(صلاة الكسوف والخسوف)
اقتباسات من كتاب " فقه الصلاة" للدكتور يوسف عبد الله القرضاوي (رحمه الله)
الحلقة: 131
ذو الحجة 1444ه/ يونيو 2023م
خلق الله تعالى الليل والنهار، والشمس والقمر، وسائر الكواكب، وسخَّرها بحكمته، تسير في نظام متقن، تظهر وتختفي، ويطرأ عليها ما يحجب نورها، ويسترُ ضوءَها، كل ذلك بتقدير العزيز العليم.
وقد رأينا بعض الأمم من قديم كالمصريين يتوجهون إلى عبادة الشمس لما يرون من قوة ضوئها، وهي مثلهم خلق من خلق الله، مسخرة بأمره تعالى.
وإذا كانت بعض العقول قد اتجهت إلى هذه المخلوقات بالعبادة، ودانت لها بالخضوع والطاعة، لما ترى من عظمتها، وما تلمسه من فوائدها، فقد جاء الإسلام يهدي العقول إلى ربها، وجعلها من دلائل وجوده، ومن آيات قدرته، ويبين أنَّ الله تعالى هو الأحق بالعبادة؛ إذ هو الذي أبدعها، وهو الذي سيَّرها. قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت:37].
والإسلام يعودنا أن نوجه القلوب إلى ربها في أوقات ما يعتري الشمس من تغيُّر، اعترافًا بعظمته، وإقرار بسيطرته، وأنَّه لا ارتباط لذلك بحوادث حياتنا. قالت العرب حين خسفت الشمس يوم موت ابنه الصغير إبراهيم، إنّها خسفت من أجله، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما كذلك، فافزعوا إلى المساجد". وفي رواية: "فافزعوا إلى الصلاة".
معنى الكسوف والخسوف:
الكسوف: هو احتجاب ضوء الشمس أو القمر أو بعضه، وتغيُّره إلى السواد، بسبب غير معتاد. والكسوف والخسوف بمعنى واحد، يقال: كسفت الشمس، وكذا خسفت، كما يقال: كسف القمر، وكذا خسف، وقيل: الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، وهو الأشهر في اللغة.
الحكمة من الكسوف والخسوف:
والحكمة من الكسوف والخسوف أن الله تعالى يخوف بهما عباده، حتى يرجعوا إليه سبحانه، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وإنَّما يخوف الله بهما عباده".
صلاة الكسوف وحكمها:
صلاة الكسوف: صلاة تؤدى بكيفية مخصوصة، عند ظُلمة أحد النَّيِّرين أو بعضهما.
وقد أجمع العلماء على أنَّ الصلاة لكسوف الشمس سنة مؤكدة، أما الصلاة لخسوف القمر فهي سنة مؤكدة عند الشافعية والحنابلة، وهي حسنة عند الحنفية، ومندوبة عند المالكية.
والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد، ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فادعوا الله، وصلُّوا حتى ينجلي". ولأنَّه صلى الله عليه وسلم أمر بها، وخرج فزِعًا إليها، وأخبر أنها تخويف للعباد.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: أنه صلى بأهل البصرة في خسوف القمر ركعتين، وقال: إنما صليتُ؛ لأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي.
قال الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: وصلاة الكسوف سنة مؤكدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وأمر بها.
ونقل الإمام النووي رحمه الله الإجماع على أنها سنة.
ونقل الحافظ ابن حجر رحمه الله عن أبي عوانة القول بوجوبها، قال: ولم أره لغيره، إلا ما حُكِي عن مالك أنه أجراها مجرى الجمعة، ونقل الزين بن المنير عن أبي حنيفة أنه أوجبها، وكذا نُقل عن بعض مصنفي الحنفية أنها واجبة.
قال ابن القيم في «كتاب الصلاة»: وهو قول قوي. أي: القول بالوجوب.
والجمهور صرفها عن الوجوب بحديث الأعرابي المعروف، ولأنَّها صلاة ذات ركوع وسجود، لا أذان لها ولا إقامة، كصلاة الاستسقاء.
وتشرع صلاة الكسوف في الحضر والسفر، بإذن الإمام وبغير إذنه، للنساء والرجال على حد سواء، وبهذا صرّح الشافعية والحنابلة؛ لأنَّ عائشة وأسماء صلتا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت: أتيتُ عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين خسفت الشمس، فإذا الناس قيام يصلون، وإذا هي قائمة تصلي، فقلت: ما للناس؟ فأشارت بيدها إلى السماء، وقالت: سبحان الله. فقلتُ: آية؟ فأشارت أي نعم. قالت: فقمت حتى تجلَّاني الغَشْيُ، فجعلتُ أصبُّ فوق رأسي الماء. وفي لفظ مسلم: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تجلَّت الشمس.
وقد ترجم الإمام البخاري رحمه الله لهذا الحديث بقوله: باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: أشار بهذه الترجمة إلى رد قول من منع ذلك، وقال: يُصلِّين فرادى.
النداء لها:
ويُسَنُّ أن يُنادى لها: الصلاة جامعة. لما رُوِي عن عبد الله بن عمرو، قال: لمَّا كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نُودِي بـ: الصلاة جامعة.
ولا يُشرع لها أذان ولا إقامة؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صلاها بغير أذان ولا إقامة، ولأنها من غير الصلوات الخمس، فأشبهت سائر النوافل.
قال الحافظ ابن حجر: «قال ابن دقيق العيد: وقد اتفقوا على أنه لا يؤذَّن لها ولا يقام».
وقتها:
ووقت صلاة الكسوف من حين ظهور الكسوف إلى حين زواله، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتموهما فادعوا الله وصلَّوْا حتى ينجلي". فجعل الانجلاء غاية للصلاة؛ ولأنَّها شُرعت رغبةً إلى الله في رد نعمة الضوء، فإذا حصل ذلك حصل المقصود من الصلاة.
فوات صلاة الكسوف:
تفوت صلاة الكسوف بأحد أمرين:
الأول: انجلاء جميعها، فإن انجلى البعض، فله الشروع في الصلاة للباقي، كما إذا لم ينكسف إلَّا هذا القدر.
الثاني: بغروبها كاسفة.
وإن انجلت وهو في الصلاة أتمَّها خفيفة، وإن استترت الشمس والقمر بالسحاب وهما مكسوفان صلَّى؛ لأنَّ الأصل بقاء الكسوف، وإن غابت الشمس كاسفة أو طلعت على القمر وهو خاسف لم يصلّ؛ لأنه قد ذهب وقت الانتفاع بنورهما، وإن فرغ من الصلاة والكسوف قائم لم يزد صلاة أخرى، وإنما يشتغل بالذكر والدعاء والاستغفار؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد على ركعتين.
ويفوت خسوف القمر بأحد أمرين:
الأول: الانجلاء الكامل.
الثاني: طلوع الشمس.
وإذا اجتمع كسوف وجمعة، أو كسوف وصلاة فريضة، أو كسوف ووتر، بدأ بأخوفهما فوتًا، فإن خيف فوتهما بدأ بالواجبة.
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب فقه الصلاة للدكتور يوسف عبد الله القرضاوي (رحمه الله) ص351-347