من مراتب القدر … مرتبة كتابة مقادير المخلوقات في اللوح المحفوظ
مختارات من كتاب "الإيمان بالقدر"
لمؤلفه الشيخ الدكتور علي محمد الصلّابي
الحلقة الثالثة عشر
من مراتب القدر مرتبة الكتابة، وهي أن الله تعالى ـ كتب مقادير المخلوقات، والمقصود بهذه الكتابة الكتابة في اللوح المحفوظ، وهو الكتاب الذي لم يفرط فيه الله من شيء، فكل ما جرى ويجري فهو مكتوب عند الله وأدلة هذه المرتبة كثيرة نذكر منها:
1 ـ قوله تعالى: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: 38] ، على أحد الوجهين، وهو أن المقصود بالكتاب هنا اللوح المحفوظ، فالله أثبت فيه جميع الحوادث، فكل ما يجري مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ (1).
2 ـ وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: 105]. فأخبر ـ تعالى ـ أن هذا مكتوب مسطور في الكتب الشرعية والقدرية فهو كائن لا محالة (2). والآية دالة على مرتبة الكتابة عند من فسر الزبور بالكتب بعد الذكر، والذكر أمُّ الكتاب عند الله، وهو اللوح المحفوظ (3).
3 ـ وقال تعالى في قصة أسرى بدر: ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: 68] أي: لولا كتاب سبق به القضاء عند الله أنه قد أحل لكم الغنائم وأن الله رفع عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لمسكم العذاب (4)، فالآية دليل على الكتاب السابق (5).
4 ـ وقال تعالى:﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحج: 70]. وهذه الآية من أوضح الأدلة الدالة، على علمه المحيط بكل شيء، وأنه علم الكائنات كلها قبل وجودها، وكتب الله ذلك في كتابه اللوح المحفوظ (6)، فالآية جمعت بين المرتبتين (7).
5 ـ وقال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [النمل: 75] ، أي: خفية أو سر من أسرار العالم العلوي والسفلي، إلا في كتاب مبين، قد أحاط ذلك الكتاب بجميع ما كان ويكون إلى أن تقوم الساعة، فما من حادث جلي أو خفي، إلا هو مطابق لما كتب في اللوح المحفوظ (8)، فالآية دليل على الكتابة السابقة لكل ما سيقع.
6 ـ وقال تعالى في آية جمعت بين مرتبتي العلم والكتابة: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [يونس: 61]، ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ﴾ أي: ما يغيب عن علمه وبصره وسمعه ومشاهدته أي شيء، حتى مثاقيل الذر، بل هو ما أصغر منها، وهذه مرتبة العلم، وقوله:﴿إِلاَّ فِي كِتَابٍ﴾ : مرتبة الكتابة، وكثيراً ما يقرن الله ـ سبحانه وتعالى ـ بين هاتين المرتبتين (9).
7 ـ قال تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [يس: 12]، أي: جميع الكائنات مكتوب في كتاب مسطور مضبوط في لوح محفوظ، والإمام المبين هَهُنا: هو أم الكتاب (10).
8 ـ وقال تعالى: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ [القمر: 52-53] أي: مكتوب عليهم في الكتب التي بأيدي الملائكة عليهم السلام ﴿وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ﴾ أي : من أعمالهم ﴿مُسْتَطَرٌ﴾ أي: مجموع عليهم، ومسطر في صحائفهم، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها (11).
9 ـ وقال تعالى عن موسى حين قال له فرعون: ﴿قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىقَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ [طه: 51-52].
إن فرعون لما أخبره موسى بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق وقدّر وهدى، شرع يحتج بالقرون الأولى، أي: الذين لم يعبدوا الله، أي: فما بالهم إذا كان الأمر كما تقول لم يعبدوه بل عبدوا غيره؟ فقال له موسى في جواب ذلك: هم وإن لم يعبدوه فإن عَملَهمُ عند الله مضبوط عليهم، وسيجزيهم بعملهم في كتاب الله وهو اللوح المحفوظ وكتاب الأعمال ﴿لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى﴾ أي: لا يشذ عنه شيء ولا يفوته صغير ولا كبير ولا ينسى شيئاً، يصف علمه تعالى بأنه بكل شيء محيط، وأنه لا ينسى شيئاً تبارك وتعالى وتقدّس وتنزه، فإن علم المخلوقات يعتريه نقصانان، أحدهما: عدم الإحاطة بالشيء، والآخر: نسيانه بعد علمه، فنزه نفسه عن ذلك (12).
10 ـ وقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [فاطر: 11].
-----------------------------------------------------
مراجع الحلقة الثالثة عشر:
(1) القضاء والقدر د. عبد الرحمن المحمود ص 60.
(2) صحيح تفسير ابن كثير (3 / 177) .
(3) القضاء والقدر، عبد الرحمن المحمود ص 60.
(4) تفسير السعدي (3/ 191) .
(5) تفسير ابن كثير (5/ 448) ، تفسير النسفي (3/ 389) .
(6) تفسير ابن كثير (5/ 448) ، تفسير النسفي (3/ 389) .
(7) القضاء والقدر ص 60.
(8) تفسير السعدي (5/ 598) .
(9) تفسير السعدي (3 / 366) .
(10) صحيح تفسير ابن كثير (3 / 654) .
(11) المصدر نفسه (4 / 335) .
(12) صحيح تفسير ابن كثير (3 / 115) .
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الإيمان بالقدر في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: