وردت في السنة النبوية الشريفة العديد من الأدلة والإشارات إلى مرتبة الإرادة والمشيئة كمرتبة من مراتب القدر، وأدلة هذه المرتبة من السنة:
1 ـ عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه السائل أو طلبت إليه حاجة قال: اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء (1).
فأوصى بالشفاعة وذلك فيما ليس بمجرم وضابطها: ما أذن في الشرع دون ما لم يأذن فيه(2)، ثم بين أن الله يقضي على لسان رسوله ما شاء، أي: يظهر على لسان رسوله بالوحي أو الإلهام ما قدره في علمه بأنه سيقع (3)، فهذا يدل على مرتبة المشيئة.
2 ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله (4)، فقوله: من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، فيه إثبات مرتبة الإرادة، وأن الأمور كلها تجري بمشيئة الله تعالى ـ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: وإنما أنا قاسم والله يعطي، أي: إنما أقسم ما أمرني الله بقسمته، والمعطي حقيقة هو الله ـ تعالى ـ فالأمور كلها بتقدير الله تعالى، والإنسان مصرف مربوب،
3 ـ ومن الأحاديث الدالة على الإرادة حديث حذيفة بن أسيد الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن ملكاً موكلاً بالرحم، إذا أراد الله أن يخلق شيئاً بإذن الله لبضع وأربعين ليلة... الحديث (5). فالله هو المريد لخلق الآدمي، والأحاديث الدالة على مرتبة المشيئة والإرادة كثيرة جداً (6).
4 ـ وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجعلتني والله عدلاً، بل ما شاء الله وحده (7)، والحديث واضح الدلالة على إثبات مرتبة المشيئة، وأن الله تعالى له المشيئة المطلقة، وأن للعباد مشيئة خاضعة لمشيئة الله تعالى، والنهي في الحديث إنما هو عن قرن مشيئة الله بمشيئة الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث عطفها بالواو والتي هي لمطلق الجميع من غير ترتيب ولا تعقيب، والرسول مثل غيره من العباد، فالكل خاضعون لمشيئة الله، ومشيئتهم تابعة لمشيئة الله (8).
5 ـ وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت ارحمني إن شئت، ارزقني إن شئت، وليعزم مسئلته أنه يفعل ما يشاء لا مكره له (9).
ففيه إثبات المشيئة لله تعالى فهو الغفور الرحيم، والرازق إذا شاء، وهو سبحانه يفعل ما يشاء، لا مكره له، والحديث فيه الحث على العزم في المسألة والجزم فيها، دون ضعف أو تعليق على المشيئة، وإنما نهى عن التعليق على المشيئة لأنه لا يتحقق استعمال المشيئة إلا في حق من يتوجه إلى الإكراه، والله سبحانه وتعالى لا مكره له، كما نص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم هنا (10) .
6 ـ وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يصرفه حيث يشاء، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك (11). والشاهد قوله: "كقلب واحد يصرفه حيث يشاء"، ومعناه أنه سبحانه وتعالى متصرف في قلوب عباده كلهم، فيهدي ويضل كما يشاء، ففيه دلالة على مرتبة المشيئة (12).
7 ـ وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ حين أجابه بعد سؤاله له هو وفاطمة بقوله: "ألا تصليان؟" فأجابه بقوله: أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا.
قال علي: فانصرف حين قلت له ذلك، ولم يرجع إلي شيئاً، ثم سمعته وهو مُوَلِّ يضرب فخذه وهو يقول: ﴿وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ (13). ففي هذا الحديث إثبات لمشيئة الله تعالى وأن العبد لا يفعل شيئاً إلا بإرادة الله وأما انصراف النبي صلى الله عليه وسلم وضربه فخذه، واستشهاده بالآية، فمعناه أنه تعجب من سرعة من جوابه وعدم موافقته له على الاعتذار بهذا، ولهذا ضرب فخذه (14).
8 ـ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع يقول: ربنا لك الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما شئت من شئ بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد (15).
وهذا تحقيق لوحدانيته لتوحيد الربوبية خلقاً وقدراً وبداية وهداية هو المعطي المانع لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولتوحيد الإلهية شرعاً وأمراً ونهياً (16). وفي هذا الحديث: فيه من التفويض إلى الله تعالى والإذعان له والاعتراف بوحدانيته والتصريح بأنه لا حول ولا قوة إلا به وأن الخير والشر منه والحث على الزهادة في الدنيا والإقبال على الأعمال الصالحة (17).
9 ـ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شئ فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان (19). ففي الحديث حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان بمقادير الله وبمشيئة الله وإرجاع ما يقع للعبد إلى مشيئة الله: "وما شاء فعل" فيه إثبات المشيئة لله تعالى (20) .
10 ـ وعن ابن عباس رضي الله نهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي يعوده فقال: لا بأس عليك طهور إن شاء الله، قال الأعرابي: طهور، بل هي هي حمى تفور على شيخ كبير، تُزيره القبور، قال النبي صلى الله علي وسلم: فنعم إذاً (21) .
وهذا الحديث استدل به البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد علي إثبات مشيئة الله عز وجل، كما هو واضح في تخريج الحديث، حيث بوّب له باب: في المشيئة والإرادة. والشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم: إن شاء الله. فجعل كون هذا المرض الذي أصيب به المريض طهوراً من ذنوبه ومكفراً لها مقيداً بمشيئة الله تعالى وفوض ذلك فإن شاء الله تعالى جعله كفارة وطهوراً فهو يفعل ما يشاء وهو على كل شئ قدير (22).
11 ـ وفيما يقال عند دخول القبور ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد.
والأحاديث الدالة على مرتبة المشيئة والإرادة كثيرة جداً.
---------------------------------------------
مراجع الحلقة الخامسة عشر:
([1]) البخاري، ك الزكاة، فتح الباري (3/ 299) .
(2) فتح الباري (10/ 451) .
(3) المصدر نفسه (13/ 452) .
(4) البخاري، ك فتح الباري (1 / 164) .
(5) مسلم رقم 2645.
(6) القضاء والقدر ص 76 المحمود.
(7) مصنف ابن أبي شيبة رقم 6742.
(8) القضاء والقدر المحمود ص 75.
(9) البخاري (7477) مسلم رقم 2678.
(10) شرح النووي على مسلم (17 / 6 ـ 7) ، فتح الباري (11 / 140) .
(11) مسلم، ك القدر رقمه 2654 (4 / 2045) .
(12) شرح النووي على مسلم (16 / 204) .
(13) فتح الباري (3 / 10) مسلم رقم 775..
(14) شرح النووي (4 / 2045) .
(15) مسلم رقم 771.
(16) مجموع الفتاوي (14 / 376) .
(17) شرح صحيح مسلم للنووي (4 / 195 ـ 196) .
(18) مسلم رقم 2664.
(19) المباحث العقدية المتعلقة بالأذكار (2 / 883) .
(20) البخاري، ك التوحيد رقم 7032.
(21) المباحث العقدية (2 / 884) .
(22) مسلم، رقم 974.
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الإيمان بالقدر في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:
http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/648