الخميس

1446-06-25

|

2024-12-26

إضاءة في كتاب

القائد المجاهد نور الدين محمود زنكي شخصيته وعصره

بقلم: د. علي محمد الصَّلاَّبي


هذا الكتاب يتحدث عن البطل والمجاهد الإسلامي الكبير الملك العادل نور الدين محمود الزنكي؛ تبحر في سيرته، ودوره توحيد الكلمة، ونصرة الإسلام، وشعوره بالمسؤولية، وحرصه على تحرير البلاد من الصليبيين، وخوفه من محاسبة الله له، وشدة إيمانه بالله، وإيمانه باليوم الآخر، وقد كان هذا الإيمان سبباً في تحقيق التوازن العجيب في شخصيته، وتميزت شخصيته بمجموعة من الصفات الرفيعة، والأخلاق الحميدة، والتي ساعدته على تحقيق إنجازاته العظيمة؛ كلإيمان العميق، والعدل، ومخافة الله ومحبته، والزهد، والجدية، والذكاء المتوقد، والشعور بالمسؤولية، والقدرة على مواجهة المشاكل والأحداث، ونزعته للبناء والنهوض الحضاري، وحبه للجهاد، وسعيه لنيل الشهادة في سبيل الله.

وأشرت في الكتاب إلى أهم معالم التجديد والإصلاح في دولة نور الدين محمود، وكيف اِتخذ من عمر بن عبد العزيز نموذجاً يقتدي به في دولته، فقد اقتنع بأهمية التجارب الإصلاحية في تقوية وإثراء المشروع النهضوي. ولقد أتت معالم التجديد والإصلاح الراشدي في عهد عمر بن عبد العزيز ثمارها في الدولة الزنكية، وكانت أهم معالم التجديد في دولة نور الدين:

  1. الحرص على تطبيق الشريعة، وجعل من العقيدة الإسلامية العمود الفقري لدولته، واستفاد نور الدين من خريجي المدارس النظامية، وتبناهم في مدارس الدولة النورية، وفتح لهم الأبواب لدعم المذهب السني، ولم يفرق بين علماء الشافعية والأحناف والحنابلة والمالكية، وأهل الحديث وشيوخ التصوف السني، وغيرهم من أبناء الأمة، وتحرك معهم من خلال جبهة عريضة، تنضوي تحت راية أهل السنة والجماعة في مقاومة الأخطار الشيعية الرافضية، والأخطار الصليبية.  
  2.  ومن معالم التجديد في دولة نور الدين حرصه على إقامة العدل، فقد كان قدوة في عدله، أسر القلوب، وبهر العقول فقد كانت سياسته تقوم على العدل الشامل بين الناس.
  3. ومن معالم التجديد في دولة نور الدين اهتمامه بالعلماء، فقد فتح مؤسسات الدولة للاستفادة منهم، وقدمهم على الأمراء، وبذل لهم العطاء، وشجع المتميزين منهم إلى الهجرة لدولته، وقد شارك العلماء معه في الجهاد ضد الصليبيين بالكلمة والسيف، والتأليف والوعظ.

وقد طّور نور الدين النظام الإداري لدولته، وحرص على صبغته بالصبغة الإسلامية، واعتمد في إدارته للشورى، وقدم المصلحة العامة على الانفعالات، وكان مثال رائع في الزهد، والتعفف، وحرص على توفير الأمن للرعية، وضمن لهم الحريات العامة، كحرية الرأي، والمحافظة على كرامة وقيمة الفرد.

وفي الكتاب، أفردت مبحثاً عن النظام الاقتصادي، والخدمات الاجتماعية، فبينت مصادر دخل دولة نور الدين، كنظام الإقطاع الحربي، والزكاة والخراج والجزية، والغنائم، وفداء الأسرى، والأموال العظيمة التي خلفها أبوه عماد الدين، وأثر الأمانة الكبيرة التي تميز بها نور الدين، وحكومته الرشيدة على خزانة الدولة، وأثر الأمن والاستقرار على انتعاش الحركة التجارية، ومساهمة الأثرياء والمعاهدات والاتفاقات التي ألزم بها الخصوم لدفع أموال للدولة الزنكية، وتحدثت عن دعم الخليفة العباسي للدولة الزنكية، وأثر السياسة الزراعية والصناعية والتجارية في تقوية اقتصاد الدولة، واهتم نور الدين بالشرائع المنتجة كالفلاحين، وأصحاب الأموال كالتجار، وكان من سياسة نور الدين الاقتصادية إلغاء الضرائب، وكانت النتيجة الطبيعية لذلك أن نشط الناس للعمل، فأخرج التجار أموالهم، ومضوا يتاجرون، وجاءت الجبايات الشرعية بأضعاف ما كان يأتي سابقاً.

وسعى نور الدين محمود إلى تقديم أوسع الخدمات الاجتماعية لشعبه، وجعل مؤسسات الدولة أدوات صالحة في خدمة الناس، ابتداء من قضايا المسكن والملبس والمأكل، وانتهاء بقضايا الروح، ومروراً بالحاجات الفكرية، والصحية، والعمرانية، والإنتاجية وغير ذلك.

وفي الفصل الأخير من الكتاب، تحدثت عن سياسة نور الدين الخارجية، وتكلمت عن جهود نور الدين وأخيه سيف الدين في التصدي للحملة الصليبية الثانية، وحمايته لدمشق من الغزاة، وعن سياسته في ضم دمشق، وكيف تعامل مع القوى الإسلامية، والأسر الحاكمة في بلاد الشام والجزيرة والأناضول، وعن سياسته تجاه القوى المسيحية، وعلاقته مع مملكة بيت المقدس، وإمارة الرها، وأنطاكيا وطرابلس، وعن المعارك التي خاضها، والحصون التي فتحها، وعن علاقته بالإمبراطورية البيزنطية، واستخدامه لفقه السياسة الشرعية في زعزعة الحلف البيزنطي مع مملكة بيت المقدس وأنطاكيا ضده.

