الجمعة

1446-04-15

|

2024-10-18

من كتاب المسيح ابن مريم عليه السلام : الحقيقة الكاملة

(تصديق عيسى عليه السلام لما بين يديه من التوراة)

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

جمادى الآخرة 1442 ه/ يناير 2021


أخبر الله بأن عيسى عليه السلام مصدَّقٌ لما بين يديه من التوراة في مواضع مختلفة من كتابه العزيز، ومنها قوله تعالى:﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ﴾(المائدة: 46)، وقوله تعالى:﴿ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ (الزخرف: 63) .
إذن فدعوة عيسى مكمِّلة لشريعة موسى عليه السلام، وموضِّحة لها وامتداد لها ومصحِّحة لما طرأ عليها من انحرافات وضلالات مع توالي الحقب والأزمان، كما أنه عليه السلام قد أتى ببعض التخفيفات والتسهيلات لبني إسرائيل، قال تعالى حكاية لقول عيسى عليه السلام: ﴿ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ (آل عمران: 50)، ولهذا كان المفهوم الطبيعي للنصرانية أن تحكم بشريعة التوراة مع مراعاة التعديلات الواردة في الإنجيل.

1. التوراة:

هو الكتاب الذي أنزله الله على موسى عليه السلام، وتتضمن التوراة -على الأرجح -الصحف التي أنزلت على موسى عليه السلام، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الصحف بقوله تعالى:﴿ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ ﴾(الأعلى: 19)، وقال تعالى:﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ﴾(النجم: 36).
كما يتضمن الألواح التي جاء بها موسى بعد مناجاته لربه في جانب الطور، قال تعالى:﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ ﴾(الأعراف: 145).
ولفظ (التوراة) لفظ عبراني معناه (التعليم أو الشريعة)، والقرآن الكريم جاء مصدقاً للكتب السماوية السابقة، ومهيمناً عليها، ومنها التوراة والإنجيل، قال تعالى: ﴿الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ (آل عمران: 1-4)، فالإيمان بالتوراة التي أنزلها الله على موسى أصل من أصول الإيمان؛ لأنها من كتب الله المنزلة التي ذكرها القرآن الكريم وأمرنا بالإيمان بها .

2. أوصاف التوراة في القرآن الكريم:

وصف القرآن الكريم التوراة بصفاتٍ إيجابية، حيث مدحها وأثنى عليها، واعترف بفضلها، وهذا أمر طبيعيٌّ لأن القرآن من عند الله، والتوراة أيضاً من عند الله، أنزلها على عبده موسى عليه السلام، ولذلك أثنى كلام الله اللاحق على كلام الله السابق، وجاء القرآن مصدقاً للتوراة بهذا الاعتبار، وننظر فيما يلي في الآيات القرآنية التي وصفت التوراة بصفات إيجابية:
أ‌. أوصاف التوراة في سورة الأعراف:
قال تعالى:﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ﴾(الأعراف: 145).
تثني هذه الآية على التوراة التي كتبها الله لموسى عليه السلام، حيث أخبر الله فيها أنه كتب لموسى عليه السلام في الألواح (من كل شيء)، وجعلها (موعظة وتفصيلاً لكل شيء)، وطالب قومه أن يأخذوا بأحسنها، وهذه صفات ثلاث للتوراة، موعظة، وتفصيل لكل شيء، وأنها حسنة.
ب‌. أوصاف التوراة في سورة الأنبياء:
قال تعالى:﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ﴾(الأنبياء: 48-49).
وصف الله التوراة بصفات ثلاث:
· الوصف الأول: أنها فرقان، والفرقان: من التفريق بين الحق والباطل، وكل كتب الله النازلة على رسله فرقان بهذا المعنى.
· الوصف الثاني: أنها ضياء، والضياء هو النور والإشراق، ووصفت التوراة بأنها (ضياء)؛ لأنها يستضيء بها المتقون، ويبدِّدون بها الظلام الذي حولهم، ويعرفون الحق من الباطل، ويكونون على بصيرة.
· الوصف الثالث: أنها ذكر، والذكر من التذكير وهي ذكر للمؤمنين، لأنها تذكرهم بما أوجب الله عليهم من الواجبات، ونهاهم عن منهيَّات، يتذكرونها عندما ينظرون في التوراة، فيلتزمون بها، ويطيعون الله من خلالها، وهي ذكر من وجهٍ آخر: فبها يذكرون الله سبحانه وأفضل أنواع ذكر الله قراءة كتابه والتدبُّر فيه.
ت‌. أوصاف التوراة في سورة الأنعام:
قال تعالى:﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ (الأنعام: 91).
وقد وصفت التوراة في الآية بثلاث صفات:
· الصفة الأولى: أنها كتاب: وذلك من جملة (من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى)، وهي كتاب؛ لأن الله كتبها على الألواح، وأنزلها على موسى عليه السلام، وهي أحد كتب الله الأربعة التي يجب الإيمان بها مفصلاً: التوراة والزبور والإنجيل والقرآن.
· الصفة الثانية: أنها نور: تنير لبني إسرائيل طريقهم وتجعلهم يسيرون على بينة وبصيرة ممن آمن بموسى عليه السلام.
· الصفة الثالثة: أنها هدى: فالله جعلها هدى للناس، يهتدون بها للحق، وهي تأخذ بأيديهم وترشدهم، وتدلهم وتقودهم إلى الخير، وتحذرهم من الخطر والشر، وتبين لهم الطريق المستقيم الذي يوصلهم إلى مرضاة الله.
ث‌. التوراة تامَّة ومفصَّلة وهدى ورحمة:
قال الله سبحانه وتعالى:﴿ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ﴾(الأنعام: 154).
آتى الله رسوله موسى عليه السلام التوراة، وجعلها (تماماً) أي: تامة في أحكامها وشريعتها، تلبي حاجات بني إسرائيل، وهي كافية لهم بهذا الاعتبار، والذين يستفيدون منها هم المحسنون الذين يريدون أن يُحسنوا في عبادتهم لله (تماماً على الذي أحسن (، وفسَّر كلمة (تماماً) بقوله بعدها (وتفصيلا لكل شيء) أي: أن معنى كونها (تماماً) أنها تفصيل لكل شيء يحتاجه بنو إسرائيل في حياتهم، وجعلها الله هدى يهتدي به بنو إسرائيل، كما جعلها رحمة لهم رحمهم بها عندما أنزلها عليهم، وبيَّن لهم فيها الأحكام.
ج‌. التوراة إمام ورحمة:
قال تعالى:﴿ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ﴾(الأحقاف: 12).
وقد تحدثنا عن وصف التوراة بالرحمة فيما سبق، والجديد في الآية وصفها بأنها إمام، والإمام هو المرجع الذي يرجع الناس ويحتكمون إليه، ويلتزمون به ويسيرون خلفه، وقد يكون الإمام شخصاً يؤتمُّ به، كالإمام الحاكم المسؤول القدوة، والإمام الذي يؤمُّ الناس في الصلاة، وقد يكون إماماً معنوياً، كالكتاب الذي يتحاكمون إليه ويلتزمون بما فيه.
وكل كتاب أنزله الله فهو إمام يرجع إليه ويأتم به الناس، فالتوراة إمام والإنجيل إمام والقرآن إمام بهذا الاعتبار، وجمعت الآية بين كون التوراة إماماً وكونها رحمةً لبني إسرائيل، لأن إمام الهدى والخير رحمة للمأمومين يقدم الخير لهم ويقودهم إليه.
ح‌. التوراة كتاب حكم:
قال تعالى:﴿ أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ﴾(المائدة: 44).
وقد تحدثنا عن وصف التوراة بالنور والهدى والصفة الجديدة للتوراة في الآية أنها (كتاب حكم) أنزلها الله ليتحاكم إليها الناس ويطبقوا ما فيها من أحكام وتشريعات (يحكم بها النبيون الذي أسلموا للذين هادوا).
