إضاءة في كتاب سيرة السلطان محمد الفاتح وعوامل النهوض في عصره
بقلم: د. علي محمد الصَّلاَّبي
عندما ظهر كتاب «الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط» في معارض الكتب الدولية كان إقبال الناس عليه كبيراً، وقد جاءتني ملاحظات كثيرة عن الكتاب، وكان مجموعة من القُراء من أماكن متعددة قد اتفقوا على ضرورة إفراد محمد الفاتح بكتاب مستقل، ووجدت هذه الفكرة قبولاً عند الناشر، فشرعنا في تنفيذ الفكرة، فإن بارك الله في العمر والوقت وسهل السبل، فبإذن الله تعالى سيلحق هذه الدراسة في أبحاث على نفس المنهج لإحياء بعض سير أبطال الأمة الذين كان لهم تأثير في تاريخنا المجيد.
إن هذا الكتاب يتحدث عن محمد الفاتح، فاتح القسطنطينية، وقاهر الروم، وعن أجداده العظام الذين عاشوا بالإسلام، وماتوا في سبيل إعلاء كلمة الله؛ يتحدث عنهم حديثاً مُنصفاً مبنياً على الحقائق والوثائق التاريخية، فيبين للقارىء الكريم سيرة عثمان الأول، وأورخان ومراد الأول، وبايزيد الأول، ومحمد جلبي، ومراد الثاني، ومحمد الفاتح، ويوضح صفاتهم والمنهج الذين ساروا عليه، وكيف تعاملوا مع سنن الله في بناء الدولة كسنة التدرج، وسنة الأخذ بالأسباب، وسنة تغيير النفوس، وسنة التدافع، وسنة الابتلاء، وكيف حقق القادة الأوائل شروط التمكين، وكيف أخذوا بأسبابه المادية والمعنوية؟
وما هي المراحل التي مرت بها الدولة؟ وكيف كان فتح القسطنطينية نتيجة لجهود تراكمية شارك فيها العلماء والفقهاء والقادة والجنود على مر العصور، وكر الدهون، وتوالي الأزمان؟ ويبين للقارىء الكريم أن النهوض العثماني في عصر السلطان محمد الفاتح كان شاملاً في كافة المجالات العلمية والسياسية والاقتصادية والإعلامية والحربية، وإن للتمكين صفات، لابد من توافرها في القادة وبفقدها بفقد التمكين.
قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأِوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ*﴾ [يوسف]
إن هذا الكتاب يقف بالقارىء على بعض سنن الله في المجتمعات والأمم والشعوب وبناء الدول، ويوضح أثر تحكيم شرع الله تعالى على الدولة العثمانية في زمن السلطان محمد الفاتح ويدعو القارىء الكريم للتأمل في كتاب الله وسنة رسوله (ﷺ) ليفهم فقه إحياء الشعوب وبناء الدول حتى يكسب العبد معرفة أصيلة بأثر سنن الله في الأنفس والكون والافاق، وكتاب الله تعالى مليء بسننه وقوانينه المبثوثة في المجتمعات والدول والشعوب، قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ *﴾ [النساء: 26].
وقد أرشدنا كتاب الله تعالى إلى تتبع اثار السنن في الأمكنة بالسعي والسير، وفي الأزمنة من التاريخ والسير، قال تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 137-138].
ولقد ركزت في هذه الدراسة على آثار تحكيم شرع الله تعالى زمن السلطان محمد الفاتح، فبينت تلك الآثار، كالاستخلاف والتمكين، والأمن والاستقرار، والنصر والفتح، والعز والشرف، وانتشار الفضائل وانزواء الرذائل، وتحدثت عن صفات محمد الفاتح وعن أعماله الحضارية، وتطرقت لوصيته لابنه وهو على فراش الموت، والتي تعبر أصدق التعبير عن منهجه في الحياة وقيمه ومبادئه التي امن بها والتي يتمنى من خلفائه من بعده أن يسيروا عليها، فشرحتها وبينت أصولها وقواعدها وأيقنت بأن قادة الأمة وزعماءها في أشد الحاجة لدراستها وفهمها وتطبيقها. وتعرضت للشبهات التي ألصقت بمحمد الفاتح كالتي افتراها المؤرخ الإنجليزي «إدوارد شيبرد كريسي» في كتابه «تاريخ العثمانيين الأتراك» وحاول أن يشوه صورة الفتح العثماني للقسطنطينية ووصف السلطان محمد الفاتح بصفات قبيحة حقداً منه وبغضاً للفتح الإسلامي المجيد، وسارت الموسوعة الأمريكية المطبوعة في عام 1980م في حمأة الحقد الصليبي ضد الإسلام، فزعمت أن السلطان محمد قام باسترقاق غالبية نصارى القسطنطينة، وساقهم إلى أسواق الرقيق في مدينة أدرنة حيث تم بيعهم هناك، فنفيت هذه الشبهات من جذورها وأقمت الحجج القاطعة والبراهين الساطعة على الحقائق التاريخية الناصعة التي تبين أن السلطان محمد عامل أهل القسطنطينية معاملة رحيمة، وأمر جنوده بحسن معاملة الأسرى والرفق بهم، وافتدى عدداً كبيراً من الأسرى من ماله الخاص، واجتمع مع الأساقفة وهدأ من روعهم وأمنهم على عقائدهم وشرائعهم وبيوت عبادتهم، وبينت أن السلطان محمد الفاتح لم يظهر ما أظهره من التسامح مع نصارى القسطنطينية إلا بدافع التزامه الصادق بالإسلام العظيم، وتأسياً بالنبي الكريم (ﷺ) ثم بخلفائه الراشدين من بعده في معاملتهم لأهل الذمة الذين امتلأت صحائف تاريخهم بمواقف التسامح الكريم مع أعدائهم.