وقد تحدثت عن التفكير الإستراتيجي عند الملك القائد نور الدين، وأهمية منهجه الإصلاحي في نجاح المشروع المقاوم للتغلغل الباطني، والغزو الصليبي، وعن الإستراتيجية العسكرية لنور الدين، كالتركيز على النوعية والفاعلية، والتعبئة العامة للأمة، وإنهاك العدو، واستنزاف قوّاته، وتطبيق نور الدين لمبادئ الحرب الأساسية، ودور الاستخبارات، ومبدأ التقُّرب غير المباشر، واستخدامه للحرب النفسية في رفع معنويات أمته، وإضعاف همم أعدائها.

وأفردت المبحث الأخير عن فقه نور الدين في التعامل مع الدولة الفاطمية، فوضحت جذور الشيعة الإسماعيلية، ونشأة الدولة الفاطمية وتكلمت عن جرائمها في الغلو والتسلط والظلم، ودورهم في تعطيل الشرائع، وإسقاط الفرائض، وإزالة آثار خلفاء السنة، ودور المدارس النظامية في الإحياء السني، وتقليص المد الشيعي الرافضي، وإعداد الكوادر اللازمة لقيادة حركة المقاومة ضد الغزاة الصليبيين، وبينت جهود نور الدين السياسية والعسكرية والفكرية للقضاء على الدولة الفاطمية، وقد تّم ذلك على يدي قائده الناصر صلاح الدين الأيوبي، والذي تدرج في إلغاء الخلافة الفاطمية، وفق رؤية استراتيجية وضعها القاضي الفاضل بالتعاون مع القيادة النورية، وقد تّم بيانها في هذا الكتاب.

إن تجربة نور الدين محمود ثرية، وهي تجيب على الكثير من الأسئلة المطروحة على الساحة الوطنية، والإقليمية، والعالمية، وهذه التجربة تأتي شاهداً تاريخياً مقنعاً تماماً، كما كانت تجربة عمر بن عبد العزيز من قبله على إن الإسلام قادر في أية لحظة تتوفر فيها النية المخلصة، والإيمان الصادق، والالتزام المسؤول، والذكاء الواعي، على إعادة دوره الحضاري والقيادي، وإخراج الناس من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

هذا وقد كانت علاقتي الروحية مع نور الدين محمود منُذ كنت طالباً بالمدينة المنورة، حيث أنني كنت ممن تتلمذ على أشرطة الشيخ الدكتور سفر الحوالي (فرج الله عنه)، فتعلقت بسيرة هذا القائد الفذ، وقد حث الشيخ في محاضرته طلاب العلم والعلماء على كتابة سيرته، والبحث فيها، ومن هناك كانت نقطة البدايةن وفي إحدى زياراتي للمدينة النبوية بعد تخرجي زرت أستأذنا وشيخنا الدكتور يحي إبراهيم اليحي، وحدثني عن نور الدين محمود، وطلب مني أن أبحث في سيرته، وازددت قناعة بالموضوع إلا أن انشغالي بالسيرة النبوية، وتاريخ صدر الإسلام، ومرحلة الدراسات العليا، منعني من تحقيق هذا الهدف النبيل، الذي لم يغيب عن ذاكرتني، ووجداني، وأصبح من ضمن أهدافي الهامة في الحياة، ودخل في أورادي ودعواتي بأن يوفقني الله لتحقيقه، وعندما أقمت باليمن السعيد الحبيب، كان من ضمن شيوخي الذين طلبوا مني الكتابة في مرحلة الحروب الصليبية الشيخ الدكتور عبد الكريم زيدان، والذي استفدت منه كثيراً في عهد الخلافة الراشدة، ولا أنسى أبداً شيخي وأستاذي ياسين عبد العزيز اليماني الذي فتح لي بيته للحوار والنقاش، وفي زيارتي للشيخ الدكتور يوسف القرضاوي حثني على الكتابة في سيرة نور الدين محمود، وأما شيخي وصديقي الدكتور سلمان العودة، فقد قال لي: نادراً ما تتاح الفرصة للبحث في القضايا التاريخية مثل ما أتيحت لك، فعليك بالإخلاص لله، وأن تتقيه فيما تكتب، وعندما قرأ خطتي في إعادة كتابة التاريخ، شجعني على المضي فيها، وقد استفدت من حوراتي، ومناقشتي معه في الأمور التاريخية والفكرية، وكان يستقبلها بسعة صدر، وبكل إريحية، كعادة الشيخ مع طلابه، كما أن لأحداث العراق تأثيراً مباشراً على هذه الكتابات في تاريخنا الإسلامي، وهذا جهد مقل أساهم به مع إخواني في معركة المصير، مع الاعتراف بالتقصير في حقهم، ولهم مني الدعاء في ظهر الغيب بالسداد والتوفيق.

وقد انتهيت من هذا الكتاب يوم الأربعاء الساعة الثانية عشر، وثماني دقائق من تاريخ 20 شعبان 1427هـ الموافق لــ 13/ 09/2006، والفضل الله من قبل ومن بعد، وأساله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل عملي لوجهه خالصاً، ولعباده نافعاً.

 

كتاب القائد المجاهد نور الدين محمود زنكي شخصيته وعصره، متوفر على الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي على الرابط التالي:

http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/53


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022