفرِ بالجُرْد العِتَاق

فَتَحْنَا قَبْلَهَا بُصْرى وكانَتْ محرَّمَةَ الجنَاب لدى النُّعَاق ق

َتَلْنَا مَنْ أَقَامَ لَـنَا وَفِيْنَا نهابُهُمُ بأسيافٍ رقاق

قتلنا الرُّومَ حَتَّى مَا تَسَاوَى عَلَى اليَرْمُوكِ مَعْرُوق الوراق

فضضنا جَمْعَهُمْ لمَّا اسْتَجَالوا على الواقون بالبَتْرِ الرِّقاق

غَدَاةَ تَهافتُوا فيها فَصَاروا إِلى أمرٍ يُعَضِّل بالذَّواق

وقد أصاب هرقل همٌّ، وحزنٌ لما أصاب جيشه في اليرموك، ولمَّا قدِمت على أنطاكية فلولُ جيشه؛ قال هرقل: ويلكم أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم، أليسوا بشراً مثلكم؟ قالوا: بلى! قال: فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافاً في كلِّ موطن. قال: فما بالكم تنهزمون؟! فقال شيخ من عظمائهم: من أجل أنَّهم يقومون الليل، ويصومون النَّهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويتناصفون بينهم. ومن أجل أنَّا نشرب الخمر، ونزني، ونركب الحرام، وننقض العهد، ونغصب، ونظلم، ونأمر بالسُّخط، وننهى عمَّا يرضى الله، ونفسد في الأرض. فقال: أنت صدقتني!

 

للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022