وتدل الآية على أن أنبياء بني إسرائيل كانوا مأمورين بالتزام التوراة وتطبيق أحكامها على بني إسرائيل، لأن الله أنزل التوراة على موسى عليه السلام قبلهم، وهذا معناه أن بني إسرائيل كانوا مطالبين بالتوراة عدَّة قرون، وأنها كانت رسالة كل نبي بعثه الله إلى بني إسرائيل من موسى إلى عيسى عليهم السلام.
خ‌. القرآن مصدِّق للتوراة الربانية:
صفات المدح المذكورة في القرآن الكريم هي للتوراة الربانية التي نؤمن أنها كلام الله، وأنها كتابه الذي أنزله على موسى عليه السلام، فالتوراة الربانية هي الضياء النور، والهدى والرشاد، والفرقان والبركة، وهي التي فيها أحكام الله لبني إسرائيل، وهي التي حكم بها النبيون اليهود، ونفذوا أحكامهم فيها، والتوراة الربانية هي التي جاء القرآن مصدقاً لها، وكان الإنجيل قبله مصدقاً ومكمِّلاً لها، والتي كان عيسى ابن مريم مصدِّقاً لها وجاء الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم مصدقاً لها.
- قال تعالى:﴿ عن تصديق عيسى للتوراة الربانية وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ (آل عمران: 50)، ومعنى (ما بين يدي من التوراة) ما سبقني من التوراة؛ لأن إنزال التوراة على موسى عليه السلام كان قبل بعثة عيسى عليه السلام بقرونٍ عديدة.
- وقال تعالى أيضاً:﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾(المائدة: 46).
واللافت للنظر أن كلمة (مصدقاً) مذكورة في الآية مرتين:
· جاءت في المرة الأولى إخباراً عن عيسى الرسول عليه السلام، أنه جاء مصدِّقاً لما سبقه من التوراة (بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة).
· جاءت في المرة الثانية إخباراً عن تصديق الإنجيل للتوراة (وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة).
عيسى عليه السلام مصدقاً لكتاب الله التوراة والإنجيل النازل عليه كتاب الله وهو مصدِّق لكتاب الله التوراة، ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم مصدِّق للتوراة الربانية المباركة، قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ (البقرة: 101).
ومعنى كونه صلى الله عليه وسلم مصدقاً لما معهم من التوراة الربانية أنه مقرِّر لموضوعاتها ومؤكِّد لحقائقها ووجوده عملياً تفسير واقعي لوجودها وبشاراتها، فقد وردت فيها البشارات بالرسول الخاتم، وذكرت فيها صفاته فكان وجوده تصديقاً لهذه البشارات وتحقيقاً لوقوعها.
وقد أخذ الله الميثاق على النبيين وطلب منهم أن يوصوا أتباعهم بالإيمان بالرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ (آل عمران: 81).
والقرآن الكريم مصدِّق للتوراة في موضوعاتها وحقائقها ومصدِّق لها في العقيدة وأسسها، وفي الآداب والأخلاق والفضائل، وفي التاريخ والقصص، وفي التوجيهات والتقريرات والترغيب والترهيب وغير ذلك.
د‌. تعريف التوراة:
لقد ذكر الله سبحانه وتعالى أن أحبار اليهود قد قاموا بتحريف التوراة، وأنهم أضافوا إليها وأنقصوا منها الشيء الكثير، وقد فضحهم الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم في مواضع عدَّة.
- قال تعالى:﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾(البقرة: 75).
- قال سبحانه تعالى:﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ﴾(البقرة: 78-79).
- وقال عز من قائل:﴿ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ﴾(النساء: 46).
- وقال تعالى:﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ﴾(المائدة: 13).
- وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ (المائدة: 41- 42).
ويفصِّل بعض العلماء في أنواع التحريف الذي قام به أحبار بني إسرائيل في التوراة، وبيَّنوا أن عناصر التحريف هي كالتالي:
- تحريف بالتبديل.
- تحريف بالزيادة.
- تحريف بالنقصان.
- تحريف بتغيير المعنى دون تغيير اللفظ.
ويأخذ ذلك أشكالاً كثيرة كالآتي:
· إلباس الحق بالباطل والباطل بالحق حتى ينطلي ذلك الباطل ويروج على عامة الناس:
قال تعالى:﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾(آل عمران: 71)، لا تخلطوا الحق بالباطل والصدق بالكذب، فقد كانوا يكتبون في التوراة ما ليس فيها ومثاله اتهام هارون عليه السلام بأنه الذي وضع لهم العجل وأمرهم بعبادته.
· كتمان الحق:
يرتبط كتمان الحق أيضاً بإلباس الحق بالباطل، كما في الآية المذكورة أعلاه، وفي قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ (البقرة: 42).