يهتم الكتاب بسيرة السلطان محمد الفاتح وعوامل النهوض في عصره. وقد تعرض بعض المثقفين ممن تأثروا بالمناهج الغربية في كتابة التاريخ لما كتبت في سلسلة صفحات من التاريخ الإسلامي في الشمال الأفريقي بالنقد وقالوا: ما دخل العقائد في التاريخ؟ وما علاقة صفات القادة بالتاريخ؟ وما علاقة تحكيم الشرع بالتاريخ؟.
وأقول وبالله التوفيق، إن منهج كتابة التاريخ الإسلامي، وتفسير حوادثه يعتمد في أصوله على التطور الإسلامي، ويجعل العقيدة الإسلامية ومقتضياتها هي الأساس في منطلقاتها المنهجية، وفي تفسير حوادثه والحكم عليها، ويعلل ذلك الدكتور أكرم ضياء العمري بقوله: إلا أن التفسير الإسلامي للتاريخ منبثق في تصور الإسلام للكون والحياة والإنسان، فهو يقوم على الإيمان بالله تعالى، وكتبه ورسله، وباليوم الاخر، وبالقدر خيره وشره من الله تعالى، فهو لا يخرج عن دائرة المعتقدات الإسلامية كما أنه مبني على دوافع السلوك في المجتمع الإسلامي الأول مما يجعل حركة التاريخ الإسلامي ذات طابع متميز عن حركة التاريخ الإسلامي العالمي لأثر الوحي الإلهي فيه.
إن المنهج الذي سِرْت عليه في الدارسات التاريخية هو المنهج القرآني في عرض القصص، ولذلك اهتممت بإبراز صفات القادة والمسائل العقدية والأصول التي تقوم عليها الدول وتحيا بها الشعوب، ولنضرب على ذلك مثلاً من القرآن الكريم في ذكر نبي الله داود عليه السلام.
هذا وقد جاءتني بعض الانتقادات العلمية من بعض الباحثين، وقد استفدت منها فلهم مني الشكر والدعاء في ظهر الغيب والتوفيق والسداد، وأن يوفنا جميعاً لخدمة ديننا وعقيدتنا وتاريخ أمتنا المجيد.
وقد قمت بتقسيم الكتاب إلى تمهيدين وفصلين، والخلاصة:
الفصل الأول: قيام الدولة العثمانية وفتوحاتها:
ويشتمل على ستة مباحث:
- المبحث الأول: عثمان مؤسس الدولة العثمانية.
- المبحث الثاني: السلطان أروخان بن عثمان.
- المبحث الثالث: السلطان مراد.
- المبحث الرابع: السلطان بايزيد الأول.
- المبحث الخامس: السلطان محمد الأول.
- المبحث السادس: مراد الثاني.
الفصل الثاني: محمد الفاتح وفتح القسطنطينية:
ويشتمل على سبعة مباحث:
- المبحث الأول: السلطان محمد الفاتح.
- المبحث الثاني: الفاتح المعنوي للقسطنطينية الشيخ شمس الدين اق محمد بن حمزة.
- المبحث الثالث: أثر فتح القسطنطينية على العالم الأوربي والإسلامي.
- المبحث الرابع: أسباب فتح القسطنطينية.
- المبحث الخامس: أهم صفات محمد الفاتح.
- المبحث السادس: بعض من أعماله الحضارية.
- المبحث السابع: وصية السلطان محمد الفاتح لابنه، ثم الخلاصة.
وأخيراً أرجو من الله تعالى أن يكون عملاً خالصاً لوجهه الكريم وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي وأن يثيب إخواني الذين أعانوني بكافة ما يملكون من أجل إتمام هذا الكتاب.
تجدون: كتاب سيرة السلطان محمد الفاتح وعوامل النهوض في عصره، متوفر على الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي على الرابط التالي:
http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/47