ومن أهم أمثلة كتمانهم الحق إنكارهم لصفة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وقد روت صفية بنت حيي بن أخطب زعيم اليهود، وزوج النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلمت أن عمها سأل أباها عن النبي صلى الله عليه وسلم عندما قدم المدينة قائلاً: أهو هو النبي الذي كنا ننتظر؟ فقال حيي بن أخطب والله إنه لهو النبي... ولكنا والله لا نؤمن به، وقد كتموا أيضاً حكم رجم الزاني والزانية ولكن الله فضحهم على يد حَبرهم السابق الصحابي الجليل عبد الله بن سلام وأظهر حكم التوراة وهو الرجم.
· إخفاء الحق:
وهو شبيه إلى حد ما بالكتمان، والعلماء يفرقون بينهما على اعتبار أن الكتمان للأمر العظيم مثل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والاخفاء هو للأمر الذي فيه خزي لهم، وقد قال تعالى: ﴿ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ (المائدة: 15).
· تحريف الكلم عن موضعه:
يوضع كلمة مكان كلمة أو جملة مكان جملة، وهذا هو تحريف التبديل، وقد يكون بإسقاط كلمة، وهو تحريف بالنقص أو بزيادة كلمة أو جملة وهو تحريف بالزيادة، وقد يكون بصرف المعنى إلى معنى آخر غير مقصود وهو تحريف المعنى، قال تعالى:﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ﴾(المائدة: 13)، وقال تعالى:﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ﴾(المائدة: 41).
· ليُّ اللسان: وذلك أثناء قراءتهم للتوراة فيضعون كلاماً من عندهم بدلاً من آيات الله، قال تعالى:﴿ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾(آل عمران: 78).
هذه باختصار أنواع التحريفات التي قام بها أحبار اليهود في كتاب الله المنزَّل على موسى عليه السلام، ومع مضيِّ الأيام وضياع التوراة الأصلية؛ بسبب الحروب والسبي والشتات في الأرض، وبسبب ترك بني إسرائيل مراتٍ عديدة دينهم، وارتدادهم عنه حتى عبدوا الأصنام وخاصة البعليم وعشترون وملكوم وغيرها من الأوثان، وذبحوا لها وعبدوها وأقاموا لها المعابد الضخمة.
وأسفار العهد القديم مليئة بذكر ذلك كلِّه، وفي عهد القضاة (140سنة) ارتدوا سبع مرات، وعبدوا الأوثان، بل وذبحوا أبناءهم وبناتهم قرباناً لها ثم ازدادت الردَّة في عهد الملكية، حتى زعموا كذباً وبهتاناً أن سليمان عليه السلام عبد الأوثان، وبنى لها المعابد.
لهذا كلِّه ضاعت التوراة الأصلية وبقي منها آيات يذكرهم بها أنبياؤهم الذين أرسل الله إليهم تباعاً ليردُّوهم عن غيِّهم وكفرهم وضلالهم، ولكنهم كثيراً ما كانوا يقتلون الأنبياء بعد تكذيبهم والهزء بهم، قال تعالى:﴿ ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون ﴾(البقرة: 87).
وبقيت شذرات من التوراة الأصلية يتوارثونها، ثم قام أحبارهم بجمع تلك الأخبار والآيات وإضافة ما زينه لهم الشيطان، فصاغوها في كتب وقدَّموها للناس على أساس أنها التوراة التي أنزلها الله، ثم جاءت الأبحاث الحديثة خلال القرون الثلاثة الماضية لتؤكِّد أن التوراة الحالية قد كُتبت على مدى ألف عام بواسطة عشرات ومئات الكُتَّاب في أزمنة مختلفة متباينة، وأن ذلك كله قد جمعه بعض الأحبار، ونسَّقه في كتاب أسماه (التوراة)، وأن ذلك ظهر بعد العودة من النفي في بابل، أي في القرن الخامس والرابع قبل الميلاد، أي بعد وفاة موسى عليه السلام بما يقارب ألف عام .
فجميع أسفار التوراة التي لدى أهل الكتاب كُتبت بعد السبي، كما كتب غيرها من أسفار العهد القديم، يدل على ذلك كثرة الألفاظ البابلية بها.
وقد اعترف علماء اللاهوت النصارى بفقد توراة موسى -التي هي أصل الدين وأساسه -قال صاحب كتاب (خلاصة الأدلة السنية على صدق أصول المسيحية): والأمر مستحيل أن تبقى نسخة موسى الأصلية في الوجود إلى الآن، ولا نعلم ماذا كان من أمرها؟ والمرجَّح أنها فقدت مع التابوت لما خرَّب -بختنصَّر-الهيكل، وربما كان ذلك سبب الحديث الجاري بين اليهود على أن الكتب المقدسة فقدت وأن عزرا الكاتب الذي كان نبياً جمع النسخ المتفرقة من هذه الكتب وأصلح غلطها، وبذلك عادت إلى منزلتها الأصلية، وقال العلامة محمد رشيد رضا: نحن نعلم إجابتهم عندما يُسألون من أين جمع -عزراً-تلك الكتب بعد فقدها، وعلى أيِّ شيءً اعتمد في إصلاح أغلاطها؟ إنهم يقولون: كتب ما كتب بإلهام، فما دليل هذا الإلهام؟ وهل مع الإلهام يحتاج الكاتب إلى جمع ما بأيدي الناس الذين لا ثقة بنقولهم؟ وليته كتب الشريعة مجردة من الأخبار التاريخية التي انضمت إليها.
إن الأخبار التي حوتها هذه الأسفار، كانت الشاهد الأول على تسلل الكذب إليها من كل ناحية، أكان نوحٌ عليه السلام رجلاً يسكر حتى يفقد وعيه؟ أكان لوطاً رجلا يسكر حتى يزني بابنتيه في ليلتين متعاقبتين، لينجب من كل منهما أبناء وأحفاد؟ وإن جملة من المفتريات تملأ سِير المصطفين الأخيار من أنبياء الله، فهل هذا تأليف مقبول؟، وغير ذلك من الإفك والبهتان المبين.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022